نظرة عامة وخلاصة رأي المؤلف
يقوم بعض فضلاء المسلمين المحبين للإصلاح في بعض ممالك أوروبا بنشر كتب ومجلات وصحف باللغات الأوروبية وينفقون عليها من أموالهم ويقفون عليها أعمارهم الغالية ووقتهم النفيس، ويبذلون علمهم ومعرفتهم وأدبهم في سبيل الدعوة للإسلام والشرق، وهو عمل محمود في ذاته من حيث فيه رغبة في تنوير الأمم الأوروبية في أحوال الشرق الإسلامي ورفع الغشاوة عن أبصارهم، مع أن الشرق لا ينهض إلا بجهوده.
وهذه فكرة أو نوع من الجهاد قد فات أوانه وأصبح عملًا غير مُجدٍ في حالة العالم الحاضرة، لأن الخير والمجد والقوة لا تأتي من الخارج.
فقد كانت الفكرة الشائعة في القرن التاسع عشر بخصوص استعمار أوروبا أن الاعتداء الواقع على الشرق الإسلامي وغيره إنما هو فعل الحكومات الأوروبية وأن تلك الحكومات تعمل مستقلة عن شعوبها، وأنه إذا علمت الشعوب بحقيقة الأمور في الشرق فإنها تغضب وتَحْنَق على حكوماتها وتَهُزُّها النخوة الإنسانية فتقف عثرة في سبيل مضي تلك الحكومات في سبيل استعمار الشرق وإرهاقه. ولذا كانت دعوتنا موجهة إلى الأحرار من أهل تلك البلاد، ظنًّا منا أن التقسيم السياسي الذي يبدو في مجالسها النيابية وينعكس في صحفهم هو شامل أيضًا لسياستهم الخارجية، وتوهمًا من زعمائنا أن أوروبا منصفة وعادلة!
ولذا بدأ المرحوم مصطفى كامل أعماله السياسية في فرنسا بالخطابة في المنتديات الأوروبية وقدم صورة لمجلس النواب الفرنسي تمثل أسر مصر وتضوُّرَها ألمًا من ظلم الاحتلال، وأنها في بلواها ملتجئة لفرنسا، وشَفَع تلك الصورة المؤثرة بعريضة تشمل مطالب المصريين وأمانيهم، ولو اطَّلع على المعاهدات السرية لعدل عن ذلك.
وقد دامت هذه الفكرة في نفس المجاهد الشاب وكل من التفوا حوله حتى كانت سنة ١٩٠٤، فاتحدت فرنسا وإنجلترا واتفقتا على تسوية مسائل الشرق الأقصى والأدنى فذهبت آمالنا في فرنسا أدراج الرياح. وما زال الأحرار في أوروبا يتقربون إلى المجاهدين منا ويظهرون رغبتهم في خدمة مسألتنا ونحن نصدقهم ونظن أنهم جادون، والحقيقة أنهم كانوا يتخذون من المسألة المصرية سلاحًا لمحاربة حكوماتهم، حتى إذا تولى الأحرار الحكم كما حدث في سنة ١٩٠٥ بعد سقوط وزارة بلفور المحافظة لم تكن حكومتهم أرحم بنا من سابقتها، بل إن حادثة دنشواي الفظيعة المَهُولة حدثت في يونيو سنة ١٩٠٦ بعد أن مضى على حكم الأحرار في إنجلترا سبعة أشهر. وأخيرًا لجأنا إلى العمال، وخطب زعيمهم كيرهاردي في مؤتمر جنيف سنة ١٩٠٩ خطبة رسمية أيد فيها سياسة اللورد كرومر واستشهد بنبذ طويلة من تقاريره.
ولما أن احتككنا بتلك الشعوب بنفسنا وجدنا أنهم يعلمون من شئون الشرق والإسلام ما لا نعلم، وأنهم كلهم متفقون على أكلنا وهضمنا ولا فرق في ذلك بين محافظ وحر وعامل، وأن أفراد الشعب أنفسهم ليسوا في حاجة إلى التنوُّر، وأنهم موافقون لحكوماتهم في ابتلاعنا، لأن المسألة اقتصادية وهم يرغبون في الحصول على ثروة الشرق.
