الجماهير المولعة بالنقد
كان المنحنى المهم الذي اتخذته حياة نيوتن بعد أن أصبح عضوًا أساسيًّا بالكلية في عام ١٦٦٨ ميسرًا إلى حد كبير بفضل إسحاق بارو، الذي كان في ذلك الحين قد أدرك قدرات نيوتن. فقد وجه لنيوتن الشكر (وإن لم يكن بالاسم) على مساعدته له في مراجعة كتابه «المحاضرات الثماني عشرة» عن الظواهر البصرية في عام ١٦٦٩، وحضر نيوتن بشكل شبه مؤكد محاضراته في علم البصريات الهندسية في عامي ١٦٦٧ و١٦٦٨. وكان بارو على الأرجح غير مدرك للطبيعة الجذرية لأعمال نيوتن في هذا المجال، ولكن بفضل دعمه، انتُخب نيوتن كخليفة له في كرسي أستاذية الرياضيات في جامعة كامبريدج في سبتمبر عام ١٦٦٩.
في أوائل عام ١٦٦٩، أطلع بارو نيوتن على نسخة من كتاب نيكولاس ميركاتور «تقنية اللوغاريتمات»، الذي نُشر في أواخر العام السابق. وفيه اكتشف ميركاتور طريقة لاشتقاق قيم للوغاريتمات باستخدام المتسلسلة اللامتناهية؛ وادعى نيوتن فيما بعد أنه عندما قرأ العمل، اعتقد (خطأ) أن ميركاتور قد اكتشف نظرية ذات الحدين المعممة لتوسيع متعددات الحدود عن طريق القوى الكسرية. وعلى أي حال، فقد كانت رؤية كتاب ميركاتور وإدراك أن ميركاتور قد بدأ في «تربيع» الحدود لإنتاج متسلسلة لامتناهية دافعًا له لتأليف عمل رياضي فذ ورائع، يُعرف الآن باسم «عن التحليل بواسطة المتسلسلة اللامتناهية» (أو «التحليل»). ولم يذكر نيوتن نظرية ذات الحدين في هذا العمل، ولكنه من بين أشياء ثمينة أخرى عرض عددًا من المتسلسلات اللامتناهية المقربة لقيم جيب الزاوية وجيب التمام، إلى جانب تقنيات دمج المنحنى الدويري ومنحنى كوادراتركس، وأعلن أن طرق المماسات والتربيعات كانت تقنيات معكوسة، واستقى من أطروحته الصادرة عام ١٦٦٦ ليقدم أساسًا متينًا لطريقة الفروق المستمرة الخاصة به. واستقى من عمله «عن التحليل» في خطابين رياضيين مهمين كتبهما للايبنتز في عام ١٦٧٦.
نقل بارو هذا العمل إلى عالِم الرياضيات جون كولينز الذي وُلد وعاش في لندن، في نهاية يوليو عام ١٦٦٩، مفصحًا عن هوية نيوتن كمؤلف للعمل بعد ذلك بشهر. كانت المتسلسلة اللامتناهية رائجة للغاية، وعن طريق كولينز، وإنجازات نيوتن، وكذلك النص الفعلي، لفتت انتباه علماء الرياضيات الآخرين. والواقع أن نيوتن قد التقى كولينز في لندن في نوفمبر، حيث ناقشا معًا تلسكوبه العاكس، وتوسعات المتسلسلة، والنسب التوافقية، وحقيقة أن نيوتن قد قام بتجليخ عدساته. غير أن كولينز لاحظ أنه كان راغبًا عن الإفصاح عن الطريقة العامة التي تشكل أساس عمله. وفي ذلك الوقت طلب بارو من نيوتن التعليق على كتاب «الجبر» لجيرارد كينكويسين، الذي كان كولينز قد ترجمه مؤخرًا. ولم تنشر ملاحظات نيوتن الشاملة قط، ولكنه على أي حال أظهر ما رآه كولينز عزوفًا غريبًا عن ربط اسمه بالعمل. وأوضح لكولينز في سبتمبر عام ١٦٧١ أنه أراد لعمله أن يظهر بلا اسم — إن ظهر من الأساس — ولم تكن لديه رغبة «في أن يحظى بالتقدير كشخص طموح وسط الناس لمجرد طباعة كلامه غير المكتوب بعناية». وكان هذا التوجه هو الحاكم لعلاقاته مع الجماهير المحتملة لأعماله على مدار العقود الثلاثة التالية.
