الحلفاء بعد الحرب يقتسمون الغنيمة
حيلة الانتداب
إن الأقوام المعلومة في المادة ٢٢ من عهد العصبة التي كانت من قبل في الحكم التركي وقد بلغت من الارتقاء مستوى يستطاع عنده الاعتراف بكيانها أممًا مستقلة استقلالًا معلقًا، عليها أن تتلقى المشورة والمساعدة الإدارية من دولة منتدَبة حتى يأتي يوم تصبح فيه هذه الأقوام قادرة على السير بنفسها فيُطلق حبلها إذ ذاك على غاربها. مثل كلام كرومر!
وكانت المعاهدات السرية قد نُشرت وقرأها العرب وغير العرب وعلموا علمًا مكينًا أنه يجب عليهم الاعتماد على نفوسهم وقوة مواهبهم ومساعيهم وجهودهم، ومع ذلك فلم يثوروا ولم يجردوا في وجوه الذين خانوهم وغدروا بهم أقبح غدر سيفًا ولا رمحًا من تلك السيوف والرماح التي جردوها في وجه الأتراك من ١٩٠٥ إلى سنة ١٩١٨!
والعجيب أن الأمير «ص» ظل يؤثر المساعي السلمية على التهور في الحرب ولو لإظهار طرف من نخوة العرب وشممهم وعلو همهم وغضبهم للغدر واحتجاجهم على تلك الطعنة النجلاء التي جاءتهم من الوراء!
والأنكى من هذا كله هو أن العرب الكرام لم يغضبوا، ولكن فرنسا التي أخذت نصف الغنيمة غضبت شأن اللصوص عند اقتسام الغنيمة! وقديمًا جاء في الأمثال «اختصم اللصوص فظهر المسروق»، وفي هذه المرة صار المثل صادقًا بالانعكاس: «ظهر المسروق فاختصم اللصوص.»
وقام رجال سياستهم يشنون الغارة ويدَّعون أنهم غُبِنُوا غُبنًا شديدًا، وأنهم كانوا يطمعون في الموصل بآبار زيته الغنية التي وقعت غنيمة باردة لإنجلترا (وخط أنابيب زيت الموصل هو الذي خلق فكرة الحلف العربي الجديد)، وصرح مسيو ليج في مجلس نواب فرنسا ١٩١٥ بأن فرنسا لها حقوق في الشرق ترجع إلى عهد الصليبيين وإلى الملك شارلمان! وأن محور السياسة الفرنسية هو في البحر الأبيض المتوسط قطبه الواحد في المغرب المشتمل على الجزائر وتونس ومراكش، وقطبه الآخر في المشرق المشتمل على سورية ولبنان وفلسطين!
وبعد أن هبطت هذه الزوبعة عامًا نقارض فيها الإنجليز والفرنسويون القذف والطعن والتعيير بالطمع والجشع في بلاد الناس (!) وغبن الدول المحالفة (!) اصطلحوا في مدينة سان ريمو على اقتسام الغنيمة اقتسامًا رسميًّا، وسيَّروا الجيوش الجرارة إلى سورية والعراق، ودعوا الخواجا فنزيلوس لمشاركتهم في احتلال القسطنطينية وإعداد حملة للفتك بمصطفى كمال في الأناضول لاقتسام آسيا الصغرى، لتدفع البقية الباقية من الدولة العثمانية ثمن الصلح وقيمة الخمور التي شُربت على موائد سان ريمو.
وكان أقصى ما قدر عليه العرب أنهم أعلنوا بالاتفاق استقلال سورية وملَّكوا عليهم فيصلًا، وكان الفرنسويون قد ساقوا فلول جيوشهم وعددها ١٠٠٠٠٠ إلى سورية بقيادة الجنرال غورو المبتور الذراع، وفي ١٥ يوليو سنة ١٩٢٠ (صبيحة عيد الحرية الفرنسوي) أرسل غورو إلى فيصل بلاغًا أخيرًا وهاجمه بجيش قوامه ستون ألفًا فلم يحاول فيصل مقاومة حقيقية بل قاتل قتالًا طفيفًا بعد أوانه وانسحب إلى الصحراء. وقامت في العراق فتنة تعب الإنجليز في إخمادها واحتل الحلفاء دار السلام وعاصمة الإسلام، وقد روى لي أحد المصريين أنه سمع من رجلٍ تركي أثناء الحرب أن «الحلفاء لن يتمكنوا من عاصمتنا بالقتال، ولكنهم سيدخلونها بعد الحرب بغير سلاح.» وقد صحت كهانته وفشلوا في غاليبولي ثم احتلوا بالحيلة.
