نهضة الفن في ألمانيا
اتفقت النهضة الفنية في ألمانيا والنهضة الدينية، ولكنهما لم تشتركا ولم تتعاونا، بل سارت كل منهما في طريق ونهجت إحداهما نهجًا يخالف النهج الذي اتخذته الأخرى. وبعبارة أوضح نقول: إن الكنيسة الكاثوليكية ساعدت النهضة الفنية كما لا بد أن القارئ قد لاحظ ذلك بين رجال الفن في فلورنسا والبندقية، فإن معظم أعمالهم الفنية أتموها بمساعدة الكنيسة البابوية التي تجيز تزيين جدرانها بالصور والتماثيل، بل كانت تتسامح أيضًا في نقل الصور الوثنية القديمة ولا تعد هذا كفرًا.
ولكن لما ظهرت البروتستانتية في ألمانيا على يد لوثر سنة ١٥١٧ كان من دعوتها تطهير الكنائس من التماثيل والصور. وقد كان وما يزال لصورة العذراء والإيمان بشفاعتها شأن كبير في الكنيسة الكاثوليكية. والعذراء من الموضوعات التي توحي إلى رجل الفن. وتجعله يصور الأنوثة والأمومة في شخص أم المسيح. ولكن الدعوة البروتستانتية قاومت الإيمان بالعذراء، وأنزلتها من مكانتها التي لها في الكنيسة الكاثوليكية. ولذلك لا نجد أن الفن يزكو في البيئة البروتستنتية كما زكا في البيئة الكاثوليكية. ويمكن مع ذلك أن نقول: إن الفن انتفع كما استضر بهذا التطبيق؛ لأنه وجه نظر رجاله إلى موضوعات أخرى لا تمت إلى الدين.
وقد رأينا نهضتين: إحداهما في إيطاليا في مدينتي فلورنسا والبندقية، والأخرى في أقاليم الفلمنك حيث عرف الرسم بالزيت. والنهضة الألمانية تعتمد على النهضة الفلمنكية أكثر مما تعتمد على النهضة الإيطالية.
وهذه النهضة الألمانية تكاد تنحصر في رجلين. هما: دورير، وهولبين.
أما «دورير» فقد ولد سنة ١٤٧١ ومات سنة ١٥٢٨. وهو من أصل هنغاري، ولد أبوه في هنغاريا ولكنه رحل إلى نورمبرج وأقام بها منذ سنة ١٤٧١. ونشأ الصبي شغوفًا بالرسم، فألحقه أبوه بأحد الرسامين وهو غير راض عن هذه الحرفة. ولكن عبقريته تفجرت بعد مدة قليلة، وذاعت شهرته، ورحل إلى البندقية، وهناك التقى بجوني بليني. ومما يُحكى عنه وهو هناك، أن بليني أعجب بالطريقة التي يرسم بها الشعر حتى ظن أن دورير قد اخترع ريشة خاصة لرسم الشعر. فلما عرف كل منهما الآخر، طلب بليني من دورير أن يهدي إليه ريشة من تلك الريش التي يرسم بها الشعر. فأخرج له دورير كل ما عنده من الريش فإذا بها عادية. فتعجب بليني، ولم يكد يصدق ما قاله دورير حتى رسم أمامه بإحدى هذه الريش بعض هذا الشعر الذي يعجب به.
وكان في البندقية في ذلك الوقت جالية ألمانية استدعته لكي يزخرف لها بعض الأبنية الدينية الخاصة بها. وبلغ من إعجاب البندقيين له أن عرضوا عليه ما يسمى «حرية المدينة» أي أن يكون بندقيًّا. وقد عرضت عليه الفرس ذلك أيضًا عندما زارها.
وأحسن رسومه صورته التي رسمها بنفسه، وفيها من السذاجة المقرونة إلى الكرامة ما يجعل الإنسان يقف متأملًا في هذا الوجه الجميل. وكذلك له رسوم أخرى ما زالت باقية مثل «آدم» و«حواء» و«صلب المسيح».
وفي سنة ١٥١٨ استدعاه الإمبراطور مكسيمليان إلى أوجزبرج فرسمه هو وحاشيته. وقد أعلن لوثر المبادئ البروتستينية في حياته، ولكنه بقي محايدًا. وهذا هو السبب في أن الإمبراطور مكسيميليان لم يجد ما يمنعه من أن يبعث في طلبه. ويبدو من أخلاقه وأعماله بعد ذلك أنه كان بروتستنتيًّا.
أما الرجل الثاني فهو «هولبين» الذي ولد سنة ١٤٩٧ ومات سنة ١٥٤٣. ولما مات دورير ١٥٢٨ كان هولبين شابًّا لا يزيد عمره عن ٣١ سنة يرسم في لندن، ولكنهما يختلفان كثيرًا. فإن دورير قديم ليست فيه تلك الروح الجديدة التي كانت تضطرم في صدر هولبين. وهذه الروح الجديدة هي الطباعة الجديدة، واكتشاف أميركا، وذلك الشك العلمي الجديد الذي أخذ مكان العقائد القديمة.
وقد كان أستاذًا في فنه إلا أنه كان من طراز آخر غير طراز دورير، فكان يحترف الرسم ويبغي إتمام عمله اليومي على أكمل وجه، ولكنه لم يحاول أن يوضح للناس كيف يجب أن يعيشوا أو أن ينفذوا إلى خفايا الحياة. وكان قانعًا بأن يرسم ما يراه فينقله نقلًا صادقًا رائعًا، إلا أنه كان حكيمًا يعيش في عصر الخداع والغش، فكان يحجم عن أن ينفذ إلى ما تحت السطح. فهو إذا رسم رجلًا مثل يعقوب ماير قنع بوصف أخلاقه، ولكن دورير يحاول أن يطلعك على نفسه.
ولما رأى هولبين أن النهضة البروتستنتية تحول دون رواج الرسم شرع يرسم قصصًا غير دينية مثل أمثولة «رقص الموت».
وفي سنة ١٥٢٦ رحل إلى إنجلترا بدعوة من السير توماس مور صاحب الكتاب عن «الطوبى» وهناك رسمه هو وأسرته. ثم اتصل بالجالية الألمانية في لندن ورسم بعض الأشخاص، فأقبلوا عليه وربح منهم أموالًا غير قليلة. ثم طمع أن يبلغ الملك هنري الثامن، وكان يعتقد أن السير توماس مور يكون الوسيلة إلى ذلك. ولكن الملك غضب على السير توماس لأنه رفض أن يوافق على طلاقه لامرأته، فتوسل إلى الملك برسم بازداره روبت تشزمان، وعرف الملك بعد ذلك فقبل رسمه. وكان في أثناء إقامته في إنجلترا يتردد على بازل ويرسم صور الأمراء والأعيان في أوروبا.
«وكما لم يكن لدورير وهولبين سلف عظيم، كذلك لم يكن لهما خلف عظيم، واحتاجت أوروبا أن تنتظر أربعًا وثلاثين سنة قبل ميلاد رسام عظيم خارج إيطاليا وذلك هو: روبنز».