الفنون الجميلة
الفنون الجميلة كما نسميها الآن، أو الآداب الرفيعة كما كان يسميها العرب، هي: الموسيقى، والشعر، والنثر، والبناء، والرسم، والنحت، والرقص، والغناء، والتمثيل.
وغاية هذه الفنون جميعها هو الجمال، ولكن الجمال ليس شيئًا موضوعيًّا له حقيقة أصلية في الكائنات التي حولنا من حي وجماد، وإنما هو ذاتي في أذهاننا، فالعالم أو الكون نفسه ليس جميلًا أو قبيحًا، وإنما الجمال والقبح اعتباران ذهنيان أي: قائمان في أذهاننا فقط.
ويمكننا أن نوضح ذلك بالمقابلة بين صورة فوتوغرافية تؤخذ عن حقل أو حيوان أو إنسان وبين هذه الصور نفسها يرسمها رسام ماهر من رجال الفن العبقريين، فأما من حيث النقل واتباع الأصل فالصورة الفوتوغرافية أمينة تطابق الأصل أكثر من الصورة التي يرسمها الرسام، ولكننا مع ذلك نستحسن صورة الرسام ونقول إنها تفضل الصورة الفوتوغرافية.
والسبب في ذلك أن الجمال ذاتي وليس موضوعيًّا، نعني أنه في ذهن الرسام وليس في ذات الحقل أو الحيوان أو الإنسان، فإذا كان الرسام عبقريًّا يدرك ببصريته مرامي الفنون استطاع أن ينفذ إلى ما لا تنفذ إليه الآلة الفوتوغرافية وينقل لنا روح المنظر كما ينقل لنا جسمه، فمهمته ليست النقل الساذج كما هي مهمة الآلة الفوتوغرافية، لأن عليه أن يفسر ويكشف لنا عما خفي عن أنظارنا من آيات الجمال في المنظر الذي يرسمه.
فنحن لا نرى في صورة الرسام خياله هو كما نرى أيضًا صورة المنظر الأصلي، نعني أنه لا يقنع بالمحاكاة وإنما هو مع نقله يفسر ويشرح ويكسب الطبيعة التي ينقل عنها شيئًا من خياله ومن بصيرته في معنى الجمال.
ولهذا السبب كثيرًا ما نعجب بالصورة يرسمها الرسام لحقل أو حيوان أكثر مما نعجب بهذا الحقل أو هذا الحيوان نفسه؛ لأننا ونحن بإزاء الصورة نرى تفسيرًا، بينا نحن أمام الحقل أو الحيوان لا نرى سوى الطبيعة، فالرسام يكسب بخياله جمالًا جديدًا للطبيعة التي ينقل عنها.
وخيال الرسام أبعد في إدراك الجمال من الطبيعة التي ينقل عنها، فقد حُكي عن «موسلر» الرسام الإنجليزي أن سيدة وقفت تنظر إلى رسمه، فلما تأملته انتقدت عليه مخالفته للطبيعة فأجابها: «هو كما قلت مخالف للطبيعة، ولكن أما كنت تودين أن تكون الطبيعة كذلك؟» وهذا يجرنا إلى البحث عن الأصل أو الباعث الذي يبعثنا على ممارسة الفنون الجميلة، فإننا عند التأمل لا يسعنا إلا الاعتراف بأننا نمارس الفن الجميل لأننا نبتغي منه جمالًا نرى فيه ما يرضينا أكثر من الحقائق الواقعة التي حولنا؛ أي: أننا نرى في الطبيعة نقصًا نحاول بخيالنا أن نكمله بالفن الجميل.
مثال ذلك أن الفخاري قد يصنع قدرًا من الطين يشويها على النار فتخرج سوداء كابية، فيعمد إلى تزيينها وزخرفتها بالألوان والرسوم، فهو إنما يجملها بهذه الزخارف لأنها في الأصل قبيحة، ولكن هب أن صائغًا قد صنع كوبًا من الذهب الخالص، فهل نحتاج ونحن ننظر إلى هذا الكوب إلى أن نطلب من هذا الصائغ أن يزينه ويزخرفه بالألوان والرسوم؟ كلا، فالصائغ وهو يصنع هذا الكوب من الذهب لا يحتاج إلى أن يمارس فيه فن الرسم، ولكن الفخاري وهو يصنع القدر من الطين يحتاج إلى ممارسة فن الرسم.
