الكتاب المقدس
في أوائل يونيو ١٦٧٩، توفيت والدة نيوتن إثر حمى أصابتها فيما يبدو، بينما كانت ترعى أخاه غير الشقيق بنجامين. وبعد أن انشغل نيوتن بأمر مرض والدته، وأعمال المزرعة لقرابة ستة أشهر — دون أن نتجاهل الساعات العديدة التي كان يقضيها يوميًّا في دراسة الموضوعات اللاهوتية — عاد إلى كامبريدج في نهاية نوفمبر. وفي اليوم اللاحق لعودته من وولسثروب، رد على خطاب من روبرت هوك؛ كانت فاعليات الضيافة العلمية المبتكرة قد توقفت تقريبًا في اجتماعات الجمعية الملكية، حين التمس هوك — بصفته سكرتيرًا لها — من نيوتن أن يرسل أي شيء «فلسفي» قد يخطر له. وفيما شكَّل أهمية بالغة لتطوير حركة نيوتن المدارية، سأل نيوتن عن رأيه في نظريته الخاصة بتحليل الحركات الكوكبية بواسطة مسار قصوري مقترن بقوة تُوَجِّهُ جسمًا نحو مركز جسم جاذب.
وفي معرض رده، زعم نيوتن أنه لم يكرس قدرًا كبيرًا من التفكير للفلسفة لسنوات عدة «من منطلق تكريس نفسي لأمور أخرى»، ولكنه قدم «فكرة خيالية» صغيرة تتعلق بالحركة اليومية للأرض. فإذا سقط جسم على الأرض، فإن الدوران النهاري للأرض لن يؤدي إلى سقوط الجسم خلف النقطة التي تقع أسفله مباشرةً («على عكس الرأي الشائع لدى العامة») ولكن نظرًا لأن حركته من الغرب إلى الشرق تكون أكبر عند الارتفاع الذي أسقط منه من حركته عند المواضع الأقرب للأرض، فإنه يسقط «أمام» موضعه الأصلي (الجانب الشرقي). وإذا أسقط جسم من برج شاهق، فمن الممكن أن يتم إثبات الدوران النهاري بذلك، وعلى أساس الافتراض بأن الأرض لا تبذل أي مقاومة، رسم مخططًا يفصِّل المسار الحلزوني للجسم نحو مركزه.
وفي ظل عجزه المعتاد عن تحمل فكرة التعديل عليه، رد نيوتن مفترضًا مرة أخرى عدم وجود مقاومة، بأن الشكل لن يكون قطعًا ناقصًا، بل إن الجسم سوف «يدور في حركة متناوبة بين الصعود والهبوط ناتجة عن «قوته الطاردة» وجاذبيته، واللتين تفقد كل منهما توازن الأخرى بالتناوب». وتظهر إجابة نيوتن مدى ابتعاده عن تحليل الحركات السماوية التي تبناها بعد ذلك بسبع سنوات في كتاب «المبادئ الرياضية»، ولكنه ألمح أيضًا إلى طريقة أكثر تعقيدًا بكثير للتعامل مع المشكلة وفقًا لعناصر مستمرة ومتناهية الصغر للقوة الجاذبة. إضافةً إلى ذلك، فقد أشار ضمنًا إلى أنه استطاع التعامل مع قوة جاذبية لم تظل ثابتة، ولكنها تغيرت من المركز إلى الخارج.
عاود هوك الكتابة له مجددًا، مفصحًا تلك المرة عن أنه قد افترض أن الجاذبية كانت دائمًا تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة من مركز الجاذبية. وقال إن ما تبقى الآن من المفترض أن يبين ماهية المسار الذي يشكله جسم منجذب مركزيًّا بواسطة جسم معين وفقًا لقوة تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافات بينهما. وبعد أن عرض على نيوتن التنويه بالغ الأهمية الخاص بديناميكيات جديدة للقصور الذاتي مستقيم الخطوط والجذب المركزي، طرح هوك مسألة وثيقة الصلة بالموضوع (كان قد ناقشها في لندن من قبل رين وهوك على مدار عدد من السنوات) تتعلق بكيفية ربط قانون التربيع العكسي بمدار كوكبي؛ والمعروف من قانون كبلر الأول بكونه قطعًا ناقصًا. فأخبر نيوتن أنه لا يساوره أي شك في «أنك سوف تكتشف بسهولة ما ينبغي أن تكون عليه ماهية هذا المنحنى، وخواصه، وتقترح سببًا فيزيائيًّا لهذا التناسب». وعلى الرغم من إنكاره اللاحق لقدرات هوك، ورفضه استمرار المراسلات لأكثر من ذلك، فقد اعترف نيوتن فيما بعد لإدموند هالي أن هذا الحوار قد دفعه للتفكير مجددًا بشأن حركة الأجسام السماوية. والواقع أنه من المرجح أن يكون هذا هو الوقت الذي استخدم فيه نيوتن قانون كبلر الثاني على نحو جدي لإظهار أن أي جسم على مدار على شكل قطع ناقص إنما يخضع لقانون التربيع العكسي للجاذبية.