ولم يكن علماؤهم بأقل من ساستهم جشعًا وطمعًا، فقد حدث في سنة ١٩١٠ أن أحد إخواني كتب في جريدة اللواء مقالًا يثني فيه على شاب جزائري اسمه ابن علي فخار كان دكتورًا في الحقوق، وأشار صاحبي من طرفٍ خفي إلى حالة الجزائر وبؤسها وجهلها وضياع حقوقها؛ فدب الرعب الشديد في قلب فخار هذا لأنه كان يعمل موظفًا في بلدية ليون، وهرول إلى أحد أساتذة الحقوق في الجامعة وهو من أساطين الأحرار الذين دافعوا عن مصر وضحَّوْا بمراكزهم في سبيلها وفي سبيل كرامته، وشكا له الكاتبَ وكان جديرًا بشكره أو تنبيهه بلطف، فأنحى الأستاذ الفرنسي العالم على صاحبي باللائمة وأنَّبه وعنَّفه وقال له: «إن كنت يا صاحبي تحب أن تستبقي صداقتي فاترك لنا شمال أفريقيتنا ودافع عن مصرك ما بدا لك، اترك لنا تُونُسنا وجزائرنا واقْصِر همك على وطنك، فليس بينكم وبين الجزائر رابطة!»
وعبثًا حاول صاحبي أن يُفهم الأستاذ أنه لم ينلْ شمال أفريقيا بسوء وأنه لم يهاجم الحكم الفرنسي، ولم يفهم كيف يحب أستاذه الحرية لمصر والعبودية للجزائر!
أرجوك أن تترك تونس جانبًا، فإنني أفكر في أن أرحل إليها لأقضي البقية الباقية من عمري بعد إحالتي على المعاش؛ لأن لي فيها قطعة أرض وبيتًا صغيرًا.
فهذا الأستاذ الجليل صاحب المؤلفات الكبيرة والمباحث الواسعة وتلميذ ليون بورجواه الذي يرمي إلى تحرير العمال والتخفيف عنهم؛ يريد بقاء أمة في قيود الأسر لأنه ينوي أن يقضي إجازة آخر العمر في أرضها! وكان الأفضل له أن يختم حياته المباركة في نيس مونتكارلو، وكان وهي بحكم مناخها أفضل له من مناخ أفريقيا.
ولكنه في فرنسا يعيش كبقية الناس وإنما في أفريقيا يعيش عيشة السيد الآمر الناهي.
وهكذا قل عن الإنجليز في الهند وغيرها من بلاد الشرق الإسلامي وغير الإسلامي، فهم يعلمون حضارتهم الماضية ويعلمون المظالم الواقعة عليهم حالًا ولكنهم لا يحركون ساكنًا لأنهم يريدون الاستعمار والاستغلال فقط.
قل لي بربك من يعرف عن الإسلام والمسلمين عُشر معشار ما يعرفه نولدكه وهيرجرونيه وويلهاوزن وكيتاني ومرغليوث وبرتلميه سانت هيلير وأرنست رينان وهيوار وسنتلانا ونلينو وبالمر وعشرات مثلهم ممن أتقنوا العربية وعلوم الفقه وقرءوا القرآن وتبحروا في الأدب والتاريخ العربي … وكانوا عند اللزوم أدوات للاستعمار الأوروبي في بلاد الشرق، فظهر أن علمهم كان سلاحًا لمحاربة الشرق والإسلام. وهم قبل أن يعملوا للاستعمار نشروا ضد الإسلام دعاية من أقسى ما نُشر في العالم، ما عدا نفرًا منهم تنزَّهت نفوسهم وأقلامهم عن الأذى أمثال المرحوم إدوارد براون ولذا كان مبغوضًا من قومه غير موموق بعين الاعتبار، على أن مثله قد كان يخدم الإنسانية بالتوفيق بين الشرق والغرب.
وقد روى فاضل تونسي أنه عندما نالت بلاد تونس نظامها النيابي الأول انتحل أحد الفرنسويين الإسلام وأخذ ينشر بين المسلمين آراء ضد الدستور ويخدعهم بأن نظام البرلمان نظام مخالف للإسلام، وأنه ثمرة من ثمار الكفار، وأنه اعتراض على إرادة الله، لأن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر والبرلمان أو النظام النيابي يأمر بمخالفة ولي الأمر ومحاسبته … وظاهرٌ ما في قوله من المغالطة المقصودة.