فالذي يبعثنا على ممارسة الفنون أننا لا نرضى برؤية الطبيعة ساذجة؛ لأنها في سذاجتها ليست جميلة، فلو كنا نأكل ونشرب في صحاف وأكواب من ذهب لما احتجنا إلى زخرفتها، ولكن المواد التي نصنع بها أدوات الطعام والشراب ليست جميلة فنحن نجملها بالفنون.
ولو كانت الأحجار التي نبني بها منازلنا حسنة تمتع العين برؤيتها لما احتجنا إلى أن نكسوها بالطلاء ونجملها بالرسوم، ولو كان سواد الناس حائزين صفات الجمال لما احتجنا إلى صنع التماثيل ورسم الرسوم للوجوه الجميلة، ولو كنا نتكلم فيلذ للناس سماع كلامنا كأنه الغناء لما تعلمنا الغناء، ولو كان في حفيف الشجر وهفيف الرياح وتغريد الطيور ما يقنعنا ويستهوي أفئدتنا لما احتجنا إلى فن الموسيقى، ولو كنا نمشي كأننا نرقص لما ظهر فن الرقص.
فالذي يبعثنا على ممارسة الفنون الجميلة أننا لا نجد في الطبيعة ما يرضينا ولا نجد في مواد الصناعة ما تشتهيه نفوسنا من الجمال، وهناك مواد جميلة، ولكنها قليلة لا تكفي الناس، وهي لجمالها لا نحب أن نزينها، فلو كان الدرج الذي نرتقي عليه إلى منازلنا من البلور الصافي لارتقيناه ساذجًا لا نقش عليه، ولو كانت أدواتنا المنزلية من الذهب لقنعنا بها ساذجة أيضًا.
والحرير من الأقمشة الفاخرة، ولذلك نعجب به إذا كان ساذجًا، والمرأة الجميلة نعجب بها أكثر كلما أنقصت من ثيابها، وإنما التكحل فن يقوم مقام الكحل.
واعتبر ذلك في جميع الفنون حتى النثر والشعر، فإنه إذا كان المعنى عميقًا يبلغ القلب ويعكس لنا حقيقة بارعة، لم نحتج إلى الزخارف اللفظية التي تسمى بالبلاغة، وإنما نحتاج إلى هذه الزخارف إذا سخف المعنى، كما يحتاج القماش السخيف إلى مختلف الصبغ والحواشي لإخفاء سخافته، وأكثر الكتاب في العربية انغماسًا في الزخارف اللفظية هو الحريري؛ لأنه لا يعالج من المعاني سوى النزر التافه.
ونحن والطبيعة كلها من أصل واحد؛ ولأننا نشترك في وحدة الأصل نشترك أيضًا في الغايات، فما هو راق جميل عند الطبيعة كذلك هو راق جميل عندنا.
فنحن نعرف من قصة التطور في العالم أن الجماد سبق النبات، وهذا سبق الحيوان، ثم نعرف من تطور الأحياء كيف أن الحياة ظهرت أولًا في أشكال حقيرة في خلايا منفردة كالميكروبات، ثم متصلة بلا نظام كالإسفنج، ثم فيها بعض النظام الهندسي مثل نجمة البحر والقشريات، ثم السمك، ثم حيوان اليابسة من برمائيات وزواحف، وأخيرًا نرى في رأس التطور الطيور واللبونات.
فإذا صح أننا والطبيعة نتفق في النظر، وجب علينا أن نرى الجمال في أرقى أحيائها ونراه في أدون درجاته في أدنى أحيائها أو حتى في جمادها، وهذا هو الواقع الذي نحس به، فأقل المناظر جمالًا بل أكثرها قبحًا هو منظر الطبيعة الجرداء الخالية من أمارات الحياة؛ أي: منظر الجماد.
ولكننا نحس بشيء من الجمال إذا رأينا صورة للأعشاب والنبات، ويزداد هذا الإحساس إذا رأينا حيوانًا.
ولكننا نتدرج في استجمال الحيوان، فليس منا من يقول: إن صورة الإسفنج جميلة تساوي الجمال الذي نحس به عندما نرى صورة سمكة، وصورة السمكة دون صورة الفرس أو الطاووس.
وخلاصة القول أن الحياة أجمل من الجماد، والحيوان أجمل من النبات، وأرقى الحيوان وهو الإنسان أجملها أيضًا، فنحن نصنع التماثيل للإنسان حبًّا في جماله، وقلما نصنع تمثالًا لحيوان إلا إذا كان من أرقى اللبونات التي ننتمي إليها مثل الفرس أو الكلب أو الأسد.