كانت محاضرات نيوتن في علم البصريات الهندسية مختلفة اختلافًا جذريًّا عن تلك التي ألقاها سابقه. فقد وظف مجموعة من التجارب، والموشورات، والعدسات لإثبات نظريته عن تغايرية الضوء الأبيض، ووضع تركيزًا كبيرًا على الدقة الرياضية واليقينية التي اتسم بها عمله، مجادلًا بأن الفلاسفة الطبيعيين عليهم أن يتخصصوا في الهندسة ولا بد أن يكفوا عن التعامل مع المعرفة التي لا تتجاوز حد «الترجيح». وكان هذا هو أول تصريح علني لنيوتن بأن الفلسفة الطبيعية تستطيع بلوغ مستوى مطلق من اليقين ولا بد أن تقوم على المبادئ الرياضية.
في هذه المرحلة، كان بإمكان نيوتن أن ينشر أعمالًا من شأنها أن تميزه كواحد من أكثر العلماء إنتاجًا وغزارة، وبالتأكيد كأروع وأذكى عالم رياضيات رآه العالم. أمضى كولينز بعض الوقت في حثه على نشر كل من «عن التحليل» ونسخة من محاضراته في البصريات، وبذل نيوتن جهدًا كبيرًا في تنقيحهما، موسعًا نطاق «عن التحليل» (في أوائل عام ١٦٧١) ليصبح أطروحة حول طريقتي المتسلسلة اللامتناهية والفروق المستمرة. كذلك أعاد كتابة محاضراته في البصريات في النصف الثاني من عام ١٦٧١، مخرجًا نسخة جديدة اختلفت عن الأولى في كونها قد أشارت إلى ضرورة قياس الانعكاسات والانكسارات قبل مناقشة طبيعة الألوان. غير أنه عندما حثه كولينز مجددًا في أبريل من عام ١٦٧٢، أخبره نيوتن أنه كان يفكر في إعداد كتاب مشترك لأعماله في مجالي الرياضيات والبصريات، ولكنه تخلى عن الفكرة «إذ وجدت أن تلك الفائدة القليلة التي سأجنيها من النشر ستحرمني من الاستمتاع بحريتي الخالصة السابقة إلى أن أنتهي منه». على الرغم من ذلك، كان اسمه قد ظهر في تلك الفترة كمحرر لكتاب عن الجغرافيا من تأليف برنارد فارينيوس، وهو العمل الذي اعترف لاحقًا بأنه لم يضف إليه سوى القليل.
كان احتكاكه الأول بجمهور دولي هو سبب تحرر نيوتن من الوهم. وكان كولينز قد علم من نيوتن بأمر تلسكوبه العاكس، و«أثير» الموضوع مجددًا في أواخر عام ١٦٧١ حين قام بارو بتسليم نسخة جديدة من الجهاز للجمعية الملكية، ونال الكثير من الإعجاب من جانب أعضاء الجمعية، وجرى فحصه وتدارسه بشيء من التفصيل «من جانب بعض من أبرز الشخصيات في علم البصريات وتطبيقاته العملية»، حسبما أخبره سكرتير الجمعية هنري أولدنبرج. وأخبر أولدنبرج نيوتن أنه قد تم إرسال وصف لتركيب الجهاز وقدراته إلى كريستيان هويجنز في باريس «لمنع ادعاءات الغرباء بملكيته، مثلما رأيت هنا على الأرجح، أو حتى معك في كامبريدج».