وأسلم فرنسي آخر واتخذ لنفسه اسم سيدي عمر، وكان يغشى مجالس الأشراف في بعض المدن المحصنة، فلما دخلت فرنسا تونس ظهر في ثوبه الرسمي فإذا هو رئيس أركان حرب الجيش المهاجم، وقد وضع خطة الحرب كلها ورسم الخرائط المطلوبة في الفترة التي كان فيها منتحلًا الإسلام. وكان كلا هذين الفرنسويين يتقنان العربية ويتقنان الصلاة!
فنحن فريسة للأمم الأوروبية التي تحاربنا حروبًا ظاهرة وحروبًا باطنة، وتستعمل كل سلاح في هلاكنا ولا تراعي في ذلك ضميرًا ولا شرفًا ولا ذمةً ولا إلًّا.
وقد قال أحد المصلحين وهو يتألم: إن بعض المسلمين قد أصابهم العمى إلى درجة غريبة، فإن خطباء المساجد كانوا إلى عهدٍ قريب يخطبون ويقولون: «اللهم اجعل بلادهم وأموالهم ونساءهم وأولادهم حلالًا لنا أو ملكًا لنا، اللهم انصر … اللهم اخذل …»
وكانت قد مضت أجيال والآية معكوسة، فكانت بلاد المسلمين وأموال المسلمين وثروة المسلمين وكنوزهم حلالًا للأوروبيين، وكأن الدعاء كان معكوسًا فكانت الإجابة سلبية أيضًا، فكان النصر للغرب والانكسار للشرق وكانت السيادة لأوروبا والهزيمة والعبودية للعرب والمسلمين، وطالما دعونا أوروبا للوفاق والوئام ولا نزال ندعوها.
وهكذا ما زلنا نحن نتعلق بالقشور ونتمسك بالشكل وغيرنا يهتم باللُّب ويكترث للجوهر، ولو أن أوروبا صافحتنا لمددنا لها يد المحبة.
وقد جعلوا بلادنا ميادين لتجاربهم وهم آمنون، فقد جرب الفرنسيون أنواعًا من الحكم في مستعمراتهم الشرقية فقد حكموا الجزائر حكم الجبروت وأخذوها بالشدة ولم يأمنوا جانبها مطلقًا على قلة عدد أهل الجزائر، لأنهم وجدوا مقاومة وعنفًا وحربًا. وقد فنيت جيوش فرنسوية بأسرها في تلك البلاد، ولم تكن فرنسا بعدُ قد امتلكت شيئًا من مستعمرات أفريقيا لتجند رجالها في محاربة الجزائر فأهرقت دماء أبنائها في سبيلها.
وكانت فرنسا تنسج على منوال الأمم الأوروبية في الشرق، ولكن عندما احتلت فرنسا تونس لم تشأ أن تطبق فيها سياسة العنف وأبقت القديم على قدمه لما أَنِسته من ليونة عريكة بعض الحكام والمحكومين في ذلك القطر الغني الميال بفطرته للسكون والدَّعَة، فلم تبذل دماء أبنائها ولم تخسر الأموال الطائلة. وكانت طريقة الفتح التونسي على وتيرة الاحتلال الأوروبي الحديث في الشرق، فبقيت الحكومة الوطنية على حالها وحكمت فرنسا بواسطة قصر الباي ووزرائه، والمحرك للسياسة والإدارة هو المقيم العام الذي يعمل من وراء ستار ويعرِّض الحكومة الوطنية لمقت الأمة ولا يُظهر يده إلا نادرًا وعند الحاجة القصوى.
وقد شبه بعض ساسة العالم حكم بعض المستعمرين في الشرق بداء السُّل البطيء ينتاب البدن ويعمل فيه رويدًا رويدًا حتى يقضي عليه ويكاد المريض لا يشعر.
في حين أن الاستعمار الفرنسي في أول أمره كان كالوباء الأسود ينزل بالجسم فيُنْهكه ثم يُهْلكه في عشية وضحاها. ولو شاءت أوروبا لاتحدت مع الشرق لخير الجميع.