ولما انبهر نيوتن بالمذنب، راح يراقبه من يوم ١٢ ديسمبر ١٦٨٠ حتى اختفائه في أوائل مارس ١٦٨١، مستخدمًا مزيدًا من التلسكوبات القوية مع اضمحلال الجسم. ولعدم قدرته على تقبل فكرة أن المذنبين واحد، أبدى بعض الانتقادات التي تنم عن فهم عميق لآراء فلامستيد في نهاية فبراير. وعلق نيوتن أنه بالرغم من أنه قد استطاع تخيل استمرار الشمس في جذب المذنب لتجعله ينحرف عن مساره الأصلي، فإنها لم تكن لتجذب المذنب مطلقًا بما يجعل مصيره الانجذاب مباشرةً في اتجاه الشمس. إضافةً إلى ذلك، لم تكن الدوامة الشمسية لتفعل شيئًا سوى جذب المذنب بعيدًا عن الشمس فقط. ولكن حتى لو استدار مذنب واحد أمام الشمس، لم يكن ليعود في المسار الذي رآه الفلكيون. إلى جانب ذلك، وعلى فرض أن مذنبي نوفمبر وديسمبر واحد، فقد نشأت مشكلة أخرى بشأن الفترة الزمنية الكبيرة التي انقضت بين آخر مشاهدة لأول ظهور له وبين المشاهدة الأولى لظهور الثاني.
كان الحل الوحيد لهذه المشكلات — حسبما اقترح نيوتن — هو تخيل أن المذنب قد استدار «على الجانب الآخر للشمس»؛ إلا أن الآلية الفيزيائية لذلك لم تكن واضحة حينئذ. تقبل نيوتن فكرة أن الشمس بذلت قوة جاذبة مركزيًّا أبعدت الكواكب عن الخط المستقيم الذي كانت ستتخذه لولاها، ولكنها لا يمكن أن تكون قوة مغناطيسية؛ نظرًا لأن أحجار المغناطيس الساخنة (المغناطيسات الطبيعية) تفقد قوتها. والأهم أنه حتى لو كانت قوة الشمس الجاذبة تشبه المغناطيس، وكان المذنب أشبه بقطعة من الحديد، فإن فلامستيد لم يشرح كيف للشمس أن تتحول فجأة من الجذب إلى الطرد.
كان رفض نيوتن للقوة المغناطيسية الطاردة — كالمعتاد — جديدًا ومبتكرًا إلى حد هائل. فلو كان المذنب خاضعًا فقط لقوة جاذبة متواصلة، لخفف ذلك من سرعة المذنب عند مغادرته للشمس، وجعل المذنب يسير عبر مدار قريب من ذلك المدار المرصود. وربما لم يكن نيوتن قد رأى أن الحل الخاص بوجود مذنب واحد، يستخدم قوة جاذبة فقط، هو حل عملي إلا في هذه المرحلة. غير أنه في خطاب إلى فلامستيد، مستخدمًا نفس المصطلح الذي ذكره في خطابه إلى هوك، ذهب نيوتن إلى أن «القوة الطاردة» قد «تفوقت» على قوة الجذب عند نقطة الحضيض الشمسي، مما أتاح للمذنب الابتعاد عن الشمس رغم وجود قوة الجذب. وعلى الرغم من أن نيوتن قد تخلى عن هذا المفهوم الخاص بالقوة الطاردة باعتبارها الميل (أو المعيار) للجسم الدوار للابتعاد عن الجسم الجاذب، فقد كان مفهوم الجذب المتواصل حجر الزاوية للديناميكيات الأكثر نضجًا لكتاب «المبادئ الرياضية». فقد كان آنذاك على وشك إدراك كيفية التعامل مع المذنبات كأي أجرام سماوية أخرى؛ ولكن كان لا يزال يفصله عن ذلك ثلاث سنوات.
