طبيعة الحيوانات
محاصَرًا في زاوية المرأب، يتراجع الراكون المذعور ببطء، مركِّزًا عينيه على الرجل الذي يقترب ممسكًا بمكنسة في يديه؛ يعتقد الرجل — الذي يريد إخراج الراكون من المرأب — أن سلوك الحيوان يتسم بالخوف. وفي مشهد آخر نرى ثعلبًا يكافح لساعات دون جدوى للفكاك من الشَّرَك المصنوع من الصلب الذي أطبق على قدمه ويغور بعمق في جلده، قبل أن يبدأ الثعلب بعد ذلك في العض ببطء على قدمه وتحرير نفسه من الشرك؛ يدرك أحد المارة وهو يشاهد الثعلب يفلت من الشرك — تاركًا قدمه وراءه — مدى الألم والمعاناة العظيمين اللذين يمر بهما الثعلب. وفي مشهد ثالث، نرى كلبًا يقيم للمرة الأولى في بيت للكلاب أثناء ذهاب العائلة المالكة له خارج المدينة، يمر الكلب بحالة من فرط النشاط والاهتياج العصبي، ويبول على الأرض؛ فيفترض الشخص الموكل إليه العناية ببيت الكلب أن الكلب قلق في بيئته الجديدة غير المألوفة.
يعتبر عزو المشاعر للحيوانات في المشاهد السابقة — الخوف للراكون، والألم والمعاناة للثعلب، والقلق للكلب — طبيعيًّا في تفسير سلوكها، لكن هل تقوم هذه التفسيرات على أساس صحيح؟ هل تدعم الأدلة المتوافرة هذه التفسيرات لسلوك الحيوانات؟ بصورة أكثر عمومية، أي نوع من الحيوات العقلية توجد لدى الحيوانات؟ مع أن هذا السؤال يفضي سريعًا إلى مزيد من التعقيدات، علميًّا وفلسفيًّا، لا يطرح هذا الفصل سوى مناقشة مبدئية وعامة للغاية حول الحيوات العقلية للحيوانات، بعبارة أخرى أي نوع من الكائنات هي؟ أو ما طبيعتها؟ يتمثل الطرح الأساسي في هذا الفصل في أن مجموعة كبيرة من الحيوانات، بما في ذلك معظم الفقاريات — أو كلها، وربما بعض اللافقاريات — تتمتع بمجموعة متنوعة ثرية من المشاعر. في المقابل، قبل النظر في الأدلة على وجود ذلك، يجب أولًا توضيح بعض المصطلحات الرئيسية.
(١) بعض المفاهيم الرئيسية
يجب أن يتوافر لدى أي كائن شيءٌ من «الدراية» أو «الوعي» حتى يمر بأي حالات عقلية، أو أن تكون لديه حياة عقلية. فما هي الدراية؟ نوضح المقصود من المصطلح من خلال الإشارة إلى مصطلحات أخرى مألوفة وعن طريق طرح بعض الأمثلة.
يعتبر الإنسان أو الحيوان داريًا في لحظة ما إذا كان يمر بأي خبرات ذاتية في تلك اللحظة. تشمل هذه الخبرات جميع حالات الوعي عندما يكون المرء مستيقظًا، بل تشمل أيضًا الحالات المشوشة للتفكير والشعور المعروفة باسم خبرات الأحلام. يرتبط بذلك ارتباطًا وثيقًا مفهوم «الإحساس»، وهو القدرة على امتلاك «مشاعر». تشمل المشاعر بدورها «الأحاسيس المستشعَرَة»، مثل الألم والغثيان، و«الحالات الشعورية»، مثل الخوف والحبور. تتمتع جميع الكائنات الحساسة بحالات من الدراية. على سبيل المثال، من المفترض أن جميع الحيوانات الحساسة تشعر بأحاسيس الألم والسرور.
من الأهمية بمكان تمييز الدراية عن «حِس الألم». يشير حس الألم — وهو الحدث الأول ضمن سلسلة من الأحداث تشمل عادةً الإحساس بالألم — إلى تحديد المثيرات الضارة، المدمرة للأنسجة من خلال أعضاء طرفية محايدة متخصصة — مستقبلات الألم — تطلق نبضات خلال المحاور العصبية (وهي عبارة عن ألياف عصبية تعمل عمل الممرات). تشمل هذه المثيرات القطع، والضغط، والوخز، والحرارة، والبرد، والالتهاب، وانقباضات العضلات. بينما لا يعتبر حس الألم نفسه إحدى حالات الدراية أو الوعي، يحدث حس الألم غالبًا بمصاحبة حالات الدراية أو الوعي، خاصةً الألم. وفق برنارد رولن، يمكننا تصور حس الألم باعتباره «ماكينة أو نظام التحكم في الألم»، مع أنه في حالات غير تقليدية يوجد حس بالألم دون وجود ألم، مثلما هو الحال عندما يسمح نخاع شوكي مقطوع لشخص مصاب بشلل في نصفه السفلي بالاحتفاظ باستجابة انسحاب ولكن يمنع حدوث الألم، أو في حالة حيوان واقع تحت تأثير مخدر عام.