الترك لم يظلموا العرب بإقرار الأمير شكيب
وكانت الحرب هذه المرة بين الترك والعرب، فإنهم أخذوا سورية ثم العراق وكلفوا فنزيلوس بالقضاء على الأناضول وجهزته إنجلترا بالمال والسلاح، فأعد جيشًا صليبيًّا قوامه ١٠٠٠٠٠ مقاتل، ولما فشل اليونان في أول الأمر طردوا فنزيلوس وأعادوا ملكهم قسطنطين إلى العرش، فاستمرت الحرب ومن ورائها إنجلترا فهزمهم الترك شر هزيمة وأُلقي بمعظمهم في البحر وأُسر قوادهم، وفي اليوم الذي تمت فيه هزيمة اليونان (سبتمبر ١٩٢٢) سقط لويد جورج وحكومته، وباء الحلفاء بالخسران وسقطوا دون أمنيتهم التي حسبوها من الهنات الهينات، وعاد شيء من الوفاق بين العرب والترك بعد أن ظهر للعرب نتيجة خديعتهم وتعضيدهم للحلفاء، ولكن بعد فوات الفرصة.
إن العرب قد ثاروا في وجه الترك خلال الحرب العظمى ليس لأن الحكومة التركية كانت فاسدة فسادًا شديدًا، بل لأنهم ابتغوا نيل الحرية وراموا إدراك الاستقلال، فلم يخوضوا غمار المعمعة لكي يستبدلوا سادةً بسادة كأن يخضعوا لبريطانيا أو فرنسا، كلا! بل لكي ينشئوا دولة عربية.
والحقيقة أن كل ما كان يُذاع عن ظلم الترك للعرب كان مدسوسًا ومصطنعًا لصالح المستعمرين، ونحن لا نقول مع بعض القائلين إن كنتُ مأكولًا فكن أنت آكلي ولا إن استبداد الترك أرحم من عدل الأجانب، حاشا! ولكن التاريخ والحوادث المستقبلة أثبتت أن العرب كانوا مخدوعين، فإنه ليس من مملكة احتلها الأوروبيون بعد الحرب العامة في الشرق الأدنى وأتوا فيه بإدارة تفوق الإدارة العثمانية التي كانت قبل الحرب، بل أتوا فيه بإدارة تترقى إلى درجة محاكاة الإدارة العثمانية التي وإن لم تكن المثل الأعلى فقد ثبت عند الجميع أنها كانت أعدل وأحكم وأعف وأضبط من إدارة الحلفاء في البلدان التي جاءوا لتنظيم أمورها بزعمهم، فخدموا الأتراك بإدارتهم هذه أجل خدمة من حيث لا يشعرون. (ص١٨٥ حاضر الإسلام).
أما ما حدث بعد ذلك في سورية وحرب الدروز وتخريب دمشق وجميع الحواضر السورية، فلا يزال حاضرًا في الأذهان ولا يزال أبطال الحرية السورية مشتَّتين في الأقطار، ومنهم الدكتور عبد الرحمن شهبندر الذي يقطن القاهرة وكثيرون من الذين حُكم عليهم بالإعدام من السلطة الفرنسوية. ولا يزال زعماء الدروز منفيين بإرادتهم في الصحراء، وبينهم البطل الأعظم سلطان باشا الأطرش، يكابدون أنواع المشقات في العيش بعيدين عن وطنهم في سبيل مبادئهم، وهم على أشد أنواع التعب والشِّقْوَة يتقوَّتُون من محصول الأرض ويستمدون المعونة من المهاجرين في أمريكا ومصر. وقد أظهر البطل الضرغام سلطان باشا من ضروب الشجاعة والاستبسال في حرب الفرنسويين ومهاجمة دباباتهم والقضاء على جيوشهم الجرارة ما جعل اسمه في بضع سنين قرين أسماء عبد القادر الجزائري والأمير عبد الكريم.
