أوروبا تهاجم الشرق في دينه وروسيا تضطهد مسلمي تركستان والقوقاز والأورال
من تعوَّد النوم على سرير
في سنة ١٩٢٩ نعى كاتب إنجليزي في مجلة دولية (مجلة جنيف أغسطس) على الأمم الأوروبية المستعمِرة أنها تركت الشعوب الشرقية تتمتع بحرية الاعتقاد ولم تحاول تنصيرها، وقال: إن اختلاف الدين بين الحاكم والمحكوم يخلق للحاكم مصاعب شتى ولا يجعله يطمئن للمحكوم، فضلًا عن أن الدين الإسلامي يمتزج مع السياسة فيجعل لأتباعه قوة المطالبة بحقوق قد يغضُّون عنها لو كانوا نصارى، فالشرقي المسلم قد يلبي نداء الجامعة الإسلامية أو الجامعة العربية مهما شتَّ المزار بينه وبين الداعي، ولكن الشرقي المسيحي يلبي نداء الكنيسة البروتستية أو الأرثوذكسية، ولا يندب حظه كلما ذُكرت حرية الوطن، لأنه يعلم أن سادته الأوروبيين أشفق عليه من غيرهم.
وخطأ هذا القول ظاهر، فإن أصحاب العقائد المختلفة في البلاد الشرقية متساوون في حب الحرية وفي المطالبة بحقوقهم المهضومة.
أما أسف الكاتب على أن أوروبا لا تحاول تنصير الشعوب المغلوبة لها في أفريقيا وآسيا فأسفٌ في غير محله، فإن المبشرين يعملون باجتهاد عظيم في أفريقيا وآسيا منذ أكثر من خمسين عامًا ولهم زعماء مثل زويمر، ولهم مؤلفات ومجلات وجرائد ومؤتمرات، ولهم رءوس أموال طائلة يستخدمونها في هذا السبيل، ولكنهم لم ينجحوا في الممالك الإسلامية حتى الآن في تحويل أحد عن عقيدته، حتى قال بعضهم: «لقد ردني أحد الأعراب المسلمين ردًّا عجيبًا حيث قال: يا سيدي المبشر، إن من تعود النوم على السرير لا يقبل غيره مرقدًا. فلم أفهم قصده وتركته وانصرفت.» ولكن الذي نسمعه ونقرؤه من محاولة الفرنسيين تنصير البربر لا بد أن يُثلج صدر هذا الكاتب في المجلة الدولية، لأن الفرنسيين استصدروا من سلطان المغرب الأقصى ظهيرًا يبيح لهم تنصير الأمة بأسرها. وهم تارةً يقولون إن البربر أصلهم رومان فهم شعب لاتيني طرأ عليه الإسلام ولكنه عريق في المسيحية فيجب علينا رده إلى حظيرة المسيح، وطورًا يقولون إن هذا الشعب قد اختار الردة بحرية مطلقة وليس لنا يد في دعوته إلى الصليب. ثم تراهم حينًا يدَّعون العدول عن تطبيق هذا الظهير جهرًا ليتقوا الفضيحة أمام العالم.
تعصب الروسيا ضد المسلمين
بعث إلينا أحد أفاضل المسلمين بالتركستان هذه المقالة فننشرها بحروفها:
بقدر ما بين المسلمين من بُعد الديار وتنائي المزار فإننا نحس كأن مصابنا تتشعب منه خيوط تصل إلى أفئدة إخواننا المسلمين في أقصى المعمورة ليتألموا مما ينصب علينا من المظالم التي تنهال على رءوسنا من دولة الروس في كل وقت وآن.
لهجت الجرائد على اختلاف نزعاتها بما يتوقع من الخطرين الأصفر والأبيض ودافعت كل منها بما يوافق مصلحة دولتها، فإن جرائد اليابان صورت الخطر الأبيض بشكل يقشعر له العالم المغولي من ذلك الدب الذي تشعبت له ثماني أيد كلٌّ منها تحيط بما طمحت إليه المطامع الأشعبية الروسية، كما أن الجرائد السِّلافية ملأت أنحاء أوروبا بتلك النَّعْرة التي استفزت بعض دول الغرب ممن رائدها الطيش لأي حادث تعوَّدت أن تخرج فيه عن الحد المعتدل.
ولكننا معاشر مسلمي الروسيا لا يهمنا من هذا وذاك إلا حقوقنا المسلوبة وحريتنا المهضومة والعمل على ما يرقِّي مداركنا ومعارفنا بما يوافق مصلحتنا المادية والأدبية، سواء لدينا انتصرت الروسيا على اليابان أو بالعكس، فإن الكيل طفح من التعصب الروسي ضد ديننا الحنيف وإرادتنا الشخصية ومصلحتنا العامة مع أننا أول الرعايا المسلمين طوعًا لإرادة القياصرة في دفع الإعانات الحربية والذَّوْد عن حمى الأوطان والإخلاص للعرش القيصري وفي مقدمة من يتسابقون إلى كل عمل يعود على دولة القيصر بالشرف والمجد والفخار.