بينما لا يوجد تعريف جامع كامل لمصطلح «الدراية»، تكفي خبراتنا وفطرتنا لفهم هذا المفهوم الأساسي. متى كنا مستيقظين أو كنا نحلم، نمر بحالات ذاتية. إضافة إلى ذلك، نعلم أننا لا نمر بهذه الحالات الذاتية عندما نمر بحالات نوم معينة أو كنا واقعين تحت تأثير مخدر عام. مثلما سنرى لاحقًا، تدعم الأدلة التجريبية الحكم الفطري الذي يذهب إلى أن العديد من الحيوانات أيضًا تمر بحالات من الدراية، حتى وإن كانت هذه الحالات أقل تعقيدًا، وأقل تأملًا، وأقل في المحتوى اللغوي من الوعي الإنساني.
(٢) الدليل على وجود ألم وأحاسيس أخرى لدى الحيوانات
بالرغم من اعتقاد الجميع تقريبًا أن الحيوانات تشعر بالألم، يجب أن يأخذ أي نقاش جاد حول عقلية الحيوان في الاعتبار ما إذا كانت الأدلة المتوافرة تدعم هذا الاعتقاد أو أي اعتقاد في وجود مشاعر أخرى تمر بها الحيوانات. نحتاج هنا، مثلما هو الحال مع الحالات العقلية الأخرى، إلى تعريف عملي لبيان ما نبحث عنه تحديدًا. تدعم خبرتنا — أو الوصف الظاهري — بالألم إضافة إلى الدراسة العلمية لظاهرة الألم هذا الفهم: إذ يمثل الألم خبرة شعورية غير سارة أو كريهة تصاحب عادةً التدمير الفعلي أو المحتمل للخلايا (لا يشمل هذا التعريف «الألم الشعوري»، وهو امتداد مجازي لمعنى «الألم» الحرفي. تعتبر «المعاناة» البديل الأكثر حرفية وملاءمة «للألم الشعوري»).
عندما نسأل عما إذا كان مخلوق ما يمر بحالة عقلية معينة، تبرز أربعة أنواع من الأدلة؛ أولًا: يساعد الوصف الإنساني الظاهري على تقسيم الحالات العقلية ويدلنا على طبيعتها. انطلاقًا من هذه النقطة، وهو ما قد يساعد على تعريف عملي، نستطيع القول إن الحيوانات غير البشرية تمر بحالات عقلية معينة بناءً على ثلاثة مصادر أخرى من المعلومات: سلوك الحيوانات في سياق محدد، ووظائف أعضائها، والاعتبارات الوظيفية-التطورية. يناقش مصدر المعلومات الأخير القيمة التكيفية لنوع من الحالات العقلية لدى نوع محدد من المخلوقات يعيش في سياق بيئي معين.
لننظر إذن في طبيعة هذه الأدلة فيما يتصل بظاهرة الألم. بالتأكيد تتصرف الحيوانات في بعض الأحيان كما لو كانت تتألم. يعبِّر أي من أنواع السلوك الثلاثة التالية عن الألم: (١) تفادي مثير غير سار أو الهروب منه (مثل إبعاد المخلب عن شيء حاد). (٢) الحصول على مساعدة (مثل الصراخ) بعد حادث غير سار. (٣) الحد من استخدام جزء منهك أو مجروح من الجسد لإراحته أو لشفائه (الكف عن تحريك عضلة مشدودة واستخدام طرف آخر من الجسد). بينما تُظهر الغالبية العظمى من الحيوانات، بما في ذلك الحشرات، سلوكيات من النوع (١)، ترجع هذه السلوكيات إلى حس الألم دون وجود الألم أو إلى استجابة غير واعية مشابهة لمثيرات. تُظهر الفقاريات، وربما بعض اللافقاريات، سلوكيات من النوع (٣). ويعتبر السلوك (٢)، الذي ربما لا يتصل إلا بالحيوانات الاجتماعية نسبيًّا، شائعًا بين الثدييات والطيور. تدعم الأدلة على التعلم والتكيف مع الظروف البيئية الجديدة الزعم القائل إن أيًّا من أنواع السلوكيات الثلاثة هذه تشير إلى الألم ومن ثم الإحساس. توجد أدلة على ذلك في الفقاريات، وعلى الأقل في بعض أنواع اللافقاريات مثل الأخطبوط والحبَّار.