أما في العراق فقد أقر كولونيل لورنس في بيان نشره في أغسطس سنة ١٩٢٠ بما يأتي: «لقد غدونا على مقربةٍ من الداهية الدهماء، وصارت حكومتنا أسوأ وشرًّا من الحكومة التركية البائدة، فإن الترك قد استطاعوا أن يحكموا في البلاد ويوطِّدوا الأحكام بأربعة عشر ألف جندي من أهل البلاد وبقتل مائتي عربي كل سنة (في مناوشات)، أما نحن (الإنجليز) فإننا نحفظ جيشًا عدده تسعون ألف مقاتل تامَّ العدة مجهزًا بالطائرات الحربية والدبابات المسلحة والسفن الحربية والقُطُر المصفحة وقد قتلنا نحوًا من عشرة آلاف عربي في ثورة هذا الصيف (مثل من كان الترك يقتلون في خمسين عامًا)».
وقد حدث للأمير فيصل أنه بعد أن خُلع عن عرش سوريا قَصَد سويسرا حيث أقام وقتًا طرق فيه أبواب عصبة الأمم فلم يجد مجيبًا، فأرسل الرسل إلى لندن وباريس فأغلقوا الأبواب في وجوههم، وكشَّرت جماعة دوننج ستريت والفورين أوفيس وكي دورسي عن أنيابها ورمته بخيانة قضية الحلفاء إذ قبل عرش سورية وإعلان استقلالها وهو يعلم أنها أرض فرنسوية، ولم يذكروا شيئًا من غدرهم وخيانتهم. وبعد أن قضى الأمير نحو عامين وهو في حيرة المخلوع المقصيِّ عن ملكه وتحقق لديه أنه ربما يعود إلى مكة بيدٍ فارغة والأخرى لا شيء فيها، عاد فطرق أبواب الساسة مرة أخرى فلم يشأ كلمنصو لقاءه، وكذلك لما علم لويد جورج بوجوده في لندن ورغبته في لقائه بان واحتجب وادعى الغضب ثم سمح له باللقاء، وعيَّنوه على مضض منهم ملكًا على العراق، طمعًا في أن يكون تعيينه وسيلة لتهدئة الخواطر لا سيما وأن لويد جورج كان ألقى خطابًا في ١٩ سبتمبر سنة ١٩١٩ إبان انتشار الثورة المصرية جاء فيه أن «العرب قد وَفَّوْا حقًّا بعهودهم وبَرُّوا بوعودهم لبريطانيا العظمى، فيجب علينا إذن أن نقابل الإحسان بمثله فنَفِي بعهودنا ونَبَرَّ بوعودنا لهم.»
وقد عيَّنوه ملكًا تابعًا للانتداب البريطاني طبعًا، وأوفدوا إليه مندوبًا ساميًا إنجليزيًّا وسيدة أخرى اسمها ميس بيل — توفيت منذ بضع سنين — وكانوا يسمونها «أفعى العراق» لأنها كانت العقل المفكر واليد المنفذة. وكان ارتقاؤه العرش من حظ العراق.
وما زالت القلاقل قائمة قاعدة والوزارات ناهضة ساقطة حتى يومنا هذا، وقد تخلل ذلك ثورات ومحاكمات، ومن أفجع ما جرى في العراق انتحار رئيس الوزارة السابق السعدون، الذي قتل نفسه وترك مكتوبًا يشرح فيه السبب وهو عجزه عن التوفيق بين الإنجليز والملك ورغبات الشعب العراقي وضميره، ويوصي ولده بالإخلاص للعرش، «ويسرنا أن العراق دخلت عصبة الأمم ونَجَت بهمة ملكها من الانتداب.»
