المدرسة الفلمنكية
لم يكن «روبنز» رسامًا فقط، بل كان أيضًا سياسيًّا يختلط ببلاطات الملوك والأمراء ويثقف ذهنه بمختلف العلوم والفنون. وقد نشأ في بيت من البيوتات الكبيرة؛ إذ كان أبوه جون روبنز قد تربى في إيطاليا، وعاد إلى إقليم الفلمنك موطنه الأصلي، وقضى معظم حياته في انفرز. وكان إقليم الفلمنك في ذلك الوقت خاضعًا لحكم إسبانيا، فلقي جون روبنز اضطهادًا دينيًّا وسياسيًّا جعله يرحل بأسرته إلى كولونيا.
وهناك تعرف إلى وليم الصامت وعرف زوجته أميرة أورانج. ثم زادت العلاقة بينهما إلى حب انفضح أمره، فحبس جون روبنز ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تم الطلاق بين وليم الصامت وزوجته. ومات بعد خروجه من السجن بزمن قليل أي في سنة ١٥٨٧.
وولد الرسام بطرس روبنز في وستفاليا سنة ١٥٧٧؛ أي أنه كان قد بلغ العاشرة عند وفاة أبيه. وعادت أمه إلى انفرز فلم يتعلم الصبي كثيرًا، ولكنه التحق بمرسم ابن عمه.
ويجب أن نذكر هنا أنه منذ وفاة ملبوز سنة ١٥٣٣ لم يظهر رسام عظيم قبل بطرس روبنز. ولم يلبث عند ابن عمه ستة أشهر حتى تركه إلى مرسم رجل آخر أشهر منه يدعى «فاينيوس». وكان أحسن ما لقيه من هذا المعلم حثه له على زيارة إيطاليا. ورحل بطرس إلى البندقية، وعرف الدوق مانتوا فدخل في خدمته وتمكن من زيارة فلورنسا ودرس رسومها. وحضر زواج ماري دي مديتشي بملك فرنسا، ثم أرسله الدوق على رأس بعثة إلى ملك إسبانيا مزودًا بالهدايا من الجياد والرسوم.
وعاد من إسبانيا إلى إيطاليا ونزل في جنوه. ثم بلغه أن أمه مريضة في انفرز فسافر إليها سنة ١٦٠٨، وكان في هذا الوقت قد صار له شأن وذاعت له شهرة فطلب إليه الأرشدوق البير في بروكسل أن يترك الدكتور مانتوا لكي يكون رسام البلاط. وقبل روبنز هذا التعيين، ولكنه اشترط أن يكون مقامه في انفرز مدينته الأصلية. وهناك تزوج بزوجته إيزابيلا سنة ١٦٠٩.
وفي السنة الثانية وضع روبنز ترسيمًا لقصره شيده على الطراز الإيطالي، وقضى هناك اثنتي عشر سنة وهو لا يشتغل بشيء آخر سوى الرسم.
وهناك رسم صورتين شهيرتين هما: «رفع الصليب» و«النزول من الصليب».
وكان من عادة روبنز أن يستعمل تلاميذه في إنجاز صوره، ثم يقنع هو بالمسحة أو اللمسة الأخيرة. وأنشأ مصنعًا في انفرز لصنع الصور. وقد نشأ على يديه طائفة كبيرة من الرسامين منهم «فانديك».
وفي سنة ١٦٢٢ طلبت ماري مديتشي ملكة فرنسا من روبنز أن يحضر لكي يزين قصر لوكزمبرج. وما تزال صوره إلى الآن تزين جدران هذا القصر. وكانت الغاية من هذه الرسوم رفع شأن أسرة مديتشي. ومن أعجب ما هدته إليه عبقريته أنه صور الملك هنري الرابع وهو ينظر إلى صورة زوجته نظرة الإعجاب والعشق، وحاط الصورة بآلهة الحب.
ولما مات الأرشيدوق البير استدعته زوجته لكي يكون مستشارها في بروكسل. وكانت سياستها في ذلك السعي في صداقة هولندا وإنجلترا وإسبانيا، والوفاق بين هذه الدول الثلاث مع مجانبة فرنسا. وسافر روبنز إلى الهاي لكي يعقد محالفة بين الفلمنك والهولنديين سنة ١٦٢٣.