فوجب إذن والحالة هذه أن هؤلاء العلماء والعظماء والنجباء الذين ينفقون أموالهم وعلمهم لتنوير أوروبا أن يوفروا هذا المجهود ويبذلوه في تنوير أممهم، فإن أمم الشرق العربي أحق بالتنوير في تاريخهم وماضيهم وفي رسم خطة للمستقبل بعد درس حاضرهم، وهم أجدر بالتعليم من أوروبا المتعلمة، ويا حبذا لو أُنفق هذا المجهود في تأليف عصبة أمم شرقية وغربية.
فإن في الشرق كنوزًا من الحمِيَّة والعاطفة والحماسة، وهذه يجب السيطرة عليها وتوجيهها في أقوم السبل بدلًا من بذل القوى الطاهرة في تدوين ما يضحك منه بعض سفهاء أوروبا الذين يكرهون الإسلام والمسلمين ويتمنَّوْن زوالهم من الوجود، وأفضلهم يعتبر الإسلام في أفريقيا قنطرة بين الوثنية والمسيحية كأنه المطهِّر أو الأعراف الذي ورد ذكره في جحيم دانتي ونعيمه، فإنه لا يسهل على الوطني الوثني من أفريقيا أو من آسيا أن يتنصر مباشرةً، بل يجب عليه أن يمر أولًا بالإسلام ليخلص من أدران الوثنية ثم يترقى ليصل إلى حياض المسيحية السمحاء! هذا رأي فضلائهم فما بالك برأى سفهائهم؟>
إن أوروبا التي أنجبت فطاحل القانون الروماني وجهابذة القوانين الفرنسية وأساتذة الفقه في ألمانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا، ووزنت في كتبها وأحكامها الحق والباطل بميازين المبادئ المقررة، وجعلت الكلمة العليا للعدل الذي يقره العقل الإنساني؛ إن أوروبا هذه التي أنجبت فلاسفة أمثال ليبنتز واسبينوزا وهيجل وسبنسر وأوجست كونت وبرجسون، إن أوروبا هذه التي عُنِيت بالقواعد والمبادئ حتى يكاد أحد علمائها لا يكتفي بأن يَفْلق الحبة في سبيل العدل فيحاول شق الشعرة إلى شقين أو ثلاثة.
إن أوروبا هذه التي ملئت مكاتبها بمؤلفات القانون الدولي ومبادئ العدل الإنساني، وهي التي تدَّعي أنها آخر طبعة منقَّحة من الجنس البشري، وقد ورثت فضائل العالم المتحضر من عهد الرومان إلى وقتنا هذا؛ إن أوروبا هذه يجب أن تخضع للعدل والحق لا أن تخضع للقوة.
وينبغي أن كل عمل من أعمالها يثبت ذلك، وأن كل تصريح من ساستها يؤيد هذا الرأي ويدعمه ويقويه ويجزم به، فيقولوا في جوامع كلمهم: «الحق يغلب القوة» لا أن يقولوا: «القوة تغلب الحق.» وقال إمبراطور ألمانيا في بداية الحرب: «ويلٌ للمغلوب»، فلما قُهِر لم يتأفف ولم يتضجر لأنه أنذر خصومه بأشنع وأبشع مما وقع له في هزيمته. ووصفوا الاتفاقات الدولية والمعاهدات بأنها قصاصات ورق، وسواء أقالها بتمان هولويج كما نسب إليه الحلفاء أم أن الحلفاء دسوها عليه وأذاعوها من قبيل الدعاية ليحقروا من شأنه، فقد قيلت من أحد الطرفين وصُوِّرت في ذهن أوروبي ونُفِّذت فعلًا قبل الصلح وبعده. وهذا لا يليق بأوروبا المتحضرة.
وقد التقى المرحوم جمال الدين الأفغاني بهربرت سبنسر في لندن في أواخر القرن التاسع عشر، فسأله سبنسر: ما هو العدل؟
فأجاب الأفغاني: يوجد العدل عندما تتعادل القوى.
وإنما أجاب هذا الجواب لأنه يعلم أن الفيلسوف الإنجليزي لا ينتظر غير هذا الجواب، وأن التبحر في الخيال أو التعلق بأهداب المثل الأعلى في وصف العدل لن يجدي لدى فيلسوف أمة عُرفت بما عُرفت به الأمة الإنجليزية.