نجاة العراق على يد الأمير فيصل
وبعد أن عُيِّن الملك فيصل على عرش العراق ونُودي بأبيه الحسين ملكًا على الحجاز وبأخيه الأمير عبد الله أميرًا على شرق الأردن؛ نهض ابن سعود وهو الملك الوهابي الوحيد في الجزيرة العربية في سنة ١٩٢٥ وحارب الحجاز واحتل مدائنه واحدة إثر أخرى، وفر ملك الحجاز الشيخ إلى شرقيِّ الأردن بعد أن تنازل عن الملك لولده الأمير علي، فظهر في الحجاز حزب وطني وتحصن الأمير علي في مكة وجدة، ولكن لم يلبث أن عجز عن المقاومة ودخل ابن سعود ظافرًا إلى المدينة المقدسة، ولحق الملك عليٌّ بأبيه ثم لجأ إلى أخيه فيصل. أما الملك الشيخ وكانوا يطلقون عليه في جريدة القبلة التي كان يحررها وينشئ مقالاتها لقب «المنقذ الأعظم»، فقد أخذه الإنجليز معززًا مكرمًا إلى قبرص حيث بقي بضع سنين يشكو الفقر في الصحف ليكذِّب ما ذاع عنه من أنه نقل معه مئات ألوف الجنيهات في أوانٍ مختومة من المعدن.
وفي آخر سنة ١٩٣٠ ذاع نبأ وفاته فسافر أولاده على عجل إلى قبرص وعادوا به للاستشفاء في جو بلاده، وقد أقام في شرق الأردن في ضيافة أحد أولاده حتى توفي إلى رحمة الله وقد صار اثنان من أبنائه ملوكًا وثالثهم أميرًا في عمان.
وهكذا انتهى الحلم العربي الذي بدأ بجمعية باريس في سنة ١٨٩٥ وانتهى باستيلاء الأوروبيين على ميراث العباسيين والأمويين وخراب تركيا … وهم الآن يريدون الاستيلاء على موطن الإسلام ومدنه المقدسة، فكانت الخطوة الأولى وربما الأخيرة أيضًا فكرة الحلف العربي الذي يلوحون به للعرب كلما أرادوا أمرًا جديدًا.
ولكنهم في هذه المرة لا يدَّعون أنهم سيؤسسون دولة عربية عظمى، لأن مواد البناء قد استولوا عليها ولا توجد ممالك «للإيجار» يخدعون بها البقية الباقية من العرب الأحرار، فهم يقولون لهم حذارِ من دولة أجنبية مهاجمة تعد العدد للاستيلاء عليكم من الجنوب فاتحدوا وتحالفوا لتشدوا أزرنا في الملحمة وتمكنونا من الدفاع عنكم عند اللزوم، أما حماية الخطوط الحديدية وأنابيب الزيت فهي شيء ثانوي.
ولَعَمْرُ الحق، إن هذه حيلة لا تنطلي، والعاقل العربي هو الذي أصبح لا يصدق هذه الوعود ولا يهمه إن كان الفاتح هو إنجلترا أو إيطاليا، إذا وجب عليه محاربة الجميع وعدم الاطمئنان لأحدٍ منهم.
فنحن نحب الأمير شكيبًا ونحترمه ونثق بإخلاصه وصدقه وتفانيه في خدمة العرب والإسلام، ولكن أليس لنا من هذا الماضي كله وازع وواعظ؟ ولماذا تكون لرجال مثله يد في تشجيع هذا الحلف أو غيره وقد ندب نفسه لخدمة الشرق والإسلام عامةً؟ هل ضمن صدق الإنجليز حتى يخاطر بالمجاهرة بتعضيد مشروع هو من بنات أفكارهم وهم من ورائه جادون ساعون؟ وإذا انقلب هذا الحلف وظهر بحقيقته وهي دسيسة جديدة للاستيلاء على جزيرة العرب والقضاء على ابن سعود أولًا وعلى الإمام يحيى ثانيًا، فماذا يكون العمل؟ … إن التحذير في كل حالٍ أفضل وآمن عاقبة.
إنني أفضل أن أموت في محاربة خصمي مهما كان قويًّا على أن أضع يدي في يده ليرغمني بعد ذلك على أن أقضي على نفسي بيدي. وعلى هذا فنحن لا نحبذ الحلف العربي، ولا نفهم هذه الأشياء قبل استقلال كل دولة استقلالًا تامًّا في الداخل والخارج.