وسافر بعد ذلك إلى باريس، حيث عرف الدوق بكنجهام. وهو الحاكم الحقيقي في ذلك الوقت لإنجلترا أيام الملك تشارلس الأول الذي قتله الثائرون. وأرسله بكنجهام إلى إسبانيا لكي يجس نبض الحكومة وهل ترضى في محاربة فرنسا التي كان هذا الدوق يكرهها لمخاصمته للدوق ريشليو.
وبلغ روبنز مدريد وهناك رسم الملك فيليب الرابع، وعرف فلاسكس الرسام الإسباني. وكان روبنز أكبر منه بنحو ٢٢ سنة.
وسافر روبنز بعد ذلك موفدًا من قبل فيليب الرابع إلى إنجلترا، وهناك رسم الملك تشارلس سنة ١٦٢٩ ووضع أساس الصلح بين إنجلترا وإسبانيا. ومما يدل على كياسته أنه مهد لهذا الصلح بصورة رسمها وقدمها هدية لملك إنجلترا وهو «بركات السلام» وفيها «منيرفا» ربة الحكمة تدفع الحرب إلى الوراء بينما السلام يستقبل الغنى والسعادة وأبناءهما المبتسمين.
ومما يحكى عنه أنه عندما بلغ لندن قال له أحد الإنجليز الذين بالبلاط: هل مولاي السفير يلهو أحيانًا بالرسم؟
فأجاب روبنز: كلا. إنما ألهو أحيانًا بالسفارة.
وأنعم عليه الملك بلقب سير سنة ١٦٣٠، وهي السنة التي عاد فيها إلى انفرز. وكانت زوجته قد ماتت، فتزوج فتاة صغيرة تدعى «هيلين» لم تبلغ السادسة عشرة. وقضى بعد ذلك سبع سنوات يهنأ بالزراعة والرسم. ولم ينغص بشيء سوى مرض النقرس.
وكان سريعًا في الرسم حتى يُحكى عنه أن الملك فيليب كلفه برسم جملة صور. وكان رسوله يتعجله. فقال له ذات يوم: «سأرسمها كلها بنفسي لكي ننتهي منها بسرعة». وهذا يدل على سرعة يده في الرسم وعلى أنه كان يوكل عنه غيره في تأدية بعض الصور.
قال موتهور عنه يصف رسومه الطبيعية: «إننا لا نجد هنا نزاعًا بين العناصر، بل نجد كل شيء يلمع بالندى والرطوبة. وفي الأشجار بهجة تشبه بهجة الأطفال السمان الذين قاموا من المائدة وشبعوا».
وقال أورين: «لقد قيل إن هناك مناظر طبيعية تهدئ النفس وتسكنها، وأخرى تنشطها. ومناظر روبنز هي من هذا الصنف الثاني، فإنه لم يكن يتصوف في نظره إلى الطبيعة بل كان يقترب منها بلا هيبة تحدوه كبرياء الرجل القوي الذي يحترم القوة».
ويقارب روبنز في شهرته وإن كان مع ذلك دونه «فانديك» الذي ولد في انفرز سنة ١٥٩٩. وقد تعلم الرسم على أيدي كثيرين أشهرهم روبنز. ولما أن بلغ رشده كان قد برع في الرسم، حتى إن سفير إنجلترا في الهاي دعاه إلى زيارة إنجلترا فقصد إليها سنة ١٦٢٠. ولكنه لم يمكث طويلًا بل عاد إلى انفرز، وهنا أغراه روبنز بزيارة إيطاليا فعمل فانديك بإشارته.
وانتفع فانديك من هذه الزيارة، وعاد وقد قويت فيه ملكة التمييز بين الألوان والقدرة على أداء التفاصيل، وسافر إلى إنجلترا حيث رسم الملك تشارلس الأول على جواده، وكان الثائرون قد استولوا على هذه الصورة بعد أن قتلوا الملك ثم باعوها حتى وقعت في يد أمير بافاريا، وبقيت هناك إلى أن اشتراها منه الدوق مارلبرا. وما زالت في بيته إلى سنة ١٨٨٥ حين ابتاعتها الحكومة هي وصورة «العذراء» لرفائيل بمبلغ ٨٧٠٠٠ جنيه.
وكان فانديك رقيق المزاج ضعيف الجسم، وانغمس في الملذات فلم يتحمل جسمه أضرارها. وقد مات سنة ١٦٤١ وهو في الثانية والأربعين من عمره. وكان يؤمن بالخرافات ويبحث عن «حجر الفلاسفة» وأنفق في البحث عنه قوته وماله.