بالانتقال الآن إلى الأدلة الفسيولوجية على وجود الألم لدى الحيوان، نجد مشتركات كثيرة بين الأنواع الفقارية فيما يتعلق بالآليات البيولوجية اللازمة فيما يبدو لوجود الألم. يرتبط الألم بتغيرات فسيولوجية محددة، بما في ذلك النبضات العصبية القابلة للقياس في مسارات محددة والنشاط الأيضي والكهربي في أجزاء محددة من المخ. تثير هذه العمليات بدورها استجابات فسيولوجية أخرى؛ مثل حدوث تغييرات في نظام الغدد الأدرينالينية السمبثاوية والنظام الوطائي-النخامي-القشر كظري. لا تتشابه كثيرًا هذه الحيوانات فيما بينها في الفسيولوجيا العصبية والتشريح العصبي للألم فقط، بل في الآليات البيولوجية أيضًا للتحكم في الألم، مثل آلية إفراز المخدرات الداخلية. إضافة إلى ذلك، يتحكم الخَدَر وفقدان الشعور بالألم فيما يبدو أنه الألم لدى جميع الفقاريات وبعض اللافقاريات. فإذا لم تتشابه الحيوانات إلى حد بعيد في القدرة على الشعور بالألم والمرور بالحالات العقلية الكريهة، فسيكون من غير المنطقي استخدام الحيوانات نماذج لدراسة هذه الحالات العقلية لدى البشر.
يشكِّل بحث وظيفة الألم في سياق نظرية التطور صورة أخرى من صور الأدلة على الألم لدى الحيوان. تتمثل الوظيفة البيولوجية للألم بجلاء في: (١) توفير معلومات للكائنات الحية حول أي الأنسجة قد يصيبها ضرر، أو يصيبها، أو أصابها بالفعل. و(٢) استثارة الاستجابات التي من شأنها تفادي وقوع الضرر أو التقليل من آثاره، مثل حركة الأطراف السريعة بعيدًا عن مثير ضار أو عدم تحريك العضلات لإتاحة الفرصة لاستشفائها. توافر الخبرات غير السارة للألم الدافع لظهور استجابات تتكيف مع الظروف المحيطة وتحافظ على الحياة.
مرة أخرى، قد يردُّ أحد على ذلك بالقول إن حس الألم أو ربما تجربة مشابهة — في ظل عدم وجود الألم أو وجود دراية واعية — قد يؤدي وظيفة الإبقاء على الحيوانات بعيدًا عن الخطر على نحو متساوٍ، وهو ما يترتب عليه أن الأطروحات الوظيفية-التطورية قد لا تدعم تفسير حماية الحيوان من الألم. لكن التطور يميل إلى الحفاظ على الأنظمة البيولوجية الناجحة؛ فبدلًا من نشوء كائنات جديدة بصورة عفوية تتوافق بصورة أفضل مع سياقات بيئية محددة، مع عدم وجود أي «قيود في تصميمها»، يؤدي التطور وظيفة الحفاظ على الأنظمة البيئية في إطار القدرات الجينية والأنظمة التشريحية الموروثة من الأسلاف الذين انحدرت منهم الكائنات الحالية. نعلم أن القدرة على الشعور بالألم تعتبر مسألة مهمة لأداء الوظائف البيولوجية والبقاء لدى الإنسان. يتعرض الأشخاص الذين لا يشعرون بالألم أو لديهم قصور في وظائف الشعور بالألم، مثل الأشخاص المصابين بالجذام الخدري، لمخاطر فنائهم إذا لم يتلقوا عناية خاصة. يشير وجود بُنى عصبية مشابهة لتلك البُنى التي يصدر عنها وعينا لدى الفقاريات — إضافة إلى سلوكها عند الألم — إلى أن الألم يؤدي وظيفة مشابهة لدى الفقاريات، وأن عملية الانتخاب الطبيعي حافظت على القدرة على الشعور بالألم خلال عملية التطور على الأقل بالنسبة للفقاريات.