قد يكون الأوروبيون عادلين في أحكامهم الفردية إذا حكموا بين رعاياهم، ولكنهم في أحكامهم على أبناء الأمم الأخرى لا يعدلون، كذلك حكمهم في المسائل الدولية خالٍ من العدل، فقد فر هندي اسمه ساڤاركار إلى فرنسا وسبح في الماء من خارج ثغر مرسيليا إلى أن وصل إلى الميناء واستغاث بالشرطة الفرنسية وهو يصرخ عاليًا ويقول: «لاجئ سياسي»! وخلفه دَيْدَبان إنجليزي يقول: «لصٌّ فارٌّ»!
ولم يكن ساڤاركار لصًّا ولا سارقًا، إنما كان مقبوضًا عليه في تهمة سياسية، وكان منقولًا على ظهر باخرة إنجليزية إلى الهند، فلما بلغ ثغر مرسيليا انتهز الفرصة وفر ظنًّا منه أن فرنسا تنقذه بحكم القانون الدولي. وقد قبضوا عليه وعقدت بشأنه محكمة دولية في لاهاي وأعضاؤها إنجليز وفرنسويون وهولنديون، ودافع عن ساڤاركار محامٍ فرنسوي هو الأستاذ جان لونجيه وقدم للمحكمة مذكرة مستوفاة، وكان ذلك في سنة ١٩١٢.
وكانت النتيجة أن حكمت تلك المحكمة بتسليم ساڤاركار إلى أعدائه فتسلموه كما يتسلم القَصَّاب أحد الخراف، وحاكموه وحكموا عليه بالنفي المؤبد في جزيرة لاكاديڤ ملاديڤ، حيث عاش بضع سنين.
وليست هذه سوى قضية من قضايا لا عدد لها تدور كلها حول العدل الأوروبي، وقد عدلت أوروبا حقًّا في هذه المسألة فمنحت مندوبيها ألقاب شرف لتقنع العالم المتطلع بأنها إنما فصلت في القضية بفضل اجتهادهم ومهارتهم وليس للمجاملة أو للسياسة دخل في الحكم.
فأين العدل؟ وكيف نلتمسه ممن يهيجون ويثورون لإيذاء فرد ويقلبون الأرض لجريمة وقعت على مال ثابت أو منقول، ولا يحركون ساكنًا إذا رأوا شعبًا بأسره يَهْلَك ويزول من الوجود … بل يقولون عنه: «هذه مسألة فيها نظر!»
يجب أن يكون خلاصنا بأيدينا لا بأيدي الغير، ويجب أن ننتظر النجاة من جهودنا لا من عطف الأجانب؛ لأن الأجنبي لا يعطف صادقًا ولا يرحم إلا مجاملةً في الظاهر وهو في الحقيقة يبطن البغض والكراهية وأكثر منهما.
لَشَدَّ ما كان تعلق الشرقيين بأسباب النجاة من أوروبا المستعمرة!
فإنه عندما ظهرت اليابان على روسيا سنة ١٩٠٤ ومدت إنجلترا إليها يدها وضمتها إلى الدول العظمى وجعلتها في مصافِّ ألمانيا وفرنسا ولم تبالِ بما ينتج عن ذلك من مغاضبة أمريكا وروسيا؛ ظن الشرقيون أن آمالهم أصبحت محصورة في اليابان فاتجهوا إليها يستجدونها، وخطر ببال بعض المفكرين أن اليابان يجب أن تُكسب للإسلام وأن لا تبقى فريسة الوثنية، فتألفت وفود في مختلف الأقطار الإسلامية وسافرت إلى اليابان، وألف عالم مسلم كتابًا اسمه «التاج المرصَّع» في فضائل الإسلام وأهداه إلى الميكادو متسوهيتو، وذهب ضابط مصري اسمه فضلي ونشر في اليابان مجلة للتبشير بالإسلام باللغة الإنجليزية، وكان رجلًا ذكيًّا ويتقن بضع لغات، وقابلته الحكومة اليابانية بالسرور لأنها لم ترضَ أن تُخْجِل هؤلاء الفضلاء، وبعد بضع سنين عاد القبطان فضلي بزوجة يابانية! ولم يسلم ياباني واحد!
وكانت هذه نتيجة منتظرة.