وقد يُعترض علينا بأننا أحيانًا نحب الجماد ونستجمله، كما يحدث لنا عندما نرى السحاب وقت الشفق أو عندما نصنع ثعبانًا من البلور أو عندما نتزين بفصوص اللؤلؤ والماس والياقوت، وهذا صحيح، ولكن لو أن هذه الأشياء كانت حية لزاد استجمالنا لها، وهل يمكنك أن تتصور الشفق حيوانًا به روح الحيوان وفيه سر الحياة، أو هل يمكنك أن تكسب هذا الثعبان من البلور أو فصوص الجواهر بالحياة دون أن تقول: إنه ليس في العالم أجمل منها؟ فهذه الأشياء جميلة وهي جامدة، ولكنها كانت أجمل جدًّا لو كانت حية.
ولكن ما الذي يجعلنا نقول: إن هذا الشيء جميل وذاك الآخر غير جميل؟
إن هذا الذي يجعلنا نقدر الجمال ونتوخاه ونحبه هو شيء آخر غير هذا العقل الذي يوازن ويقابل ويبرهن ويعرف الأسباب والنتائج، فنحن نفهم الجمال بشيء آخر نسميه «البصيرة»، وهذه البصيرة هي نفسها تلك التي نفهم بها الدين، وهي التي تحملنا أحيانًا كثيرة على التصوف، وهي تلك التي تحملنا على الحب، والرغبة في الخير والشجاعة، والأريحية والتضحية، فالعقل وحده لا يعرف سوى الفائدة المادية المحسوسة، ولكن البصيرة تناقض العقل أحيانًا وتطالبنا بأن نضحي بذواتنا، بينما العقل يدعونا إلى الفرار والنجاة.
ولنضرب مثلًا بالموسيقى، فنحن لا نفهم الأنغام والألحان بعقولنا، وإنما ندركها ببصيرتنا، والأغلب أن هذه البصيرة أقدم في النفس البشرية من العقل، بدليل أننا نجد من الحيوان ما يلذ له سماع الموسيقى، وهذه الموسيقى تحدث في نفوسنا من الطرب ما لا نستطيع أن نقول إنه معقول، ولو أننا اجتمعنا عشرة أو عشرين نفسًا نسمع أحد الألحان، فرأينا بعضًا منا يستطيره الطرب أكثر من الآخرين، لما قلنا إن هذا البعض أذكى من الآخرين، وإنما نقول: إنه أبصر بالموسيقى، والذكاء من صفات العقل، ولكن الطرب من صفات البصيرة، فالشهيد يتقدم للنار وهو في طرب الاستشهاد، والمحب يعانق حبيبته وهو في طرب الحب، كما أن الوطني يتقدم للدفاع عن وطنه وهو في طرب الشجاعة الوطنية، ونحن نقف أمام الصورة الجميلة ونحن في طرب كأنه السحر والبصيرة ألصق بالحياة وأعرف بغاياتها من العقل، ولذلك فنحن نجزم بأن الشجاعة والحب وتوخي الجمال غايات ملهمة ترسمها لنا البصيرة، ولكن العقل يخدمها بالعلم، كرجل الفن يتوخى الجمال ولكنه يتوسل إليه بالصنعة، فالعقل يصنع الآلة الموسيقية، ولكن اللحن من شأن البصيرة، والعقل يدبر الألوان والأصباغ ويدرس كيمياءهما للصورة، ولكن البصيرة تكشف لنا سر الجمال فيها.
فالفن للبصيرة والإلهام، والصنعة للعقل والعلم، وكلاهما ضروري للاتقان.
والفنون الجميلة هي الصلة بين الإنسان والطبيعة، ففي الطبيعة إيقاع نرى مثله في الموسيقى والشعر والرقص، وصور الطبيعة وأشباحها من حيوان ونبات وجماد نرى مثلها في فني النحت والرسم.
ولكن رجل الفن لا يقتصر على محاكاة الطبيعة، بل هو يتجاوز حقيقتها إلى خياله ويتسامى بها إلى أرفع ما تلهمه إليه بصيرته، وليس شك في أن الفنون قامت في الأصل على المحاكاة، وكانت تقنع بذلك، كما أن الطفل إذا أراد أن يرسم أو يصنع تمثالًا من الطين لا يتجاوز الحقيقة.
ولكن من الرؤية تنشأ الرؤيا؛ أي من الحقيقة ينزع رجل الفن إلى الخيال، وإذا كنا قد قلنا إن الفنون هي الصلة؛ أي الجسر، بين الإنسان والطبيعة، فهي أيضًا الجسر بين الحقيقة والخيال.