في المقابل، يوجد حالة من عدم اليقين فيما يتعلق بشعور اللافقاريات جميعها — اللهم إلا أغلب اللافقاريات «المتقدمة» مثل الأخطبوط والحبَّار — بالألم، وبصورة أكثر عمومية، الإحساس. على سبيل المثال، قد يشير السلوك المعقد المدهش لبعض الحشرات، مثل النمل والنحل، إلى توافر الإحساس لديها، بل قد يتخذ المرء سلوك الألم الظاهري في جميع الحشرات — المتمثِّل على سبيل المثال في تفادي أو الهروب من المؤثرات الكريهة — باعتباره دليلًا على وجود شعور بالألم لدى هذه المخلوقات. في المقابل، يشير بعض سلوك الحشرات — مثل مواصلة السلوك المعتاد بعد الإصابة أو فقدان أحد أجزاء الجسد، وعدم التخلص من الأحمال التي تحملها الأطراف المصابة — إلى افتقار الإحساس. إضافة إلى ذلك، تمتلك الحشرات أجهزة عصبية في غاية البدائية مقارنة بالأجهزة العصبية لدى الفقاريات. أخيرًا، في ظل قصر عمرها واحتياجاتها المتواضعة للتعلم، قد لا تستفيد الحشرات كثيرًا من توافر حالات واعية لديها مثل حالة الشعور بالألم؛ إذ قد تكفي على سبيل المثال استجابة الإجفال المنعكسة لتتمكن الحشرة من الهروب من مصدر خطر في معظم الحالات. بناء عليه، لا تعتبر الأدلة المتوافرة حاليًّا كافية بأي حال من الأحوال لتبرير رسم خط فاصل واضح بين الحيوانات الحساسة والأخرى غير الحساسة، وإن كان من قبيل المؤكد أن بعض اللافقاريات، مثل الأميبا، لا يتوافر لديها الإحساس.
بينما توجد حالة من عدم اليقين الشديد فيما يتعلق بتوافر الإحساس لدى اللافقاريات، مثلما رأينا، تدعم الأدلة المتوافرة بصورة كبيرة الطرح القائل بقدرة كثير من الحيوانات، بما في ذلك جميع الفقاريات، على الشعور بالألم. في المقابل، لا شك في أن الحيوانات التي تستطيع الشعور بالألم تستطيع أيضًا الشعور بالمتعة، على الأقل في صورة «أحاسيس سارة» (يتطلب الطرح القائل إن الحيوانات أيضًا تمر بحالات «شعورية» سارة مزيدًا من الحجج لإثباته). قد يجوز تطبيق الشيء نفسه على «عدم الراحة الجسدية»، وهو إحساس غير سار مختلف عن الألم، لكن لا يسعنا في هذا المقام أن نسعى إلى وضع تعريفات محددة أو تعيين أدلة محددة على وجود هذه الحالات العقلية.
(٣) أدلة على الكرب، والخوف، والقلق، والمعاناة
بينما يعتبر الألم إحساسًا، ومن ثم يرتبط بأجزاء محددة من الجسد، يعتبر كل من الكرب، والخوف، والقلق، والمعاناة خبرات شعورية، ومن ثم ترتبط بالكيان الكلي للكائن الذي يمر بأي من هذه الخبرات الشعورية. دعنا نوضح المفاهيم أولًا قبل أن ننظر في أدلة محددة على حدوث حالات كهذه.
لنبدأ أولًا بالمعاناة، التي تعتبر جامعة إلى حدٍّ ما لحالات أخرى. تجدر الإشارة إلى أن المعاناة تختلف عن الألم، حيث إن أيًّا منهما قد يحدث دون حدوث الآخر. فإذا قرصت يدي فسأشعر بالألم دون أن أشعر بالمعاناة، أما إذا انتاب أحد الأشخاص شعور بالذعر فإن ذلك الشخص سيشعر بالمعاناة دون أن يشعر بالألم. إضافة إلى ذلك، لا تتساوى المعاناة مع الكرب؛ فإذا انتاب المرء الشعور بالكرب قليلًا نظرًا لاقتراب موعد الانتهاء من عمل ما، لا يشعر المرء بالمعاناة في هذه الحالة. «تمثل المعاناة حالة شعورية كريهة للغاية ترتبط بأكثر من مجرد الشعور بالحد الأدنى من الألم أو الكرب.» بما أن المعاناة تُعرف في إطار مصطلحات الألم والكرب، فإن الأدلة على وجود المعاناة تتطابق مع الأدلة على وجود ألم أو كرب، أو درجات مرتفعة منهما. وقد ناقشنا الألم منذ قليل.
يمثل الكرب استجابة شعورية غير سارة لإدراك التحديات البيئية المحيطة أو لمثيرات داخلية مقوضة للاتزان. قد يتسبب في حدوث الكرب ظواهر متنوعة؛ مثل اقتراب كائن مفترس، أو الاعتقاد في الفشل، أو الإسهال. قد يتخذ الكرب إحدى صور الحالات العقلية المتنوعة ذات الشكل المحدد، مثل الخوف، والقلق، والإحباط، والملل. بينما قد يحتاج بحث شعور الكرب بحثًا دقيقًا تحري جميع هذه الحالات العقلية ذات الصلة بالكرب، فلن نناقش هنا سوى حالتي الخوف والقلق.