لأن الياباني لم يرَ من دينه سوءًا لِيُطلِّقه فإن الوثنية وعبادة الأجداد هي التي أوصلته للنصر، وإن لم تكن هي التي أوصلته للنصر فهي على كل حال لم تقف عثرة في طريق النهضة القومية، فلماذا يتركها ويدين بغيرها؟ على أن الياباني ليس له عقيدة واحدة بل إن له جملة عقائد، فمنهم البوذي ومنهم الكونفوشيوسي ومنهم المسيحي وليس بينهم مسلم واحد، وكل دين من هذه الأديان متغلغل في نفوس ذويه منذ مئات السنين، فكيف يمكن أن يزول أثره في طرفة عين ليحل محله دين جديد ليس لهم به علم، فضلًا عن أن دولة لم تكن على شيء من القوة بل كانت نهبًا لدول أوروبا؟ لو أن الإسلام ظهر في اليابان في أيام عظمة دوله في الشرق والغرب فربما كان اليابانيون انتحلوه، ولكن ظهرت دعوته في بلادهم في وقت انحطاط ممالكه.
وقد غاب عن ذهن هؤلاء المبشرين المسلمين أو المرشدين أن انتقال اليابان من دينهم إلى الإسلام كان يُحقد عليهم أوروبا ويغيظها ويُحنقها، ولا سيما بعض دول الاستعمار الجديدة التي نصَّبت نفسها لمعاداة الإسلام وقهره في سائر أنحاء العالم.
ولكن اليابانيين كانوا أَكْيَسَ من أن يصارحوا المسلمين المبشرين بهذه الحقائق، ولعل أحد هؤلاء الكونتات قال لواحد منهم: «أين كنتم قبل ذلك بأربعين أو خمسين عامًا؟ إنا تيقظنا على صوت مدافع الأميرال بيري الأمريكي ولذا آمنا بالمدافع، ولو أنكم أيقظتمونا على صوت المؤذن لآمنا بكم وبمكة المكرمة.»
ثم إن المسلمين بالتركستان لجئوا في بلواهم إلى حكومة الصين واستنجدوها فوجدوا من سِن يات سِن صدرًا رحبًا، وقال في أحد كتبه إنه لا ينسى ما فعله المسلمون لإخوانهم البوذيين في سبيل الثورة ضد أسرة مندشو، ووعدهم بالحرية والمعونة. وفي الحقيقة إن الإسلام متغلغل في الصين، والمسلم الصيني أرقى من الصيني الوثني، ولهم غنًى وثروة. وقد سلكت معهم حكومات الصين مسالك شتى، فكلما كانت للإسلام صولة في العالم عاملتهم حكومة الصين معاملة حسنة قريبة من العادلة، فإذا مال ميزان الإسلام في العالم أرهقتهم وعاملتهم بالقسوة.
فإن الصين بعد أن استولت على تركستان الشرقية ارتكبت أنواع المظالم لإيجاد النظام واستتباب السكينة في أنحاء البلاد، ودبرت شئونها في تلك البلاد بالسلطة المطلقة بواسطة حاكم عام عسكري مستبد يقيم في أوردمجي وهو مطلق التصرف في حكومة البلاد لا رقيب عليه ولا محاسب، ورجال الحكومة من البوذيين والأقلية مسلمة، ورجال الحكم كالذئاب الجائعة نحو الشعب المقيد كالغنم.
ولا تزال المحاكم تصدر أحكامًا استبدادية كالتي كانت تصدر في القرون الوسطى من تعذيب وضرب بالسياط وضغط الأعضاء وقطعها وكيها بالزيت المغلي وكتم الأنفاس وقطع الرقاب بالسيف والشنق والسجن في سجون ضيقة مظلمة لا هواء فيها ولا ضياء! ويظهر أن حكومة الحزب الوطني الصيني تعلم كل ما يقع في تركستان الشرقية من الظلم على الرعايا المسلمين، ولكنها وجدت منفعتها في الاتفاق مع الحاكم المطلق وتركت له البلاد إقطاعًا والتزامًا مقابل مبلغ من المال وأغمضت عينها عنه.
وقد حكمت إحدى محاكم تركستان على السيد منصور خان بالضرب الشديد ألف ضربة والأشغال الشاقة خمسة أشهر، لأنه ألقى خطبة على جماعة من أهل وطنه.