حركة الأجسام الدوارة
حين زار إدموند هالي كامبريدج لرؤية نيوتن في أغسطس ١٦٨٤، كان ذلك نتاجًا للمناقشات التي دارت في لندن فيما بين العلماء لفترة من الوقت حول الحركات السماوية. وعندما سأله هالي — وفقًا لما ذكره نيوتن — عن شكل المنحنى الذي سينتج من قانون التربيع العكسي للقوة، أجاب نيوتن على الفور بأنه قدر أنه سيكون قطعًا ناقصًا. غير أن نيوتن عندما بحث عن إثبات لذلك لم يجده، واضطر هالي للانتظار حتى نوفمبر، عندما تلقى أطروحة رياضية قصيرة بعنوان «عن حركة الأجسام في الفلك». كان الكون الموضح في أطروحة «حركة الأجسام» عبارة عن منظومة مجردة للأجسام المتحركة تتبع قوانين رياضية معينة. وابتكر نيوتن مصطلح «قوة الجذب المركزي» لوصف القوى الجاذبة مركزيًّا التي تعمل ضمن منظومته تلك، وعرَّف تلك القوة التي «يسعى بها أي جسم للاستمرار في حركته عبر خط مستقيم» بأنها «قوة فطرية». وبربطه بزعم آخر بأن الأجسام تستمر في التحرك بلا نهاية عبر خط مستقيم ما لم يؤثر عليها شيء، كان هذا هو الأساس لقانون الحركة الأول في كتاب «المبادئ الرياضية». وتحت عنوان «الفرضية ٣» وصف أيضًا نسخة أولية من قاعدة «متوازي أضلاع القوى» والتي أصبحت في النهاية قانون الحركة الثاني في كتاب «المبادئ الرياضية».
أظهرت النظرية رقم ٣ أن الأجسام الدوارة تخضع لقوة تربيع عكسي، ومضى نيوتن نحو إثبات أن الكواكب تنتمي لمثل هذه الأجسام، إذ تدور حول الشمس وفقًا للقوانين المحددة في هذه الأطروحة. وأثبت تحت عنوان «الإشكالية ٣» على نحو بالغ الأهمية أن أحد قوانين التربيع عكسي يحكم مسار الأجسام التي تتحرك في مدارات قطع ناقص. إلى جانب ذلك، كانت تلك هي المرة الأولى التي تُدمَج فيها المذنبات ضمن منظومة عالمية للفلسفة الطبيعية الرياضية، وذهب إلى أنه يمكن حتى من خلال التحليل الدقيق تحديد ما إذا كانت دورية (بمعنى أن لها مدارات قطع ناقص، ومن ثم كانت تعود على فترات منتظمة). وتحت عنوان «الفرضية رقم ١»، أشار إلى أن الأجسام في منظومته كانت تتحرك عبر أوساط غير مقاومة، وإن لم يضف أي مادة عن الحركة في وسط مقاوم في نموذج «الإشكالية» رقم ٦ و٧.
وتظهر مراسلات رائعة مع فلامستيد على مدار شتاء ١٦٨٤-١٦٨٥ أن نيوتن كان يحاول بالفعل ربط تحليله برؤية أدق للحركات الفعلية للكواكب وأقمارها، وكذلك حركات المذنبات، وأنه كان يختبر مدى دقة قانون كبلر الثالث. وكان فلامستيد الذي قرأ أطروحة «حركة الأجسام»، يعي أن أطروحة نيوتن الصادرة في نوفمبر تشير ضمنًا إلى أن الكواكب يمكن معاملتها كأجسام جاذبة مركزيًّا، شأنها شأن الشمس. وفي غضون ذلك ذهب نيوتن لأبعد من هذا، مفترضًا أنه لو كان كوكب المشتري يحكم حركات أقماره، فإنه بذلك يكون له تأثير أيضًا على الكواكب الأخرى، والعكس بالعكس. وطلب بيانات تتعلق ﺑ «تأثير» المشتري على كوكب زحل في خطاب أرسله في ديسمبر ١٦٨٤، إلا أن فلامستيد — الذي كان لا يزال يعتقد أن أي قوة من هذا النوع لا بد أن تكون مغناطيسية — رفض الإذعان لفكرة أن الكواكب تستطيع التأثير أحدها على الآخر لمثل هذه المسافات الطويلة.