يحفز الخوف على إطلاق استجابات مركزة تجاه مخاطر محدقة والإعداد لاستجابات مستقبلية لها. بينما قد يكون الخوف الطفيف سارًّا، مثلما هو الحال عند التزلج على الجليد، يميل الخوف أكثر إلى أن يكون شعورًا كريهًا. «يمثل الخوف استجابة شعورية غير سارة تجاه خطر محدق (عادة في البيئة الملاصقة)، استجابةً تركِّز الانتباه على تيسير اتخاذ إجراء وقائي.» في المقابل، يتضمن القلق حالة معممة، في مقابل الحالة المركزة، من الاستثارة البالغة والانتباه إلى البيئة المحيطة. يجمِّد القلق عادة استخدام قدراتنا العقلية كما يعرقل القيام بأي أفعال؛ لذا قد ننتبه إلى البيئة المحيطة بنا حتى نحدد كيفية الاستجابة إلى أي تحديات تظهر. بينما يعتبر الخوف والقلق مرتبطين عن كثب، يؤدي القلق وظيفته بصورة جيدة خاصةً في المواقف غير المألوفة، وهو ما يفسر لماذا يعتبر القلق أقل تركيزًا من الخوف. إضافة إلى ذلك، على الأقل بالنسبة إلى البشر، يتمثل مصدر القلق في شيء قد يتسبب في إلحاق ضرر ممكن بصورة المرء الذاتية. «يمثل القلق استجابة شعورية غير سارة تجاه تهديد شاخص إزاء السلامة الجسدية أو النفسية للمرء، استجابة تعرقل بصورة عامة القيام بأي أفعال وتنطوي على استثارة وانتباه بالغين للبيئة المحيطة.» منطقيًّا، يمتلك الخوف والقلق وظائف وقائية متشابهة في سياقات متكاملة. على سبيل المثال، قد تشعر قطة بالقلق في السياق الجديد المتمثل في غرفة انتظار الطبيب البيطري. في زيارتها الثانية إلى عيادة الطبيب، ربما تشعر القطة بالخوف نظرًا لتذكرها حقنة مؤلمة تلقتها خلال الزيارة السابقة. لننتقل على أي حال من المزاعم المنطقية إلى الأدلة الدقيقة.
خذ مثلًا بالأدلة على وجود القلق، وهو الحالة العقلية التي قد تثير الشك غالبًا أكثر من غيرها من بين جميع الحالات العقلية الأخرى. أولًا: تتوافر السمات السلوكية والفسيولوجية المعتادة للقلق الإنساني في الكثير من الحيوانات أيضًا في ظروف تشعر الحيوانات فيها على الأرجح بالقلق، مثل: (١) النشاط المفرط اللاإرادي، الذي يتجلى في النبض القوي للقلب، التعرُّق، ازدياد معدلات النبض والتنفس، إلخ. (٢) التوتر الحركي، مثلما يحدث عند الاهتياج العصبي. (٣) تعطُّل السلوكيات المعتادة في المواقف الجديدة. و(٤) الانتباه المفرط، مثلما هو الحال في المسح البصري. في ظل توافقها مع تعريف القلق، تضيف هذه النتائج إلى الأدلة السلوكية القوية وبعض الأدلة الفسيولوجية على وجود القلق لدى الحيوانات. إضافة إلى ذلك، ناقشنا القيمة التكيفية — أو الوظيفة التطورية — للقلق، والتي تسمح للكائنات بالارتداع عن القيام بأي أفعال، والانتباه جيدًا إلى البيئة المحيطة استعدادًا لاتخاذ إجراء وقائي.
إضافة إلى ذلك، يحدث القلق الإنساني وبعض الحالات العقلية لدى الحيوانات — وهي الحالات التي نظن أنها تمثِّل شعور القلق — بطرق مشابهة من خلال عقاقير محددة تؤدي إلى حدوث تغيرات عصبية-فسيولوجية وعصبية-كيميائية مشابهة. على سبيل المثال، في أحد الاختبارات، تتسبب المعاقبة العشوائية لثلاثين فأرًا ظمآنين في تقليل رغبتها في الشرب، وهو ما يمثل عرقلة لأحد السلوكيات الطبيعية. في المقابل، يؤدي تقديم عقار مضاد للقلق للفئران إلى استعادة الرغبة في الشرب إلى المعدلات الطبيعية. في أحد أنواع الاختبارات الأخرى، توضع الحيوانات في سياق جديد مثل وضعها في مكان رحب مضاء إضاءة قوية. تُظهر الحيوانات التي يقدَّم لها عقار مضاد للقلق مسبقًا ما يبدو أنه سلوك أقل قلقًا من الحيوانات التي لا يقدَّم إليها مثل هذا العقار. إضافة إلى ذلك، عند تقديم العقاقير التي «تثير» القلق لدى البشر إلى الحيوانات، تُظهر الحيوانات السلوكيات والاستجابات الفسيولوجية المصاحبة للقلق.