أما الأساس الوحيد الذي تدور عليه رحى الحرب الحاضرة فهم المسلمون الروسيون البواسل، فإن المحتشدين منهم في ساحة الوغى ينيِّفون على الثمانين ألفًا عدًّا، وما زالت الحكومة الروسية تسُوقنا إليها سَوْقًا، ومع كل هذا هل يروق لها أن نتمتع بديننا كما نشاء أو تطلق لنا عنان المشروعات الخطيرة المخوَّلة لباقي الأجناس الذين ضمتهم أكناف المملكة القيصرية؟ كلا ثم كلا!
كيف نكون أحرارًا في ديننا والحكومة جارية على مبدأ مخالف له على خط مستقيم من زمن مديد؟ ذلك أنه تقرر في سنة ١٧٨٧ تنصير الرعايا المسلمين واستعمال الوسائل القهرية لتنصيرهم رغم إرادتهم على زعم أن مصلحة الروسيا في ذلك، فانعقدت الجلسات تلو الجلسات حتى انجلت عن استعمال الوسائل السلمية للوصول إلى هذه الغاية، ومن ذلك الحين انتشر المبعوثون فيما بيننا انتشارًا مُريعًا وأسسوا المدارس الروحانية الدينية، وأجبرت الحكومة المسلمين على دخول أبنائهم فيها ليتلقوا مبادئ الدين المسيحي وعبارات الشتائم والطعن على نبينا الكريم ونسبة التبديل والتحريف للقرآن المجيد وغير ذلك مما يبرأ منه ديننا الحنيف، فساءت العاقبة وعم البلاء وأصبحنا نندُب سوء حظنا من هذه المعاملات التي تشِفُّ عن بغض ذميم لدين الإسلام وأهله.
ربما توهم القارئ لهذه المقالة أنه يمكننا أن ننشئ المدارس طبق رغائبنا أو نتعلم فيما بيننا، ولكن ذلك من رابع المستحيلات، فإنها منعتنا من تأسيس المدارس كما حرَّمت على أبناء وطننا أن يتعلموا خارج بلادهم تعليمًا صحيحًا، ولو فُرض وتعلم واحد منهم في البلاد الأجنبية شُدِّدت عليه المراقبة ولاحظته في حركاته وسكناته كأنه ارتكب أعظم الجرائم أو أتى شيئًا إدًّا!
ومما يكتب على صفحات التاريخ بمداد الأسف أن سكان نواحي «آلصلاي» كانوا كلهم مسلمين من مدة غير بعيدة، فلما حل الروس بساحتهم وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم نزعوا منهم خيراتهم وضيقوا عليهم في جميع معاملاتهم وترقبوهم في حركاتهم وسكناتهم ومنعوهم من المخالطة بمسلمي القزان الذين هم أعرف بسياسة الروسيا وأعلم بالشرع الشريف الذي حرَّمت عليهم الحكومة أن يتعلموه حتى صاروا ولا علماء بينهم ولا مرشد يقوِّم مُعوجَّهم، فاستمروا على هذه الحالة التعسة حتى انتُزعت منهم صبغة الإسلام وأصبحوا يتخبطون في جهالتهم وصاروا كالأنعام بل وأضل سبيلًا.
فليتها اقتصرت على ذلك، بل ألغت معظم المحاكم الشرعية وهدمت بنيان قواعدها المؤسسة على تقوى من الله ورضوانه فصرنا حيارى من هذا الفعل الشنيع، حيث استبدل بالشرع الحنيف القانون الروسي وما أدراك ما هو القانون الروسي! قانون قاصر على مصلحة الروسيين غير المسلمين، أما هؤلاء فحقوقهم أمامه ملغاة لا يُعبأ بها في شيء، وبذلك فقدنا ديننا وضاعت حقوقنا في نظر الشرائع الروسية التي تخالف كل شرع سماوي وقانون وضعي، وتُبَاين كل ناموس جعلته الأمم عونًا لها في هذه المُدْلَهِمَّات ونصيرًا في جميع المُلِمَّات …
فبأي شرع وبأي قانون تعلن بيع أراضي مسلمي قزان التي يمتلكونها من زمن مديد وانتزاعها من أيديهم وخصوصًا في ولاية «صردريا» التي أصبح أهلها ينتظرون من حين لآخر إحداق الفقر بهم وهبوط المجاعة بواديهم ولا راحم لهم ولا نصير؟!