حين ألَّف نيوتن نسخة منقحة لأطروحة «حركة الأجسام» في أوائل عام ١٦٨٥، كانت «الفرضيات» قد رفعت لمرتبة «القوانين». وعلى الرغم من أنه كان لا يزال بعيدًا بعض الشيء عن نظريته للجذب العام، كان نيوتن آنذاك قد أطلق الادعاء الثوري بأنه نظرًا لتقلبات التفاعلات الكوكبية المتبادلة العديدة، فإن مركز ثقل النظام الشمسي لم يكن دائمًا في نفس موضع الشمس، ومن ثم كانت مدارات الكواكب غير منتظمة دائمًا، أو لم تكن في شكل القطوع الناقصة الكبلرية. فقد كانت المدارات الكوكبية، التي ظلت لقرون نماذج للكمال الثابت الذي لا يتغير، في الواقع، تمر بتغيرات دقيقة باستمرار. وعلَّق نيوتن بأن العقل البشري كان عاجزًا عن التعامل مع تعقيد الحركات الحقيقية، ولكن في معظم الأحيان أمكن التعامل مع المدارات الكوكبية كمدارات قطع ناقص. وذهب فيما بعد إلى أن استقرار مثل هذه المنظومة يمكن إرجاع الفضل فيه فقط ليد خالق إلهي. وعند هذه المرحلة، قدم نيوتن أيضًا حجة كان لها بالغ الأهمية لمنهجه في كتاب «المبادئ الرياضية» فيما بعد، تحديدًا أنه بما أن المذنبات لم تتعرض لأي نقصان ظاهر في أذنابها، فإنه لم يكن يوجد شيء بالفعل في الفراغات الحرة للأكوان ليقاوم مساراتها. كذلك بدأ نيوتن في التفكير فيما إذا كان للأثير الغاية في الرقة الذي لا يظهر أي مقاومة وجود «من الأساس».
ثمة تغير هائل في تحليله للطريقة التي تغير بها أية قوة جسمًا متحركًا أتاح له أن يعيد تقديم مفهوم معمم للقصور الذاتي، والذي ينص تحديدًا على أن أي جسم يظل على حالته الحالية من الحركة أو السكون «واللتين ترتبطان بماهية النظام الذي اخْتِيرَ كإطار مرجعي». وأعقب ذلك رؤى مهمة وثورية. فأعلن نيوتن، متسلحًا بالمفهوم النسبي للقصور الذاتي، في مجموعة جديدة من «التعريفات» (كتبت بعد مراجعة «حركة الأجسام») أن الحركة الدائرية المنتظمة حول مصدر جاذب مركزيًّا لم تكن نموذجًا للحركة القصورية البسيطة، ولكنها في الحقيقة كانت نتاج اتحاد سرعة الجسم وقوة جاذبة باستمرار دفعتها للانحراف عن المسار الذي كانت لتتخذه لولا ذلك.
أثارت المضامين النسبية لمفهوم القصور الذاتي السؤال الشائك المتعلق بما إذا كان من الممكن اكتشاف حركة مطلقة، وهي مشكلة تعود إلى التحليل الذي أورده في أطروحته «الجاذبية». فمن خلال إدراكه للتبعات اللاهوتية والعلمية للمشكلة، أيَّد نيوتن بقوة — في إضافة أضافها للتعريفات — فكرة وجود فراغ مطلق مستقل عن الأشياء التي بداخله «إذ إن جميع الظواهر تعتمد على كميات مطلقة». وكما رأينا في ملاحظاته لبيرنيت، فقد كان يؤمن بأن الأشخاص العاديين يعرفون العالم بمصطلحات نسبية، وأن مخاطبة الأنبياء لهم بتلك اللغة كانت صحيحة وضرورية. وفي الإضافة التي أضافها للنسخة المنقحة من أطروحة «حركة الأجسام»، أشار نيوتن إلى أن «الأشخاص العاديين الذين يخفقون في استخلاص فكرة من مظاهر ملموسة دائمًا ما يتحدثون عن الكميات النسبية بإفراط، حتى أنه كان ليصبح من السخف أن يتحدث إليهم الحكماء أو حتى الأنبياء بلغة أخرى». ودون الإشارة إلى اللاهوت، شقت هذه الرؤية المهمة طريقها إلى كتاب «المبادئ الرياضية»، حيث قيل إن العامة يقدِّرون الكميات فقط في إطار ارتباطها ﺑ «أشياء ملموسة». غير أن نيوتن أردف قائلًا إن: «في المناقشات الفلسفية، علينا أن نبتعد عن حواسنا، ونفكر في الأشياء نفسها بمعزل عن اعتبار المقاييس الملموسة لها فقط.» على الرغم من ذلك، فقد اتضح في النهاية أن جهود نيوتن التي بذلها لتوضيح أن المرء بإمكانه اكتشاف إطار مرجعي «مطلق» يتميز عن أية أطر مرجعية أخرى؛ ما هي إلا جهود وهمية.
في نفس المسودة، أضاف نيوتن ستة «قوانين للحركة»، نص ثالثها على أن «كل قوة يسلطها جسم على آخر يقابلها رد فعل مساو لها في المقدار». وقد أقام هذا القانون في الواقع علاقة تساو بين القوة التي «يقاوم» بها أي جسم تحريكه (والتي أصبحت بعد ذلك «القوة الطبيعية للمادة» التي وصفت في التعريف رقم ٣ من كتاب «المبادئ الرياضية») والقوة «المبذولة» التي تقع على أي جسم، سواء على نحو متواصل أو على دفعات. وكانت تلك نسخة أولية من قانون الحركة الثالث الوارد في كتاب «المبادئ الرياضية»، وقد منحته — بالتعاون مع نظريته عن الكتلة — الأدوات التي أتاحت له تعميم مفهوم قوة الجذب المركزي على جميع الأجسام في الكون.