ولما كان معظم الحيوانات التي أُجريت هذه الدراسات عليها من الثدييات، تعتبر النتائج التالية مثيرة للاهتمام. عرف العلماء منذ وقت طويل أن مستقبلات البنزوديازيبين — وهي قوام معظم المواد المضادة للقلق لدى البشر — توجد أيضًا في الثدييات. أظهرت الأبحاث الحديثة أنه لا تمتلك أي من اللافقاريات الخمسة التي أجريت عليها دراسات، أو السمكة الغضروفية (وهي حيوان يقع بين الفقاريات واللافقاريات)، مثل هذه المستقبلات. في المقابل، تمتلك جميع الأنواع الأخرى التي جرى دراستها — بما في ذلك ثلاثة أنواع من الطيور، وسحلية، وضفدعة، وسلحفاة مائية، وثلاثة أنواع من الأسماك العظمية — هذه المستقبلات، وهو ما يقدِّم دليلًا إضافيًّا على أن معظم الفقاريات على الأقل تمر بخبرات القلق.
بينما تدعم الأدلة المتاحة جميعًا هذا الاستخلاص، فهي لا تشير إلى أن القلق الإنساني والقلق الحيواني يتشابهان كميًّا فيما يتجاوز الإحساس بمشاعر غير سارة والاستثارة والانتباه البالغَيْن. لا غرو أن تعقيد التفكير الإنساني المحمَّل بتعبيرات لغوية يصدر عنه خبرات قلق تختلف اختلافًا كبيرًا عن خبرات القلق لدى الحيوانات. يتمثل الزعم السائد الحالي في أن الحيوانات التي تمثِّل طيفًا واسعًا من الأنواع تمر بحالات قلق، وذلك مثلما يشير تعريفنا «للقلق».
بالنظر إلى الصلة الوثيقة بين القلق والخوف — مثلما أشرنا — قد يتوقع المرء توافر القدرة على الشعور بالخوف لدى الحيوانات التي تمتلك القدرة على الشعور بالقلق أيضًا. يدعم هذا الحكم المنطقي امتلاك جميع الفقاريات أجهزة عصبية لاإرادية وحوفية، وهي الأجهزة التي تحتوي على ركائز مشاعر الخوف والقلق. بطبيعة الحال، تتصرف هذه الحيوانات كما لو كانت تشعر بالخوف، وهي حالة تحظى بقيمة تكيفية كبيرة من وجهة نظر تطورية.
في المقابل، إذا كان بعض الحيوانات يمر بخبرات الخوف والقلق — وهي صور من الكرب — لا يوجد مجال للشك في أنها تمر بحالات كرب. لكن، هل تشعر هذه الحيوانات بالمعاناة؟ مرة أخرى، نعيد فنؤكد على أن المعاناة تمثل حالة شعورية كريهة تأتي مصاحبة لحالات تتجاوز الحد الأدنى من الشعور بالألم أو الكرب. ذكرنا سابقًا أن الفقاريات تمر بخبرتَي الألم والكرب، لكن إذا كانت بعض الحيوانات تمر بهذه الحالات الشعورية في «حدودها الدنيا» فحسب — بعبارة أخرى، لا تشعر بثقل وطأتها — فقد يشير ذلك إلى أنها لا تشعر بالمعاناة. لا يبدو جليًّا ما يمكن اعتباره دليلًا على أن حيوانات بعينها تمر بحالات ألم وكرب في حدودها الدنيا، فيما يتجاوز الزعم العام أن المخلوقات الحساسة الأكثر بدائية تتمتع بحيوات عقلية بسيطة. على أي حال، لما كانت جميع الفقاريات وعلى الأقل بعض اللافقاريات كائنات حساسة، أقترح الافتراض غير القاطع أن «معظم» الفقاريات على الأقل تمتلك القدرة على المعاناة.
(٤) الرد على بعض الأطروحات المتشككة
تدعم الأدلة التي تناولناها الطرح القائل إن مجموعة كبيرة من الحيوانات، بما في ذلك معظم الفقاريات أو جميعها وربما بعض اللافقاريات، تمتلك مجموعة متنوعة من المشاعر. لكن لا يتسع المجال هنا لمناقشة الأدلة التي تشير إلى وجود ظواهر عقلية أكثر تعقيدًا قد تشترك الحيوانات أو لا تشترك في امتلاكهما مع البشر، مثل القدرة على التفكير أو الاستنتاج، واللغة، واتخاذ القرارات الذاتية (ناقشتُ هذه الظواهر في موضع آخر). في المقابل، من الجدير بالذكر تحديد الأطروحات المزعومة العديدة المتشككة في وجود حيوات عقلية للحيوانات والرد عليها.