في المقابل، ارتدى نيوتن قناع الترفع واللامبالاة المعهود بشأن اختراعه، مخبرًا أولدنبرج أنه حاز هذا الجهاز في كامبريدج لبضع سنوات دون إثارة أي جلبة بشأنه. وأضاف نصيحة بشأن كيفية صنع خليط معدني لصنع مرآة التلسكوب، ووجه الشكر للجمعية لانتخابه عضوًا بها. وواصل تواضعه في قبول عرض عضوية الجمعية، عارضًا إرسال أي شيء يمكن «لمساعيه المتواضعة والمستقلة» أن تفعله لإفادة أنشطتهم. غير أن هناك خطابًا آخر أظهر أنه قد وُجه إلى صنع تلسكوبه العاكس بواسطة ما يعتبره «أغرب — إن لم يكن أهم — كشف تم التوصل إليه حتى الآن في عمليات الطبيعة». وبموجب ذلك، تلقى أولدنبرج ورقة نيوتن البحثية الخطيرة التي غيرت مجرى التاريخ في أوائل فبراير من عام ١٦٧٢.
نيوتن في الجمعية الملكية
خلال الأعوام التالية على تأسيسها في عام ١٦٦٠، ابتدعت الجمعية الملكية ما كان في الواقع توجهًا رسميًّا فيما يتعلق بأفضل الطرق لإجراء التجارب ووصفها تفصيليًّا. كان ذلك إلى حد كبير مبنيًّا على الأسلوب الذي اتبعه روبرت بويل، الذي اقترح في كتاباته أن يتبع المؤلف أسلوب «السرد القصصي». وكان ذلك يتطلب من المؤلفين وصف ما قاموا به فعليًّا في موقف معين بأكبر قدر ممكن من التفصيل. وأينما يمكنهم ذلك، يتوجب عليهم تجنب أي إشارة إلى فرضيات لم تكن قابلة للاختبار تجريبيًّا، وعليهم أيضًا ألا يصدروا أي بيانات عامة متعجلة عن سلوك الطبيعة في جميع الحالات المتشابهة. كذلك كان عليهم التزام الاعتدال في مزاعمهم، إلى حد أنه كان عليهم ألا يدَّعوا قطعية لآرائهم أكبر من تلك التي تكفلها الأدلة. فالوقت واستنساخ الظواهر من جانب الكثير من الأشخاص الآخرين في عدد من المواقف من شأنهما إثبات صحة أو خطأ أي ادعاء. وقد كان بويل يعتقد أن بعض الفلاسفة الطبيعيين ذوي الميول الرياضية لديهم ثقة مفرطة في تطبيق التقنيات الرياضية على العالم الطبيعي، وفي ادعاء درجة غير مبررة من القطعية واليقين لأعمالهم.
في بحثه الذي قدمه في فبراير، بدأ نيوتن يروي بأسلوب السرد القصصي أنه — في خضم محاولته لتجليخ العدسات غير الكروية — قام بشراء موشور في عام ١٦٦٦ ومرر ضوء الشمس من خلاله في غرفة مظلمة على حائط على بُعد ٢٢ قدمًا من أجل اختبار «ظواهر الألوان». وعلى عكس توقعاته بأن يرى صورة دائرية وفقًا لقوانين الانكسار، فوجئ بأن الصورة «مستطيلة». وبحسب روايته، فقد استبعد تدريجيًّا تفسيرات متعددة لظهور «الطيف» المستطيل، ومنها سمك أو عدم استواء الزجاج، وأجرى قياسًا دقيقًا للإعدادات التجريبية. وكان الفارق بين الزاوية التي تصنعها الأشعة الداخلة إلى الموشور (٣١') وتلك التي تصنعها الأشعة الخارجة منه (٢° ٤٩') أكبر من أن يفسَّر بقوانين الانكسار التقليدية.