وضع نيوتن آنذاك تعريفًا أدق بكثير لكمية «كتلة» المادة، والتي أكد في البداية أنها «مساوية في الغالب» لثقلها. وفي مراجعة «للتعريفات» التي كُتبت في ربيع أو صيف ١٦٨٥، عرف نيوتن «كمية المادة»، (أو «الكتلة»)، كمادة أساسية وغير متمايزة، من ثم فإن أي جسم له «ضعف الكثافة وضعف المساحة» يصبح له أربعة أضعاف كمية الكتلة. ولعل الأهم على الإطلاق أن التحليل الجديد اشترط أن تكون كل المادة الأساسية متطابقة بالضرورة، وحيثما لا توجد أي مادة لا يوجد أي شيء على الإطلاق. وفي الكتاب الثالث، الفرضية ٦ من النسخة النهائية من كتاب «المبادئ الرياضية» (١٦٨٧)، ربط نيوتن على نحو غير صريح بين المفهوم الرياضي «للكتلة» وبين تحليله الخيميائي من خلال تقديم «الفرضية ٣» والتي أكد فيها أنه نظرًا لأن اللبنات الأساسية للمادة جميعها واحدة، فإن جميع أشكال المادة يمكن من حيث المبدأ «تحويلها» إحداها إلى الأخرى.
النيوتنيون القدماء
بحلول نوفمبر من عام ١٦٨٥، كان نيوتن قد انتهى من مسودة لكتاب «المبادئ الرياضية» جاءت أيضًا بعنوان «عن حركة الأجسام في الفلك»، وتألفت من كتابين، ما يسمى «محاضرات عن الحركة»، و«عن نظام العالم». وعمل كتاب «محاضرات عن الحركة» على توسيع نطاق البراهين التي وردت في النماذج الأولى لأطروحة «حركة الأجسام» (ومراجعاتها)، وحاول نيوتن أن يتعامل مع الإشكاليات العسيرة المتعلقة بدراسة التفاعلات المتبادلة القائمة بين أكثر من جسمين.
وعلى مدار شتاء ١٦٨٥-١٦٨٦، عمل نيوتن على توسيع كتاب «محاضرات عن الحركة» بتعزيز تحليله لحركات جسم تابع (جسم مجرد ولكنه يحمل خواصَّ مطابقة تقريبًا لخواص القمر) واقع تحت تأثير جسمين أو أكثر (مرة أخرى مجردين، ولكنهما يشيران بوضوح إلى الأرض والشمس)، وأضاف فرضية بارعة (هي الفرضية ٣٩) والتي أشارت جليًّا لدرايته بحساب التفاضل والتكامل. ولا شك أن هذا قد جاء إلى حد ما لتأكيد استقلاليته في تطوير حساب التفاضل والتكامل عن عمل لايبنتز، الذي نشر مسلماته وبديهياته الأساسية لأول مرة في عام ١٦٨٤. وفي أوائل عام ١٦٨٦، وسَّع نيوتن نطاق معالجته للحركات في أوساط مقاومة، وهو التحليل الذي اتسع نطاقه للغاية لدرجة أنه قسَّمه ليكون نصًّا أصبح فيما بعد الكتاب الثاني من كتاب «المبادئ الرياضية». فيما أصبح الجزء الأول الذي كان عبارة عن تحليل للحركات في أوساط غير مقاومة، هو الكتاب الأول. وفي النسخة النهائية من الكتاب الثاني، أضاف نيوتن مادة أكثر تعقيدًا عن الضغط واللزوجة، قائلًا إن وجود الدوامات الديكارتية مستحيل فيزيائيًّا.
بدأ نيوتن الكتاب الثاني من عمله الصادر عام ١٦٨٥، والذي ألفه بعنوان «الكون»، بإشارة إلى الفلسفة والفلك اللذين شكلَا أساسًا لأعمال أفلاطون، وفيثاغورس، والملك الروماني نوما بومبيليوس. فقد قام نوما «بتشييد معبد مستدير تكريمًا للإلهة فيستا، وأمر بوضع شعلة دائمة من النار في منتصفه» كرمز لشكل العالم الذي تقع الشمس في منتصفه. وكان نيوتن في مجادلته بأنه كان هناك معرفة بالعالم الطبيعي ولكنها أصبحت مفقودة، يحذو حذو غالبية معاصريه. ففي أطروحة ضخمة ترجع لمنتصف ثمانينيات القرن السابع عشر («الأصول الفلسفية للاهوت الوثني»)، ذهب نيوتن إلى أن القدماء كانوا يؤمنون بوجود كون شمسي المركز، ولكن هذه العقيدة فسدت وانحرفت بسبب سوء التأويل. وفيما كان فيثاغورس وآخرون يحملون فهمًا صحيحًا للمعنى الحقيقي للتمثيلات الرمزية لكون شمسي المركز، أحيطت فيه الشمس التي تقع في المركز بمدارات كوكبية متحدة المركز، كان الإغريق أمثال أرسطو يعتقدون أن الجسم المركزي في مثل هذه المنظومة هو الأرض.