يتمثل أحد هذه الردود في أن الحيوانات تفتقر إلى الدراية أو الوعي نظرًا لافتقارها إلى «نفوس خالدة»، تُعتبر عناصر غير مادية. لكن هذا رد ضعيف للغاية؛ فهو يتجاهل جميع الأدلة التجريبية على توافر دراية لدى الحيوانات، والاستناد إلى الافتراض، الذي لا يوجد دليل يدعمه، القائل إن البشر — لا الحيوانات الأخرى — يمتلكون نفوسًا خالدة. يشعر المرء بالحيرة حقيقة حيال الوقت الذي بدأ أسلافنا خلال عملية تطور الأنواع الإنسانية في امتلاك أرواح! في الواقع تصعِّب بصورة متزايدة التطورات في العلم وفلسفة العقل من إثبات أن البشر يمتلكون أرواحًا خالدة، وإن لم يكن مثل هذا الإثبات مستحيلًا. وبينما لا يجد علم الأعصاب وعلم النفس أي قيمة تفسيرية في افتراض وجود أرواح خالدة، يؤدي افتراض وجود ذلك لدى البشر إلى بروز مشكلات خطيرة فيما يتعلق بالعلاقات السببية بين العناصر المادية والعناصر غير المادية. حتى في حال إذا ما كان الاعتقاد في الروح يظل جزءًا مهمًّا من إيمان الفرد، لا مجال لوجود هذا الاعتقاد عند إجراء بحث جاد حول الحيوات العقلية للحيوانات.
دفع بعض الفلاسفة بأنه ما دامت «اللغة» ضرورية من أجل توافر الدراية، يترتب على ذلك أن الحيوانات يجب أن تفتقر إلى الدراية. لكن تسليمًا بالافتراض الضمني القائل إن الحيوانات الموجودة حاليًّا تفتقر إلى اللغة — وإن كانت بعض القردة العليا والدلافين المدربة تدريبًا عاليًا تشكل استثناءات — لا يزال الطرح القائل بافتقار الحيوانات إلى الدراية طرحًا غير سليم. بينما تعتبر اللغة ضرورية للتعبير اللفظي عن حالات الدراية لدى الأشخاص، لا يوجد ما يبرر الاعتقاد في أن اللغة تعتبر ضرورية على الدوام «للمرور» بتلك الحالات. إذا كان الأمر كذلك، فلن يستطيع الرضَّع من البشر الشعور بالألم، والمتعة، والخوف قبل اكتسابهم اللغة، وهي فكرة يُقر الجميع تقريبًا بعدم منطقيتها اليوم. صحيح أن بعض التجليات الشعورية المحددة — مثل الخوف من «الموت» — تنطوي على تفكير مجرد ما قد يتطلب توافر القدرة اللغوية بغرض تشكيل الأفكار ذات الصلة (على سبيل المثال، عن الموت)، غير أن ذلك لا يشير بأي حال من الأحوال إلى أن المخلوقات التي تفتقر إلى اللغة لا تمتلك أي مشاعر.
يسمع المرء أحيانًا الزعم القائل إن توافر درجة عالية من «العقلانية» يعتبر ضرورةً لتحقق حالات الدراية، بما في ذلك المشاعر، ولكن لا يوجد سبب وجيه لقبول هذا الزعم. وتأكيدًا، يعتبر وجود درجة عالية من العقلانية ضروريًّا لإجراء عمليات تفكير معقدة للاستجابة إلى مشاعر محددة، مثل وضع خطط مفصلة لتحسين الصحة، ومن ثم تقليل الألم والكرب الناشئَيْن عن المرض. في المقابل، لا يتطلب المرور بحالات الألم، والكرب، والمشاعر الأخرى التي ناقشناها توافر القدرة على التفكير المعقد.
قد يحاول أحد المتشككين أيضًا الرد على الطرح القائل إن الحيوانات تمتلك دراية من خلال الدفع بأنها تفتقر إلى «الدراية بالذات». ولكن يفشل هذا الطرح في التمييز بين الدراية والدراية بالذات، أو يفترض أن الدراية تعتمد على الدراية بالذات. يجب في المقابل الإشارة إلى أن الدراية بالذات تعتبر من ناحية المفهوم أكثر تحديدًا وتعقيدًا من الدراية الأساسية، لاكتنافها مفهوم الذات. من ناحية الحقيقة الموضوعية، لا يوجد سبب واضح في أن جميع صور الدراية يجب أن تشتمل على الدراية بالذات، بينما تتطلب رؤية شجرة — بافتراض استخدام مصطلح «رؤية» بصورة تنطوي على خبرة واعية — توافر دراية، لا يبدو أن هذه الخبرة البصرية تشترط توافر وعي يدرك من يقوم بعملية الرؤية. بناء عليه، نعتقد أن الرضَّع في الشهور الأولى من حياتهم يمتلكون بعض المشاعر، مثل الأحاسيس المؤلمة والسارة، قبل وقت طويل من تحقيق أي صورة يُعتد بها من صور الدراية بالذات.