ومن المصائب أن تلك البلاد لم تصدر فيها جريدة ولا كتاب ولم يطبع بها صحيفة منذ اختراع الطباعة في العالم، ولم تؤسس بها مدرسة نظامية ولا مصرف ولا مستشفى، وإذا ضُبط أحد الشبان وهو يقرأ جريدة يُلقى عليه القبض ويُسجن، وإذا هاجر أحدهم إلى الشرق أو الغرب وتعلم ثم عاد إلى وطنه لا يمكنه الانتفاع بعلمه، وإن حاول الإصلاح يُلقى به في غيابة السجن إن لم يُشنق أو تُزهق روحه بكتم أنفاسه كتمًا مادِّيًّا لا كتمًا معنويًّا.
وغاية الحاكم المطلق معلومة فهو يريد استبقاء ذلك الشعب في الجهل والعمى تخليدًا لحكم الصين حتى تموت الأمة فلا تقوم لها قائمة.
ولما كان الحج من فرائض الدين الإسلامي فإن الحكومة تمنعه وتضيِّق على الراغبين فيه بكل الوسائل وتعوق الألوف من المستطيعين، ولم تسمح في سنة ١٣٤٩ إلا بحج مائتين من عشرات الألوف التي رغبت فيه، وهذا رغبةً منها في عدم اختلاط الحجيج التركستاني بأهالي البلاد الشرقية الأخرى من المسلمين الذين يقصدون الحجاز في كل عام.
لقد رأينا الاستعمار في الشرق يحاول كَمَّ أفواهنا بكل الوسائل، ورأيناهم يتفننون في القرنين التاسع عشر والعشرين في منعنا عن العلم والنور وهم هم المتحضرون المتمدِّنون الذين يدَّعون خلافة الله في ملكه وحمل مشاعل الإنسانية والوصاية على الأمم المستضعَفة، وضججنا وصرخنا وهاجرنا وضقنا بهم ذرعًا وحملنا فضائحهم إلى بلادهم في مؤتمرات عقدناها وصحف نشرناها وكتب ألفناها ووفود أوفدناها، فلم يُجدِ شيء من ذلك نفعًا!
ونحن على حافة أوروبا وفي سُرَّة العالم المتمدن وليس بيننا وبين لندن وباريس وبرلين ونيويورك حجابٌ وما زلنا نصرخ ونستغيث، فما بالك بأمة شرقية مسلمة خيَّم عليها الجهل والظلم في أواسط آسيا، وسكانها ضعف سكان كلٍّ من سويسرا وهولندا وبلجيكا؟ أليس حظ هؤلاء الإخوان في الدين سيئًا؟
ألا تتحرك الشفقة في قلوبنا نحوهم ونحو بلادهم؟ ألا نرثي لهم؟ ألا يستحقون عنايتنا؟
أمة تعيش في هذا الجيل تحت أنظمة القرون الوسطى وتُخْنق جِهارًا، أفلا يليق بالعالم الإسلامي أن يضِجَّ ويَصْخَب في سبيل معونتها وإنقاذها أو على الأقل تخفيف ويلاتها؟
ومع هذا كله رأيت ذلك السوري المسيحي الفاضل الذي يدافع عن وطنه الذي تحكمه فرنسا المتمدِّنة يقول لي: لقد أزعجنا شوكت علي بقوله «الإسلام في خطر!» إن الإسلام في حرز حريز، وهو في أفئدتنا مصون محترم، إن الإسلام ليس في خطر، ولكن الأمم الإسلامية هي التي في خطر!
إن المسألة الشرقية التي تشعَّبت قبيل الحرب العظمى وبعدها فصارت «مسائل الشرق» أصبحت لا تهم الشرق وحده، بل تهم العالم أجمع ولا سيما بعد يقظة الشرق، وتنبه أفكار شعوبه، واتجاهها نحو النهوض في الخمسين عامًا المنصرمة.
لا نقول إن الشرق نهض أو إن الإسلام تيقظ، لأن في هذا القول مبالغةً وإغراقًا، ولكن نقول في الشرق والإسلام بداية تنبُّه ويقظة، وظهور رغبة في النهوض، كالنائم الذي يفتح عينيه وينفض عن أجفانه آثار الكرى، فإن بينه وبين اليقظة التامة والنهوض الكامل مسافة طويلة، فهذه بداية الأمل وأول مظهر لنور الفجر الصادق، وبيننا وبين تحقيق الأمل والانتفاع بالنور جهود يجب أن تُبذل، وعقبات ينبغي أن تُقهر، وصعوبات يتحتم التغلب عليها.