بوضع الكواكب في الترتيب [الصحيح] بواسطة النغمات الموسيقية؛ وعلى سبيل السخرية من العامة، قاس فيثاغورس المسافات بين أحدها والآخر، والمسافة بينها وبين الأرض، بالطريقة نفسها بواسطة النسب التوافقية في النغمات وأنصاف النغمات — والأكثر عبثًا — بواسطة موسيقى الأفلاك.
وفي أطروحة «الكون»، كرر نيوتن نظرية أن المصريين قد عرفوا أن المذنبات كانت عبارة عن ظواهر سماوية، شأنهم في ذلك شأن الكلدانيين، ويمكن التعامل معها وكأنها نوع من الكواكب.
بنى المصريون معابد على شكل النظام الشمسي، واشتقوا أسماء آلهتهم من ترتيب الكواكب. كذلك كانت الديانة القديمة قائمة على فهم السماء، وكان نيوتن يشير بشكل عارض إلى «اللاهوت الفلكي» للقدماء. فإذا أضيفت الكواكب السبعة المعلومة (بما فيها القمر) إلى العناصر الخمسة — الهواء، والماء، والتراب، والنار، والجوهر السماوي — نكون قد توصلنا إلى الآلهة الأساسية الاثنتى عشرة التي كانت مألوفة لجميع الديانات القديمة. فكان نوح هو زحل وجانوس، وكان له ثلاثة أبناء. وقد حذا نيوتن حذو المؤرخين الآخرين في تبني منهج «يوهيميري» والذي اعتبر من خلاله أن الأساطير الوثنية تشير إلى أشخاص حقيقيين قامت الأمم المختلفة بتأليههم تحت أسماء مختلفة. وقد شملت الأدلة على ذلك تشابه الأسماء، لا سيما حقيقة أن أوصاف شخصياتهم وأفعالهم كانت متطابقة بوضوح.
وهكذا كان الجزء الأول من أطروحة «الكون» فرعًا لمشروع أكبر بكثير كان العمل جاريًّا به في الوقت الذي كان يُكتب فيه، وتطورت جهود نيوتن الضخمة لتحديد «تلميحات» للفلسفة الحقيقية في الكتابات القديمة بطرق عديدة مختلفة على مدار العقود اللاحقة. ففي عمل صدر بعد ذلك بفترة وجيزة بعنوان «أصل الديانات» — على سبيل المثال — أكد أن قدماء الصينيين، والدانماركيين، والهنود، واللاتينيين، والعبرانيين، واليونانيين، والمصريين، كانوا جميعًا يتعبدون وفقًا لنفس الممارسات والعادات، فيما كان ستونهنج في إنجلترا يُعد معبدًا فيستاويًّا آخر بوضوح. وأضاف نيوتن أن ما من شيء يمكن أن يكون أكثر «عقلانية» من هذا الجانب من الدين: فلم يكن هناك طريقة «خلاف الوحي للوصول إلى معرفة الرب إلا من خلال إطار الطبيعة». وقد استطاع متسلحًا بمعرفة الفلسفة الحقيقية أن يسترد الفلسفة المقدسة التي كانت «محجوبة»، فيما كان هذا بدوره بمنزلة ضمان لصحة وصفه للعالم. ومثلما كانت أعماله اللاهوتية تهدف إلى استعادة الدين الحقيقي، كان دائمًا ما يؤمن بأن أعماله العلمية كانت في الأساس محاولة لاستعادة معرفة مفقودة.
كتاب «المبادئ الرياضية»
بينما كان كتاب «محاضرات عن الحركة» يتعامل مع منظومة رياضية مجردة، تعاملت بقية أطروحة «الكون» مع بيانات ومعلومات عن المد والجزر (استُخلصت من فلامستيد في مراسلاتهما في خريف ١٦٨٥)، وتجارب البندول، والقمر الحقيقي، وظواهر أخرى من العالم الواقعي. ومن خلال مقارنة تلك الظواهر بالعالم الرياضي حسبما وُصف في كتاب «محاضرات عن الحركة»، استطاع نيوتن أن يؤكد أن القوانين التي تسري في العالم المجرد تحكم أيضًا الظواهر التي تحدث في عالمنا. غير أنه في تلك المرحلة لم يتوفر لديه بيان كاف عن المذنبات من أجل الكتاب الثاني، وعمل بكد على مدار شتاء عام ١٦٨٥-١٦٨٦ لتقديم هذا البيان.