مرة أخرى، قد يدفع المرء بأن افتقار الحيوانات إلى الوعي بالذات ينطوي على افتقارهم إلى بعض الحالات العقلية المحددة مثل المعاناة، حتى إذا كانت الحيوانات تمر ببعض الحالات العقلية. ربما لا يعتبر التعريف السابق «للمعاناة» كاملًا. وفق رؤية إريك كاسل، تنطوي المعاناة على إحساس المرء بوجود ذاته مع مرور الوقت، وفي الإحساس بالمعاناة يشعر المرء بوجود تهديد لسلامة ذاته. وإذ لا يوضح هؤلاء المتشككون المقصود من مصطلحات مثل «سلامة الذات» على نحو مفيد، لنسلِّم بالافتراض القائل إن المعاناة تنطوي على شعور المرء بوجود ذاته بمرور الوقت، بعبارة أخرى «دراية زمنية بالذات».
تتمثل الصعوبة الرئيسية لهذه الحالة من التشكك حول معاناة الحيوانات في وجود أسباب وجيهة للغاية للاعتقاد أن حيوانات كثيرة تمتلك وعيًا زمنيًّا بالذات. خذ على سبيل المثال الطرح القائل إن الفقاريات تمر بحالات خوف، وهو طرح لن ينكره إلا القليلون. لا يتحقق شعور الخوف على الإطلاق، مثلما أرى، إلا إذا توافرت دراية لدى الكائن الذي يشعر بالخوف باستمرار وجوده في المستقبل. على كل حال، يشعر المرء بالخوف من شيء قد يقع له في المستقبل (القريب للغاية). بطبيعة الحال، قد يظل المرء متشككًا حيال الوعي الزمني بالذات، وفي الشعور بالمعاناة، لدى الحيوانات من خلال الإصرار على عدم امتلاكها أي قدرة على الشعور بالخوف. إلا أننا قدمنا أدلة على وجود الخوف لدى الحيوانات ولم نرَ أي أدلة أو نجد أطروحات تدعم الزعم القائل بافتقار الحيوانات إلى الدراية الزمنية بالذات.
تدعم الاعتبارات الأخرى، بما في ذلك الاعتبارين التاليين، وجود دراية زمنية بالذات لدى الكثير من الحيوانات؛ أولًا: يميل علم سلوك الحيوان الإدراكي المتنامي — الذي يبحث سلوك الحيوان في سياق البيولوجيا التطورية — إلى دعم وجود معتقدات، ورغبات، وأفعال عمدية لدى الكثير من الحيوانات. يتمثل الطرح الأساسي هنا في أن «أفضل تفسير» لسلوك الحيوانات — مع الوضع في الاعتبار كل شيء نعرفه عنها — يتطلب توافر هذه السمات. في المقابل، إذا أراد (رغب) الكلب روفس في الذهاب إلى الخارج لدفن عظمة، ثم فعل ذلك بصورة عمدية، سيشير ذلك إلى أن روفس يمتلك بعض الدراية بوجود ذاته على مدار فترة من الوقت. تتعلق الرغبات عادة بحالات تنطوي على إحساس المرء بذاته في المستقبل، وتُنفذ النوايا مع مرور الوقت. ثانيًا: تتوافر أدلة قوية مستقلة تشير إلى أن الفقاريات تمتلك ذاكرة فضلًا عن توقعات حول المستقبل. على سبيل المثال، بيَّنا بصورة دقيقة أن الكثير من الطيور تمتلك ذاكرة قوية تمكِّنها من تذكُّر مكان إخفاء الطعام. إذا كانت ذاكرة الحيوان أو توقعاته، مثلما يبدو على الأرجح، تشمل تمثيلات «للحيوان نفسه»، مثل ذكرى إصابته، فسيتضمن ذلك وجود قدر من الدراية الزمنية بالذات. ختامًا، بينما قد تتطلب معاناة الحيوانات — إضافة إلى مشاعر أخرى، بما في ذلك الخوف — درجة من الدراية الزمنية بالذات، توجد حُجة قوية تشير إلى وجود حالة من الدراية بالذات لدى معظم الفقاريات على الأقل.
لنضع الأمور في نصابها الآن بصورة موجزة. بدأ هذا الفصل بثلاثة أشخاص في موقف المراقبين، عزوا شعور الخوف إلى راكون، وشعور الألم الشديد والمعاناة إلى ثعلب، وشعور القلق إلى كلب. صرنا الآن في وضع نستطيع معه القول إن الأدلة المتوافرة حاليًّا تدعم في أغلب الأحيان وجود هذه السمات لدى الحيوانات.