«وفي نهاية المطاف»، كما أشار، توصل لما أسماه «التجربة الحاسمة»، وهو مصطلح مشتق من العبارة البيكونية «الظواهر الحاسمة». وكانت هذه التجارب نسخة مصقلة — وإن كانت مبهمة — من تجربة الموشورين الموصوفة في أكثر مقالاته عن الألوان نضجًا. فقد أخذ لوحين؛ بكل منهما فتحة صغيرة للغاية، واضعًا أحدهما بجوار النافذة (حيث وضع الموشور الأول)، والآخر على بُعد ١٢ قدمًا من النافذة. وعن طريق تدوير اللوح الأول حول محوره، أتاح لأشعة ملونة مختلفة بالمرور عبر الفتحة في اللوح الثاني لتسقط على موشور ثان يقع بجواره على الجانب الآخر. وكما اتضح أكثر فيما بعد، كان من المفترض أن تظهر التجربة أنه على الرغم من أن جميع الأشعة الملونة لها نفس زاوية السقوط بالنسبة للموشور الثاني، فقد تعرضت كل أشعة على حدة لنفس درجة الانكسار عند خروجها من الموشور الثاني مثلما حدث عند خروجها من الموشور الأول. فلم تتغير درجة قابلية الانكسار بفعل الموشور الثاني «وهكذا كان لكل أشعة ملونة «استعداد» فطري … للتعرض لدرجة معينة من الانكسار». وعلق قائلًا إن الزيغ اللوني قد وضع قيودًا على نوعية الدقة التي يمكن الحصول عليها من التلسكوبات الكاسرة.
وفي منتصف النص، تخلى نيوتن عن أسوب السرد القصصي؛ بدعوى أن الاستمرار على ذلك النسق سوف يجعل بحثه «مملًّا ومحيرًا». وقال إن الفلاسفة الطبيعيين سوف يذهلون عند اكتشاف أن نظرية الألوان كانت «علمًا» قائمًا على المبادئ الرياضية؛ إنها لم تكن افتراضية، ولكنها كانت مؤكدة تمامًا لكونها قائمة على تجارب لا تقبل الجدال. وفي بقية البحث، عرض توضيح «العقيدة» التي قامت عليها نظريته، مع إضافة تجربة أو اثنتين كأمثلة توضيحية. إن أي أشعة من أي نوع معين «تتشبث باستعادة لونها» عند تمريرها عبر موشورات متعاقبة «رغم محاولاتي المضنية لتغييرها». وقال متهللًا إن أروع ما في الأمر حقيقة أن الضوء الأبيض يتألف من جميع الأشعة الأولية مجمعة معًا. واستطاعت نظريته أن تفسر ألوان جميع الأجسام الطبيعية، التي كانت تُرى كلون معين نظرًا لميلها لعكس أشعة معينة دون غيرها. واختتم بقوله إنه من الأصعب كثيرًا أن تحدد ماهية الضوء، وكيف يمكن كسره، أو «بأي أساليب أو أنشطة يخلق في عقولنا خيالات الألوان؟» على الرغم من أنه قد أبدى ملحوظة خطيرة بالتأكيد على أنه «ربما» لم يعد هناك إنكار لفكرة أن الضوء ذو طبيعة حسية (بمعنى أنه مؤلف من أجسام). غير أنه قال إن هذا الزعم الأخير ليس أساسيًّا لحجته، وإنه لن «يخلط التخمينات بالحقائق».
لم يكن المقال مجرد التحدي الأكثر غلوًّا للأفكار المتفق عليها بشأن علم البصريات في التاريخ المعاصر، ولكنه كان بيانًا واضحًا لما اعتبره نيوتن الطريقة الملائمة لفحص وتبرير الادعاءات والمزاعم العلمية. في المقابل، علَّق أولدنبرج بأن الزملاء قد درسوا البحث ﺑ «انتباه فريد وتصفيق حار واستحسان غير عادي»، وطلب أن يُطبع ويُنشر في دورية «المعاملات الفلسفية». وذكر كذلك أن الجمعية قد قررت ضرورة قيام بعض أعضائها بمحاولة إعادة التجارب الواردة بالبحث، وأيضًا بعض التجارب الأخرى ذات الصلة. ورد نيوتن بأنه قد أرسل البحث إلى الجمعية لكونهم «القضاة الأكثر صراحة وكفاءة في الأمور الفلسفية»، وأشار إلى أنه يعتبرها «ميزة عظيمة أن يكون بإمكانه «بحرية» الآن أن يحول انتباهه «إلى مجلس في غاية الحكمة والحيادية» بدلًا من توجيه أحاديث إلى جمهور متحامل ومولع بالنقد (ترتبك بسببه العديد من الحقائق وتضيع)».