اكتمل الجزء الأخير من كتاب «المبادئ الرياضية»، الكتاب الثالث، في بدايات عام ١٦٨٧، وتناول النظام الفعلي للعالم. فأثبت نيوتن — من خلال مبادئ أساسية ومن خلال معلومات فلكية وفيزيائية — أن الأرض مسطحة عند القطبين (أي كانت كروية مفلطحة). وأخيرًا أوضح كيف تمكنت فيزياؤه من تفسير حركة المذنبات، والتي يمكن التعامل مع مدارتها كقطوع مكافئة قريبة من الشمس والتحقق منها من خلال قياسات دقيقة، على الرغم من أن البحث عن مظاهر جزئية للمذنبات لها لمحات مشابهة ربما يظهر أنها دورية ومن ثم قطوع ناقصة. وقد أدرج نيوتن بعض الفقرات الرائعة عن وظيفة المذنبات. فمع اقتراب هذه المذنبات من الشمس، كانت أذنابها تتجدد بواسطة مادة شمسية، تقوم بدورها بتجديد السوائل التي تمنح البقاء للأشياء الحية كلما مر الكوكب عبر الأذناب. وأضاف نيوتن أن أنقى جزء من الهواء — والذي يدعم الحياة بأكملها على الأرض — يأتي أيضًا من المذنبات. ومن الواضح أن هذا كان نسخة ممتدة من النظام الدوري الأرضي الموصوف في أعماله الخيميائية الفلسفية في سبعينيات القرن السابع عشر.
قبيل إرسال الأجزاء الأخيرة من الكتاب إلى لندن، ألَّف نيوتن «خاتمة» رائعة للعمل، ووعد فيها بتوسيع نطاق تحليله في كتاب «المبادئ الرياضية» ليشمل جميع الظواهر الأرضية الأخرى. واستنادًا إلى الطريقة التي استخدم بها قانون الجاذبية الكونية لشرح الظواهر الكبيرة، ذهب إلى أن القوى قصيرة المدى يجب الاستدلال بها لتفسير الحركات الموضعية الأخرى التي «لا تحصى» والتي لا يمكن كشفها على أساس حجمها، ولكنها تقف وراء مجموعة كبيرة من الظواهر الأرضية، مثل الكهرباء، والمغناطيسية، والحرارة، والتخمر، والتحولات الكيميائية، ونمو الحيوانات.
وكما فعل بالنسبة للحركات السماوية في الكتاب الثاني، تخلى نيوتن بالكامل عن الأثير الذي خدمه بإخلاص في أشكال عديدة على مدار العقدين السابقين، فيما يتعلق بالظواهر الأرضية. واقترح ببساطة استخدام ما أطلق عليه قوى الجذب والطرد بدلًا منه، واستعان بالحديث الشائع ليقول إن مصطلح «الجذب» كان يستخدم على نحو تقليدي لوصف أي قوة تجعل الجسيمات «يهرع نحو أحدها الآخر». هذه القوى — على مدى قصير — كانت جاذبة، وهي تفسر خواص «التكثف» التي أشار إليها في أعماله الخيميائية والفلسفية السابقة. أما على مدى أبعد، كانت القوى طاردة، وهو ما يفسر ظواهر التوتر السطحي (كالذباب الذي يسير على الماء)، والتي فُسرت بواسطة الأثير في «الفرضية». غير أن ادعاء نيوتن بأنه قد يكون هناك عدد من مثل هذه القوى يضع عبئًا على مطالبته بضرورة أن يتبنى الفلاسفة حدًّا أدنى من المبادئ العامة.