ولكننا ونحن نجنح إلى الخيال نرتكز على الحقيقة، لأننا نحن من الطبيعة وهي منا، وإنما نحس ونحن على رأس التطور بمغزى هذا التطور، فنستكنه روحه ونتجاوز حاضره إلى مستقبله، فإذا لم تخطئنا بصيرتنا حططنا على الحقائق الخافية التي لم تتكشف عنها الطبيعة بعد.
ففي الطبيعة مثلًا إيقاع يتضح في الجماد كما في تيارات البحر وأمواجه، وفي تعاقب الليل والنهار، وفي النبات؛ في غذائه وراحته ونموه ونضوجه، وهو أوضح في الحيوان حين يرقص ويغرد، ولكن رجل الفن يستكنه الروح في هذه المظاهر، فيخرج منها برؤيا الموسيقى والشعر والرقص، فهو مع تجاوزه الحقيقة يجعل أساسه فيها، كذلك المثَّال يرى البشر والحيوان أجسامًا مختلفة وهيئات متفاوتة فينظر من وراء هذه الأجسام والهيئات إلى الغاية التي يرمي إليها التطور، وإلى الروح التي وراء هذه المناظر، فينحت لنا من الحجر رجلًا يمثل الشجاعة أو امرأة تمثل الحب.
فالفنون الجميلة في أدنى مراتبها محاكاة، وفي أعلاها تفسير ورؤيا والفنون الجميلة جميعها متجانسة، كما يتضح لنا من الألفاظ التي نستعملها، فالروي في الشعر هو الإيقاع في الموسيقى والرقص، وأحيانًا يمكن الكاتب الناثر أن يرسم «صورة» قلمية لما هو بشأنه من الوصف، و«البيت» من الشعر يوهمنا أن الشاعر «يبني» الكلمات كأنه معماري، وهناك «موسيقى» الألوان، والراقص الماهر يرقص على اللحن الموسيقي.
وهذا التجانس يجعل الأديب؛ أي رجل الفن، محيطًا بالفنون جميعها أو أكثرها أو واقفًا على غاياتها، وإن كان جهله بالصنعة اللازمة لكل منها يعوقه عن ممارستها في غير الفن الذي يختص به، وصلة الاشتراك بين جميع الفنون هي وحدة الأصل فيها؛ أي تلك البصيرة التي تنفذ إلى ما وراء المظاهر في الطبيعة فتفسر وتتخيل وتتسامى بهذه المظاهر.
ولكن يجب ألا يفوتنا هنا أن نقول إن الفنون الجميلة مع أنها تنبع من معين واحد هو البصيرة فهي تبتعد أو تقترب من الذهن بنسبة متفاوتة، وأبعد الفنون عن الذهن هي الموسيقى، حتى إننا لا نحب ونحن نسمع لحنًا جميلًا أن يفسده علينا أحد بغناء يرافقه؛ لأن في الغناء من المعاني الذهنية ما نراه غير متفق مع اللحن الذي يخاطب بصيرتنا ويطربنا دون أن يطالبنا بتعليل ذهني، فإننا نقنع بتلك الأنغام تسري إلى نفوسنا فتجعلنا ننبض لها كأننا الصدى.
وأقرب الفنون إلى الذهن هو الشعر الذي تنطوي معانيه أحيانًا على الحكمة تغذو العقل ويمكن المناقشة فيها، يليه بعد ذلك العمارة التي تتصل كثيرًا بعلم الهندسة، ثم الرسم والنحت، ولكن يجب ألا ننسى أن الأساس الأصيل للفنون هو البصيرة، وأن أحب الفنون إلينا لهذا السبب وأطربها لأفئدتنا هو أبعدها عن الذهن نعني الموسيقى، وأن الكاتب الذي يستطيع أن يجعل من قصته أو نثره أو شعره أيًّا كان شيئًا يشبه الموسيقى في الطرب، دون أن نجنح إلى الذهن، هو أقرب الكُتَّاب إلى أن يجعل ما يمارسه فنًّا جميلًا.