مشكلة الفرضيات
كان للنشر المشترك لوصف التلسكوب والبحث الخاص بالضوء والألوان فضل في شهرة نيوتن. وقد عبر عدد من الفلاسفة المعاصرين، أبرزهم كريستيان هويجنز، عن إعجابهم واستحسانهم للعمل. غير أن نجم الجمعية الملكية روبرت هوك، كتب إلى أولدنبرج في غضون أسبوع يخبره أن لديه تحفظات خطيرة بشأن النظرية. وعلى الرغم من اتفاقه في الرأي على أن الظاهرة حقيقية، فإنه لم يكن يعتقد أن تفاوت قابلية الانكسار لا يمكن تفسيرها إلا بواسطة نظرية نيوتن عن تغايرية الضوء الأبيض، كما لم يوافق على كونها قد أظهرت أن الضوء ذو طبيعة حسية. وأعلن هوك أنه اكتشف نتائج مماثلة من قبل، وأنه لا يستطيع الموافقة على أن نظرية نيوتن عن الضوء الأبيض مؤكدة كما حاول نيوتن أن يثبت.
كانت فرضية هوك، والتي تنص تحديدًا على أن الضوء عبارة عن ذبذبة أو حركة انتقلت عبر وسط غير متمايز وغير مرئي — مع كون اللون تعديلًا للضوء يحدث بفعل الانكسار — قائمة، حسبما أكد، على مئات التجارب. ولو أن نيوتن حقًّا لديه تجربة حاسمة ومقنعة واحدة تثبت فرضيته، لاتفق هوك مع نظريته بسهولة. غير أنه استطاع التفكير في فرضيات أخرى عديدة من شأنها أيضًا أن تفسر ما حدث. لِمَ ينبغي أن تكون كل الحركات التي تؤلف اللون مركزة في الضوء الأبيض «قبل» أن يصل إلى الموشور؟ لم يكن هناك ضرورة تستدعي أن يكون الأمر هكذا، مثلما لم يكن يوجد ضرورة لأن تصدر الأصوات الموجودة في المنافيخ فيما بعد من مزامير آلة أرغن. لقد كانت نظرية نيوتن مجرد فرضية — وإن كانت «في غاية الإتقان والبراعة» — ولم تكن مؤكدة للغاية كبرهان رياضي.
استخدم نيوتن في رده المطول على هوك في يونيو ١٦٧٢ وفرة من المعلومات والبيانات من محاضراته في البصريات وكذلك من مفكرته المعملية، وكان الرد في حد ذاته إنجازًا مهمًّا في علم البصريات. بدأ الرد بتوبيخ متغطرس لسلوك هوك. فقد كان على هوك «أن يطوق عنق» نيوتن بخطاب خاص، على الرغم من أن «الفرضية» التي نسبها له هوك لم تكن هي الفرضية التي تحدث عنها نيوتن في بحثه؛ فلا شيء يتوقف على ما إذا كان الضوء جسمًا أم لا. تجاهل نيوتن «الفرضيات» التي كان يحتقرها، متحدثًا عن الضوء «بمصطلحات عامة، معتبرًا إياه كشيء أو آخر ذي طبيعة مستقلة ينتشر في كل اتجاه في خطوط مستقيمة من أجسام مضيئة، دون تحديد ماهية هذا الشيء».
بعد ذلك، شن نيوتن هجومًا مباشرًا على نظرية هوك الموجية للضوء، مستخدمًا الحجج والبراهين التي كان قد توصل إليها حين كان طالبًا. فقال إن المرء قد يقبل أن تُعد فرضية هوك تفسيرًا للظواهر التي وصفها نيوتن، ولكن الأمر محاط ببعض الصعوبات. فموجات واهتزازات السوائل لا تنتقل في خطوط مستقيمة، مثلما تفعل أشعة الضوء فيما يبدو، والأسوأ أنه باعتبار أن الأجسام المختلفة تطلق نبضات «غير متساوية» بالضرورة، فإن الضوء العادي لا بد وأن يكون مزيجًا من النبضات غير المتساوية، أو «مجموعة من الأشعة غير المتناسقة»، وكان ذلك هو نوع التغايرية التي دلل عليها نيوتن. وأسهب نيوتن في هجومه قائلًا إن فرضية هوك لم تكن تفتقر للكفاية فقط، ولكنها ملتبسة وغامضة أيضًا، ولو أنه باحث كفء، لوجد أن ما قاله نيوتن صحيحًا. فمن خلال دراسة الضوء «بوجه عام»، وجد أن هناك أكثر من لونين أساسيين، على عكس ادعاء هوك، بينما كانت التجربة الحاسمة بالفعل كما وصفها نيوتن.