وقد رفعوا العرائض تلو العرائض إلى جلالة القيصر لينصفهم، فلم يكن نصيبهم منها إلا تركها في زوايا الإهمال والإعراض عن النظر في مظلمتهم بل صارت نسيًا منسيًّا.
أما تعصب الروسيا نحو الدولة العلية فحدِّث عنه ولا حرج، فإنها منعت المسلمين من أن يستعملوا أي شيء من شعارها أو يقوموا بمساعدة نحوها، فقد حرَّمت عليهم لبس الطربوش العثماني وأصدرت أمرها رسميًّا بمنع لبسه وخصوصًا فيما يلي الولايات العثمانية بآسيا، كما منعتهم من القيام بأي إعانة لمشروعاتها الحربية أو الدينية، ولذلك لما تكاتف المسلمون على تعضيدها في التأسيسات الحربية وتبرع حضرة المثري «طرس بك حاجي» من أعيان ولاية «صمريج» سامته من العذاب ألوانًا وأفضى الأمر أن زُجَّ في أعماق السجون.
كل هذا يجري بين أرجاء العالم الإسلامي الروسي وأصواتنا خافتة مضغوط عليها بيد من حديد، كما أن الجرائد السلافية عمومًا والإسلامية خصوصًا محرَّم عليها أن تذكر شيئًا من هذه المظالم لا تصريحًا ولا تلميحًا.
هذه هي حالتنا بعثنا بها إليكم ليطلع عليها قراء لوائكم الأغر ويعرفوا مقدار ما تصبه دولة الروس علينا من المظالم الجائرة والتعسفات الهائلة.
وقد يتوهم بعض الناس أنه عندما زال الحكم القيصري وتَبَلْشَفت روسيا وزالت من قلبها شهوة الاستعمار وانطفأت من نفوس زعمائها جذوة الحقد على الشرق والإسلام، أصبحوا يعطفون على الأمم التي كانت خاضعة للحكم القيصري فتركوها تتنفس الصعداء.
ولكن الحقيقة غير ذلك، فإن هؤلاء البُلْشفيك الظالمين قد أرهقوا جميع الشعوب الآسيوية الإسلامية وألحقوا الأذى بسمرقند وبخارى وخيوه وجميع مدن تركستان الغربية، وهم يهددون أهلها بالخراب والقتل إن لم يتركوا دين الإسلام ويصبحوا ملحدين بغير دين، وقد جند المرحوم أنور باشا جيشًا عظيمًا لمحاربتهم في سنة ١٩٢٢ فحاربوه وكانت الحرب بينه وبينهم سجالًا يومًا لهم ويومًا له حتى هُزم واستُشهد — رحمه الله — فهؤلاء القوم هم أعداء الإسلام وأعداء المدنية الإسلامية، ولا يمكن أن تتفق معهم الشعوب الشرقية المسلمة مطلقًا بدون تعريض دينها ومدنيتها وحريتها للزوال، لأن الروس البلشفيك لا دين لهم ولا حكومة والمسلمون لهم دين وحكومة. أما المبادئ الإنسانية المنسوبة للاشتراكية الروسية فلدينا في ديننا أضعاف أضعافها إذا طبقنا مبادئنا على حقيقتها، وربما كانت البلشفية نافعة لأمة همجية أو أمة بغير مدنية ولا حضارة ولا تاريخ، أما نحن فلنا حضارتنا وتاريخنا.
وإن الأمل الأخير الذي كان يطمع فيه المسلمون في أواسط آسيا وهو تحريرهم بعد ذهاب العهد القيصري قد خاب وظهر أن البلشفيك وعمال نيقولا الثاني سواء في ظلم المسلمين وإرهاقهم. وكان عمال نيقولا الثاني يريدون تنصير التركستان، أي يرغمون المسلمين على استبدال دين منزَّل بدين منزَّل، أما هؤلاء البلاشفة فيريدون محو دين سماوي، ثم إنهم لا يحلون محله شيئًا سوى تمجيد ريكوف وستالين وإنيكين وغيرهم من المغامرين والحيارى وهذا ما لا نرضاه … وقد استصرخ مندوب الروس المسلمين في المؤتمر الإسلامي لنصرتهم في ديسمبر ١٩٣١.