والشرق والإسلام والعرب في حاجة إلى العلم والعمل، وفي حاجة إلى تشكيلات ومؤسسات ومناهج وخطط، سلمية وعلمية. وفي حاجة إلى إصلاح اجتماعي، ونهضة اقتصادية، وتدريب سياسي، لأن العظمة لا تُنال بالأماني والحقوق لا تسترد بالقول مهما كان بليغًا أو صادقًا! وكل من يقول غير ذلك أو دونه يكون مخطئًا أو متعجلًا، كفانا الله شر الخطأ والعجلة!
والشرق في حاجة إلى زعماء مخلصين، يقدرون الزعامة قدرها ويعملون بنيات سليمة ومقاصد شريفة دون مراعاة لمصالحهم الشخصية، بل يفضلون المنفعة العامة على منافعهم ومنافع ذويهم، وأن يكونوا مع ذلك منوَّرين، ذوي شجاعة وإقدام، وأهل بصيرة وتؤدة.
ويجب على المسلمين من أهل الشرق أن يتمسكوا بدينهم، ولا سيما بما كان منه ذا مساس بالاجتماع والسياسة والاقتصاد، بعد أن ثبتت للملأ حكمة هذه المبادئ وصلاحها لكل زمان ومكان، وأن لا ينسوا أن الإسلام قانون وحضارة، وأخلاق ونظم اجتماعية وإصلاح، ترمي جميعها إلى سعادة الإنسانية، كل ذلك بقدر ما فيه من عبادات وعقائد. ولا يغيبنَّ عن أذهان المسلمين، حتى المنوَّرين منهم والمقلِّدين للغربيين، أن أهل أوروبا متمسكون بدينهم التمسك كله، ولو دانوا بالإسلام من قديم ما هجروه كما هجره ذووه.
ويجب أن يكون الحب ديننا الأعظم ورائدنا في أفكارنا وأعمالنا، فإن دين الإسلام في جوهره قائم على حب الإنسانية والبر بها والإحسان إليها، ينبغي لنا أن نحب الناس ونصفح عنهم ونستغفر لهم لنقنعهم بدين الحب ليؤمنوا به ويتحلَّوْا بجماله وجلاله.
ويجب أن نبغض العنف وأن لا نقابل الشر بمثله، فإن الحب والخير قوتان خالدتان وهما من روح الرحمن، كما أن البغض والشر مِعْوَلان للتخريب وهما من خبث الشيطان ووَسْوَسَته.
ويجب علينا أن نستغني بالمبادئ الثابتة في أدياننا المنزلة بالإحسان والمعونة والبر ومكارم الأخلاق ففيها كفايتنا، وأن ننبذ كل ما يبدو لنا فاتنًا أو جذابًا مما يزينه لنا أهل الغش والنفاق، وأن نحذر الوقوع في هوة روسيا الشيوعية فإنها لا تختلف عن روسيا القيصرية في عداوتها للشرق والإسلام. وإذا مدت أوروبا أيديها إلينا مصافِحةً على قاعدة المساواة والإخاء والحب الإنساني والعمل لخير الجميع، حُقَّ علينا أن نمد لها أيدينا لنتعاون معها على الإصلاح وتحرير الدنيا من قيود الفاقة والظلم والجهل والعبودية، فإن الشرق يريد الوفاق مع الغرب على أساس المساواة والعدل والإخاء، ولا تنسَ أن إنجلترا حالفت اليابان بعد أن أثبتت أمة الشمس المشرقة قدرتها على الكفاح في ميدان الوجود. ويجب علينا أن نؤلف عصبة أمم شرقية للاتحاد وأوروبا على الخير والمحبة فإن المستقبل لله والوحدة الإنسانية في الشرق والغرب.
وقد جاءت في القرآن الشريف آيات مجيدة تنبئ بهذه المبادئ العامة السامية لأنها من أسس الحياة العالمية، كقوله جلت قدرته:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الآية (سورة آل عمران).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (سورة الحجرات).
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللهَ ۖإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (سورة المائدة).
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ (سورة هود).