لم تخف على هوك نبرة التوبيخ، وقد أشار في خطاب لأحد كبار أعضاء الجمعية الملكية إلى أنه منذ ذلك الحين أجرى مزيدًا من التجارب بالموشورات والحلقات الملونة، كما اقترح نيوتن، إلا أنه ظل غير مقتنع بنظرية نيوتن. غير أنه أضاف أنه يعتذر إذا كان نيوتن قد شعر بالإساءة مما كتبه، إذ إنه لم يَعنِ به شخصه على الإطلاق. وشدد هوك على أن لديه أدلة مقنعة تثبت صحة آرائه، وأنه بالفعل قد أجرى تجارب على انكسار الضوء أظهرت أن الضوء بالفعل — في ظل ظروف معينة — ينتشر في مساحات «ظليلة». وأبدى أسفه لغموض فرضياته، على الرغم من أنه أشار في سخرية إلى أنه لم «يشكك قط» في قدرة نيوتن على تفسير كيفية احتفاظ الأشعة الأولية بقابليتها الثابتة للانكسار بعد الانكسار، ثم جعلها تتجمع مجددًا «وتتحد في أشعة واحدة، ثم يفترق كل جزء مجددًا ويواصل طريقه مباشرة ودون أي معوقات وكأنها لم تلتق من قبل قط». ربما يكون نيوتن قد استوعب ذلك، ولكن هوك لم يستوعبه، مثلما لم يستوعب أيضًا لماذا كان نيوتن يخشى الإفصاح عن الماهية الحقيقية لشعاع الضوء.
أرسى رد هوك — المتمسك بوجهة نظر تذهب إلى أن التفسيرات الفلسفية يجب أن تشير إلى أسباب مادية ملموسة — نموذجًا للطريقة التي استوعب بها الفلاسفة الطبيعيون نظام نيوتن فيما بعد. وفي أوائل العام اللاحق، أعاد كريستيان هويجنز إثارة الفكرة التي طرحها هوك ومفادها أن هناك عددًا محدودًا من الألوان الأساسية يمكن منها تكوين جميع الألوان الأخرى. وصرح أيضًا أن نيوتن لم يلتزم بالعقيدة الأساسية للفلسفة الميكانيكية، تحديدًا أنه ملزم بوضع فرضية مادية تفسر الألوان الموشورية المختلفة. وعلق هويجنز أنه حتى قيامه بذلك «لم يعرِّفنا من أين تشكلت طبيعة الألوان واختلافها؟ بل أطلعنا فقط على تلك الظاهرة (المهمة للغاية) الخاصة باختلاف درجة قابليتها للانكسار».
يبدو أن تلك كانت هي القشة الأخيرة بالنسبة لنيوتن، الذي أخبر أولدنبرج برغبته في الاستقالة من الجمعية الملكية؛ لعجزه عن إفادتهم بسبب «بعده» عن لندن. في الوقت نفسه، أخبر كولينز أنه لاقى بعض «الفظاظة» من جانب أعضاء الجمعية، وهو التعليق الذي بلغ إلى مسامع أولدنبرج. فأخبر سكرتير الجمعية الملكية نيوتن أن كل جماعة بها من يثير المشاكل، في إشارةٍ إلى هوك، و«أن الهيئة بوجه عام تكن لك التقدير والحب».