أضاف نيوتن أنه قد ذكر هذه القوى فقط كحافز لإجراء مزيد من التجارب، ولكنه بعد ذلك قدم افتراضًا قام على نظريته بأن الجوهر الأساسي للمادة واحد. فلما كان معظم الفراغ شاغرًا، فإن القوى التي أتاحت للأجسام التماسك معًا سوف تجعلها تندمج في أشكال منتظمة «شبيهة بتلك الأشكال التي يتم تكوينها بالفن، كما في تكوين أشكال من الثلوج والملح». وعلى المستوى الداخلي، سيكون هناك أشكال أشبه بالشبكة تتكون عن طريق قضبان هندسية مرنة وطويلة للغاية، وهي حقيقة فسرت كيف يمكن لبعض الأجسام أن تسخن بمزيد من السهولة أو تتيح لمزيد من الضوء بالنفاذ عبرها مقارنة بغيرها. ومرة أخرى، يستدعي مفاهيم شبه خيميائية ليجادل بأنه في ظل وجود القوى الجاذبة، سمحت تجمعات مختلفة من العناصر الأساسية للمادة — شبيهة بالشبكة — بحدوث تحولات. وباستخدام مفاهيم هلمونت، أكد أنه عن طريق التخمر أمكن تحويل الماء، «تلك المادة المخلخلة»، أو تكثيفها لتشكل «المواد الأكثر كثافة» للحيوانات، والنباتات، والمعادن، وأخيرًا إلى «مواد معدنية وفلزية». على الجانب الآخر، أدت القوى الطاردة إلى تكوين الأبخرة والانبعاثات والهواء، إذا كانت عبارة عن أجسام كثيفة، أو تكوين الضوء ذاته، إذا كانت أقل خلخلة. تراجع نيوتن عن نشر تصوره المذهل للعالم الصغير، واختزله إلى مسودة تمهيد، فشلت أيضًا في أن تشكل النسخة النهائية.
روبرت هوك، المدعي الكبير
في مايو عام ١٦٨٦، وبعد عرض الكتاب الأول على الجمعية الملكية مباشرةً، أخبر هالي نيوتن أن هوك لديه «بعض الادعاءات» فيما يتعلق بقانون التربيع العكسي، وزعم أنه قد نبه نيوتن بها. وعلى الرغم من أن هوك لم يَدَّعِ أي حقوق في المبرهنة الخاصة بأن قطوعًا مخروطية قد نتجت عن مثل هذا القانون، فقد نفد صبر نيوتن للمرة الأخيرة. فأخبر هالي أنه قد ضاق ذرعًا بهوك طوال مدة مراسلاتهما خلال عامي ١٦٧٩-١٦٨٠، ولم يقدم له أي شيء لم يكن يعرفه. وبعد ذلك بأيام، وبعد أن تأمل أبحاثه القديمة، أشار غاضبًا إلى أن هوك قد «خمن» فقط أن قانون التربيع العكسي يمتد إلى مركز الأرض، ولكنه كان مخطئًا في تخمينه؛ وحينئذٍ قرر أن يوقف الكتاب الثالث، حسبما أخبر هالي. فقد كانت الفلسفة «أشبه بامرأة مشاكسة شكاءة لدرجة وقحة تزج بمن يتعامل معها في قضايا أمام المحاكم».
وكأنه عرف وأشار لكل شيء بما يكفي عدا ما يحتاج لحسمه بكدح الحسابات والملاحظات، مُعفيًا نفسه من ذلك العمل الشاق بداعي انشغاله بأمور أخرى؛ في الوقت الذي كان عليه أن يُعفي نفسه بداعي العجز.
ينبغي لعلماء الرياضيات الذين يقومون بمهام الاكتشاف، والحسم، ويقومون بالعمل بأكمله أن يقنعوا أنفسهم بأنهم لا شيء سوى آلات حساب وكد عقيمة، ولا بد للآخرين الذين لا يفعلون شيئًا سوى الادعاء والقبض على كل شيء بين أيديهم أن يتخلصوا من كل الاختراعات الخاصة بهؤلاء الذين سيأتون بعدهم وتلك الخاصة بمن سبقوهم.
وفي سياق الحوارات السابقة التي دارت بين نيوتن وهوك، نسج نيوتن قصة معقدة غير قابلة للتصديق بشكل بالغ عن كيف أن هوك ربما يكون قد جمع قانون التربيع العكسي من مراسلاته السابقة. وردًّا عليه، قام هالي بطمأنة مخاوف نيوتن وأخبره أنه بعد مناقشة الأمر في إحدى المقاهي، لم يصدق سوى قليلين أن هوك يملك الإثبات الذي يربط المدار الإهليلجي بقانون التربيع العكسي أو بمنظومة ضخمة للطبيعة.
بالطبع، لم يوقف نيوتن الكتاب الثالث من «المبادئ الرياضية»، وإن كان قد جعله ذا طابع رياضي أكثر، وأقل سهولة في التناول. ربما كان ذلك في جزء منه لتلقين هوك درسًا، على الرغم من أن وضع محتوياته كان يتطلب معالجة أكثر تحصينًا على أي حال. وبوجه عام، أصبح كتاب «المبادئ الرياضية» نموذجًا للحصانة غير القابلة للاختراق، إذ حاول الكثير من علماء الرياضيات البارعين تجاوز الاقتراحات والافتراضات القليلة الأولى وباءت محاولاتهم بالفشل.