أوروبا الغربية متعصبة
كتب أوجين يوبخ وكيل المقيم العام الفرنسي في تونكين رسالة باسم العرب والإسلام أمام الحروب الصليبية الجديدة نشرها في باريس في يونيو سنة ١٩٣١، وقد نعى فيها على الأوروبيين حملتهم المنكرة على الإسلام والعرب في أنحاء العالم، وجاء فيها أن قوة اليهود الصِّهْيَوْنِيَّة وقوة الڤاتيكان الكاثوليكية قد اتحدتا على خراب الإسلام وعلى القضاء على البقية الباقية من مجد أربعمائة مليون مسلم في أنحاء العالم. ويقول الكاتب إن الحروب الصليبية من يوم إعلانها على الإسلام لم تخمد نارها ولم تُغْمَد أسلحتها، وقد خطب المدعو فالوفاسوري بيروني العضو في مجلس الشيوخ الإيطالي في ٣٠ مايو سنة ١٩٣٠ خطبة في المجلس، جاء فيها إنه يجب توحيد صفوف فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وإسبانيا ضد العرب والإسلام. ولا يمكن أن يصدر مثل هذا التصريح بدون موافقة موسوليني، لأن حرية الكلام والتفكير في إيطاليا مقيدة بإرادة ذلك العاهل المختلف الألوان بين الديمقراطية والأرستقراطية وبين التدين ومصلحة الفاتيكان وحرية الفكر وبين مخاصمة البابا وتهديده بالحرب والعصيان.
وقد ظهرت غرائز موسوليني في محاربة العرب والإسلام فأمر الجنرال جرازياني فأغلق جميع الزوايا السنوسية وصادر أموالهم لجانب الخزانة الإيطالية، وطرد ثمانين ألف (٨٠٠٠٠) رجل وامرأة بأطفالهم وأغنامهم من الجبل الأخضر المشهور بخصبه وحَصَرهم في بقعة من الأرض غير ذات زرع، فماتت أنعامهم وشارفوا هم أنفسهم على الهلاك، وقد هلك معظمهم ولجأ ١٠٠٠٠ عربي ومعهم ٤٠٠ خيمة إلى أرض تونس، وهم أغنى أهل طرابلس، وقد باعوا كل ما كانوا يملكون في سبيل فرارهم من الخطر الذي يتهددهم بعد ما رأوا ما حل ببقية أبناء وطنهم.
وقد نسي الطليان أن عدد المسلمين الذين يعيشون على شواطئ البحر الأبيض لا يقل عن سبعين مليونًا فهم يعدلون تقريبًا عدد سكان المسلمين الهنود.
يدَّعُون أن فرنسا وغيرها من دول أوروبا قد صارت دولًا لا دينية، تكره التعصب للأديان، وترفع لواء الفكر الحر، وتنادي بالمساواة بين الشعوب، ولا يدَّعي هذه الدعوى إلا كل جهول بأسرار تلك الأمم العريقة في المسيحية، والعريقة في الاستعمار، فقد هلك منذ ألف وخمسمائة عام أسقف اسمه هيبون في سنة ٤٣٠، وكان هذا الأسقف بربريًّا، أي من بلاد البربر التي في مراكش، فأرادت الكنيسة الكاثوليكية أن تحتفل بمرور ١٥ قرنًا على هلاك هذا الأسقف في نفس بلاد أفريقيا، غير مراعية للسكان المسلمين حرمة ولا كرامة، فأمرت فرنسا أن يكون اجتماع المؤتمر الأيوخرستي في قرطاجنة (مايو ١٩٣٠)، وأمرت أن تدفع حكومة الباي مليوني فرنك لتشترك في هذا المؤتمر، ولما ظهرت حقيقة المؤتمر احتج ٧٠٠ شخص للباي ورغبوا إليه في عدم التصريح للمؤتمر بالاستمرار، ولكن الاحتجاج ذهب أدراج الرياح وسار أعضاء المؤتمر في الطرق بملابس الصليبيين وجُهِّزت الأسرَّة لنوم القساوسة في المسجد الصادقي، أي إن هؤلاء النصارى المتعصبين اتخذوا مساجد الله منامة، وأصدرت الحكومة أمرها بالقبض على كل من يحتج على المؤتمر من الشبان المسلمين.
وعلى الرغم من احتجاج أمة البربر في البر والبحر، في الحواضر والبوادي، فإن الحكومة الفرنسية المتعصبة الجائرة أغلقت المحاكم الشرعية، وعزلت القضاة الذين تولوا القضاء بين الناس منذ مئات السنين، وطردت الأساتذة الذين كانوا يعلِّمون اللغة العربية، ومنعت قراءة القرآن، وحظرت الصلاة والتكلم باللغة العربية، وساقت الأطفال سوقًا إلى الكنائس، وقد ظهر أربعة من الموظفين بالغَيْرة الشديدة في تنفيذ هذا الظهير الجائر، وهم أوربان بلانك ممثل وزارة الخارجية، والمسيو بريان، ثم الجنرال ڤيدالون، ثم القمندان مارني، وهؤلاء الأربعة يطيعون أمر البابا طاعة عمياء، ويعملون لتنفيذ رغبة الكنيسة أولًا ثم خدمة الوطن ثانيًا.