على الرغم من ذلك، أرسل نيوتن ردًّا عاصفًا لهويجنز، فقال إنه من المستحيل أن تستخرج ألوانًا موشورية من الأصفر والأزرق، ولا يمكن تصور كيف يمكن لظواهر الضوء الأساسية أن تكون ناتجة عن نوعين فقط من الأشعة. وعلى الرغم من أنه قد ذكر الحقيقة في بحثه الأصلي، فقد أدى تعليق هويجنز إلى إجبار نيوتن على تكرار القول بأن الأشعة البسيطة والمركبة قد تبدو متماثلة، ولا يمكن تمييزها إلا بالتجربة. فإذا كان «يمكن» استخراج الضوء الأبيض من شعاعين ملونين فقط، فهذا يعني أن الأشعة مركبة بالفعل وليست أولية. وكأن الأسلوب لم يكن فظًّا بما يكفي، قال نيوتن بأسلوب فظ ومتعال إنه كان واضحًا للغاية «أنني أرى أنه لا يمكن أن يكون هناك مزيد من الحيرة، خاصةً لمن يعرفون كيف يبحثون ما إذا كان اللون بسيطًا أم مركَّبًا، ومن أي ألوان يتألف».
وعلى الرغم من إخبار أولدنبرج له أن نيوتن رجل يتسم بقدر كبير من الإخلاص وسلامة النية، فقد غضب هويجنز من موقف نيوتن، مشيرًا إلى أنه لا يرغب في التنازع مع نيوتن إذا كان يدافع عن نظريته بمثل هذا الانفعال. غير أنه تكرم بإرسال نسخة من كتابه «الساعة الاهتزازية» إلى نيوتن. وشكره نيوتن على كتابه، الذي كان مليئًا «بالتأملات البارعة والمفيدة» (مثل معادلة القوة الطاردة المركزية)، ولكنه رد على نقد أسلوبه بقوله إن الأمر كان «مزعجًا» فيما يبدو؛ أن يُواجه باعتراضات أجاب عنها بالفعل. وكرر على أولدنبرج — في خطاب احتوى رده على هويجنز — نيته «ألا يهتم مجددًا بأمور الفلسفة».
واصل نيوتن مراسلة كولينز وغيره من علماء الرياضيات على فترات متقطعة، مناقشًا معهم تقنيات مختصرة لتسهيل إنشاء جداول اللوغاريتمات، والأرقام التربيعية، والجذور التربيعية والتكعيبية. ولكن في تلك الفترة تكالبت عليه موضوعات أخرى واقتحمت حياته. وفي أواخر عام ١٦٧٤، وجد نفسه في مواجهة الحاجة لأن يُرسَّم كاهنًا، ومن ثم تأكيد التزامه نحو عقيدة الثالوث القدوس من أجل الاحتفاظ بعضويته للكلية. ولأسباب سأذكرها في الفصل التالي، لم يعد هذا ممكنًا، وفي يناير من العام اللاحق، ألمح لأولدنبرج أنه على وشك فقدان منصبه في ترينيتي. ولكن بعد رحلة إلى لندن في أواخر فبراير لمقابلة مسئولين حكوميين رفيعي المستوى، تلقى نيوتن إعفاءً خاصًّا يمكِّنه من الاستمرار كعضو بالكلية دون الترسيم كاهنًا في ربيع ١٦٧٥. وربما كان دعم بارو (الذي كان قد أصبح أستاذًا بالكلية) عنصرًا أساسيًّا في نجاحه.
أيام غائمة وموشورات سيئة
في الوقت الذي اعتقد فيه نيوتن أنه قد تخلص من التصارع والتشاحن في الساحة العامة، بدأت جولة جديدة من المراسلات لتعيده إليهما تارة أخرى. فقد شن نقد من فرانسيس لينوس — بالكلية اليسوعية بمدينة لييج — نوعًا جديدًا من الهجوم على نظرية نيوتن، واصله الزملاء نيابة عن لينوس عند وفاته في عام ١٦٧٥. عني هذا النقد بالصعوبة العملية للاتباع التفصيلي للتعليمات المتعددة التي قدمها نيوتن في أبحاثه، وكذا صعوبة تحقيق النتائج التي قال إنها ستنشأ عن ذلك. وكان نيوتن قد تنبأ إلى حد ما بمثل هذه المشكلات، التي كانت جزءًا أصيلًا من منهجه الرياضي، حيث التعامل مع موقف أو موقفين تجريبيين يتسمان بالتجريد والمثالية بدلًا من التعامل مع مجموعة من التوصيفات المفصلة للعديد من التجارب ذات الصلة. وعندما أرسل إليه أولدنبرج بعض الاستفسارات التي صاغها أعضاء الجمعية الملكية ردًّا على بحثه الأول عن الضوء والألوان، اعترف نيوتن بأن شرحه كان مبهمًا، وأن توصيفاته ربما كانت لتصبح أطول وتحتوي على المزيد من المخططات البيانية، لو كان يعتزم نشرها.