وللفنون عيوبها، فنحن نعرف مثلًا أن الشعر قد يسقط أحيانًا إلى أن يكون نظمًا، وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين النظم والشعر أمكننا أن نقول: إن الأول يعتمد على الذهن، فهو معقول ولكنه غير جميل، والثاني يعتمد على البصيرة، فهو جميل ولكن لا يمكن أن يوصف بالعقل، فلو أن أحدًا نظم قواعد الحساب أو قواعد النحو أو النظام الدستوري في قصيدة أو قصائد، لما استطعنا أن نقول: إنه كاذب، لأنه يعالج حقائق نعترف بها، ولكنا مع ذلك نقول: إنه نظام، لأنه يجنح إلى الذهن دون البصيرة، ويطلب الواقع دون الخيال، وينقل دون أن يفسر، ويقنع بالرؤية ولا يستطيع الرؤيا.
وأكبر عيوب الفن الأنانية، فالرجل الذي لا تسخو نفسه بالحب للعالم وكائناته لا يستطيع أن يرى جماله، فأنت لا تستطيع أن تصف امرأة جميلة، وتجيد الوصف، ما لم تكن تحبها، فالحب أساس الإحساس بالجمال، فنحن نستجمل الزهر والحيوان والإنسان والطبيعة الجامدة لأننا نحبها، وما لا نحبه نستبشع منظره، فالكاتب أو الشاعر أو الرسام أو المثال الذي تغمر نفسه الكراهة، وهو دائم الحقد على الناس، لا يمكنه أن يجيد فنًا من الفنون الجميلة.
ومن عيوب الفن المحاكاة، فنحن لا نقنع من الرسام بأن ينقل لنا صورة فوتوغرافية، ولا من الموسيقى بأن يحاكي تغريد الطيور، وإنما نطلب من كل منهما أن يتجاوز ذلك إلى روح الطبيعة وينقلها لنا.
وربما كان أكبر العيوب التي تعاب بها الفنون هو العرف الاجتماعي الذي يقضي على رجل الفن بأن يحد من بصيرته، ويكف خشية العقاب عن ممارسة أشياء تدعوه نفسه إلى ممارستها في الفنون، فقد حرم مثلًا رجل الفن العربي من ممارسة النحت والرسم من الطبيعة الحية بحكم العرف الديني.
وهذا العرف قد تصنعه الهيئة الاجتماعية حين تلزم رجل الفن بأن يراعي الأخلاق ولا يتمادى في الحرية، فتمنعه مثلًا من أن ينحت أو يرسم رجلًا أو امرأة عارية، مع أن دواعي فنه قد تدعوه إلى ذلك، أو حين يضع الدين حدودًا للفنون، فيحد بذلك بصيرة الأمة، كأن يحرم النحت أو الرسم، أو حين ينشأ بين أهل الفن نفسه عرف يحد من نزعة التجديد، كأن يرسم الرسام أو ينحت المثال على غرار من سبقوه فلا يبتدع وإنما يقنع بالجري على خطة السلف، والبدعة شرط أساسي للرقي سواء أكان ذلك في البصيرة أم العقل، في الفنون أو العلوم، وذلك لأن الجمود يناقض الطبيعة التي تدأب في الرقي والتطور، فإذا لم ينزع رجل الفن نزعتها ويرقى ويتطور ويبتدع فإنه يخالف أهم شروط الفن الصحيح، وهو استكناه روح الطبيعة وسبقها إلى مراميها.
-
إن الجمال ذاتي؛ أي: في رأس رجل الفن وليس في الطبيعة.
-
إن الباعث الذي يبعثنا على ممارسة الفن أننا لا نجد في الطبيعة أو المواد التي حولنا مشتهانا من الجمال.
-
إننا والطبيعة نتفق في الغاية، فأرقى الأحياء في التطور هي أيضًا أجملها في نظرنا.
-
إننا ندرك الجمال ببصيرتنا وليس بذهننا، فالجمال يطرب النفس ولو كان غير معقول.
-
الفن هو الصلة بين الإنسان والطبيعة، ولكن رجل الفن لا يقنع بنقل الطبيعة بل يتجاوزها إلى كنهها ومرماها، فهو يبني فنه على أساس من الواقع، ولكنه يتسامى به إلى الخيال، وهو في ذلك لا يناقض الطبيعة بل يسبقها إلى غايتها.
-
الفنون كلها متجانسة؛ لأنها تنبع من معين واحد هو البصيرة، وعلى ذلك يمكن أن نقول: إن أقربها إلى البصيرة وأبعدها عن الذهن هو أفضلها.
-
للفنون الجميلة عيوب كثيرة منها الجنوح إلى العقل دون البصيرة، ومنها الأنانية، ومنها المحاكاة، وأكثر هذه العيوب شيوعًا هو العرف الذي يحد من حرية رجل الفن.