تضخمت المشكلة مع لينوس في المراسلات اللاحقة مع زميليه بالكلية اليسوعية، جون جاسكوينز وأنطوني لوكاس. فعلى الرغم مما بدا من أن عددًا من الفلاسفة الطبيعيين البريطانيين قد أعادوا إجراء معظم تجارب نيوتن دون مواجهة الكثير من الصعاب، فقد أثبتت المراسلات مع اليسوعيين مدى الصعوبة التي واجهها بعض من الفلاسفة النوابغ في تكرار تجاربه، أو حتى فهم فكرتها. ومن جانبهم، كان اليسوعيون يعتقدون أنهم يتبعون عقائد ومبادئ الجمعية الملكية في تمسكهم بأن المعرفة العلمية لا يمكن بناؤها إلا تدريجيًّا، من خلال إجراء عدد من التجارب المختلفة التي تلقي الضوء على مختلف جوانب النظرية. ولما كانت نظرية نيوتن جديدة للغاية — بحسب قولهم — فقد كان عليه مسئولية إثباتها. فقال نيوتن، الذي شعر أن اليسوعيين يهاجمون أمانته وكفاءته على نحو صريح، بأن تجربته الحاسمة «وحدها» كافية لإثبات صحة نظريته. وراح ينتقد اليسوعيين لعدم اتباعهم تعليماته، وعجزهم عن قياس الانكسارات بالدرجة المطلوبة من الدقة (بالدقائق وليس بالدرجات فحسب)، واستخدام موشورات غير ملائمة، واعتمادهم على شواهد للمحاولات التجريبية اندثرت منذ زمن.
في وقت ما من عام ١٦٧٧، قرر نيوتن مجددًا نشر عمله في مجال البصريات (ربما مع عمله عن المتسلسلة اللامتناهية)، والذي يتألف من مزيج من محاضراته في البصريات ومراسلاته المنشورة. وقد نُقشت صورته لوضعها في صدر كتاب بريشة الفنان ديفيد لوجان في مارس من ذلك العام، ولكن الأمور لم تسر حسب الخطة الموضوعة. وفي فبراير من عام ١٦٧٨، طلب نيوتن من لوكاس نسخة من خطاب سابق (يعود إلى أكتوبر ١٦٧٦) أُرسل إليه من الكلية اليسوعية، وفقده نيوتن في حريق نشب مؤخرًا وقتئذٍ ودمر الكثير من أبحاثه وأوقفه عن مباشرة العمل الذي خطط له. وبالمصادفة، كان لوكاس قد تلقى تصريحًا من نيوتن قبل شهرين بنشر الخطاب نفسه في دورية «المعاملات»، ونقل إلى نيوتن عن طريق روبرت هوك، أحد أفراد السكرتارية الجدد للجمعية الملكية بعد وفاة أولدنبرج مؤخرًا. غير أن نيوتن أدرك بطريقة ما أن النسخة التي أرسلها هوك إلى دورية «المعاملات» كانت مختلفة بعض الشيء عن النسخة الأصلية. وفي خطاب أخير للوكاس في مارس عام ١٦٧٨، صب نيوتن وابلًا من الإهانات على مستوى العلم المقدم في خطابات لوكاس السابقة. وبينما كان على شفا انهيار عصبي، وصف لوكاس و«أصدقاءه» بأنهم يحيكون مؤامرة يسوعية ضده. فقد كانوا «يجرونه» إلى نزاعات علنية، وهو أكثر شيء كان يمقته. وأخبر نيوتن لوكاس أنه كان يرى أن معظم أفكاره «واهية» ولذا لا يمكن الاعتراف بها، بينما هناك «أسباب متعقلة أخرى» تفسر عدم رغبة نيوتن في «المجادلة» معه. ومع ذلك، فإذا كان النزاع العلني مع اليسوعيين غير مستساغ، فقد كان هناك اهتمامات أخرى لشغل وقته.