نهضة الفن في إسبانيا
ترجع نهضة الفن في إسبانيا إلى إيحاء الفلمنك ثم إلى إيحاء الإيطاليين. وليس هذا غريبًا إذا عرفنا أن الفن الفلمنكي انتشر في بلجيكا وهولندا، وهذه الثانية كانت من ممتلكات إسبانيا ولم تنل استقلالها إلا بعد حروب دينية طويلة.
وكان فان إيك الفلمنكي قد زار إسبانيا في سنة ١٤٢٨، وتبعه آخرون جرأهم على الرحلة إليها ما لقيه هو من تقدير وحظ ثم دخلت بعد ذلك نابولي وصقلية في دائرة الممتلكات الإسبانية، فاتصل الإسبان بالفن الإيطالي.
وكان الفن قد ظهر في نابولي وارتقى على يد كرافاجيو الذي ولد سنة ١٥٦٩ ومات سنة ١٦٠٩. وكان قد استقل بأسلوب خاص في نقل الطبيعة كما هي، فكان بذلك رائدًا للأسلوب التقريري أو التحقيقي في حين أن معظم الرسامين في زمنه كانوا يقتصرون على نسخ رسوم العظماء، فكان هو طليعة الرقي الجديد بينما الكثرة الغالبة حوله من الرسامين كانوا قد انحطوا ودخلوا في طور النسخ والقنوع بما أداه عظماء فلورنسا والبندقية. ولكرافاجيو رسوم قليلة باقية أهمها وأبدعها صورة «الغش في الكوتشينة». ورسومه كلها ناصعة الألوان. ولكن هذه النصاعة لم يبلغها إلا بالمبالغة في رسم الظل، بحيث يهمل الاندغام والتدرج بين الألوان فيجعل النور أضوأ والظلام أحلك من حقيقتيهما. وقد ورث عنه هذا النقص فلاسكس.
وانتقلت طريقة كرافاجيو إلى إسبانيا على يد ربيبرا، وهو رسام إسباني غير مشهور توفي سنة ١٦٥٦. ولكن إسبانيا كانت قد تأثرت برسام أجنبي ولد في جزيرة كريت، ولذلك أطلق عليه اسم «الجريكو» أي الإغريقي، وكانت ولادته سنة ١٥٤٥ ووفاته سنة ١٦١٤، وقد زار البندقية وتتلمذ لتسيانو، وفي سنة ١٥٧٥ هاجر إلى إسبانيا ونزل في طليطلة، وهناك في مدينة طليطلة وجد تلك الحركة الدينية التي أحدثها لويولا زعيم اليسوعيين ومنشئ فرقتهم، وقد سبق أن ذكرنا للقارئ ما كان من التأثيرات المختلفة التي أحدثتها الحركات الدينية في فن الرسم، وكيف أثرت حياة القديس فرانسيس ثم حياة الراهب سافونا رولا ثم ظهور النهضة البروتستانتية، والآن نقول: إن النهضة اليسوعية كان لها أثر غير صغير أيضًا في فن الرسم في إسبانيا، فقد كانت الغاية من هذه النهضة مكافحة البدعة الجديدة التي أوجدها لوثر؛ أي البروتستنتية، ولكن سبيل هذه المكافحة هو تطهير الكنيسة الكاثوليكية ولذلك نجد أن الموضوع الذي استهوى الجريكو فأجاد رسمه هو «المسيح يطرد الصيارفة من المعبد»، وهذه الصورة أشبه شيء بالرمز لنهضة لويولا الذي يريد أن يطهر الكنيسة كما أراد المسيح أن يطهر المعبد من المرابين.
وإذا ذكرت إسبانيا من ناحية الرسم خطر بالبال «فلاسكس» أعظم رساميها، بل من أعظم الرسامين في العالم، وقد ولد في إشبيلية سنة ١٥٩٩ وكان أبوه برتغاليًّا وأمه إسبانية، فلما بلغ الرابعة عشرة دخل مرسم رجل رسام غير مشهور يدعى «هريرا» لم يبق عنده إلا بضعة أشهر ثم تركه إلى رجل آخر أشهر منه يدعى «باشيكو»، فبقي هناك يتتلمذ له نحو خمس سنوات، وتزوج سنة ١٦١٨ ابنته، فعمل باشيكو على مساعدته وتقديمه وإذاعة اسمه.
وكان من مواتاة الظروف لفلاسكس أن ارتقى العرش سنة ١٦٢١ فيليب الرابع واستوزر الكونت اوليفاريز، وكان والد هذا الكونت حاكمًا على إشبيلية، وفيها نشأ ابنه فلما صار وزيرًا أخذ الرسامون في إشبيلية وغيره من طلاب المصالح والمناصب يتقدمون إليه بحق الاشتراك في الانتساب إلى مدينة إشبيلية. وقصد فلاسكس إلى مدينة مدريد سنة ١٦٢٣ وهناك سعى له الكونت أولفاريز حتى اقتنع الملك بأن يقعد له حتى يرسمه.
ومن ذلك الوقت ذاعت شهرة فلاسكس، وصادقه الملك وأحبه وجعله رسام البلاط وعمره وقتئذ لم يكن سنوى ٢٤ سنة، وعمر الملك ١٨ سنة. وكان الملك يزوره كل يوم في غرفته بالقصر، وكان قد جعل هذه الغرفة مرسمًا يرسم فيه الملك وسائر أعضاء الأسرة والنبلاء.
وفي سنة ١٦٢٨ زار روبنز مدريد وعرف فلاسكس الذي انتفع بنقده ونصيحته، وخصوصًا عندما نصح له بزيارة إيطاليا التي كانت في ذلك الوقت محج رجال الفن يقصدون إليها لمشاهدة نفائس المدن في عواصمها الكبرى. وأصاع فلاسكس لنصيحته ورحل إلى إيطاليا حيث زار البندقية ورومية ونابولي، ثم عاد إلى مدريد واستأنف أعماله بالقصر.
وعاد سنة ١٦٤٩ إلى زيارة إيطاليا ثم رجع إلى مدريد بعد أن شاهد معظم الصور الفنية واشترى طائفة كبيرة منها للملك. فتمت بذلك تربيته ونفذت بصيرته إلى دقائق لم يكن يلتفت إليها في أول نشأته.
وفي عالم الرسم اثنان كل منهما شغف بإحدى الصور. هما: رمبرانت الهولندي الذي شغف برسم صورته وترك منها عددًا كبيرًا ما يزال للآن يزين المتاحف والقصور، وفلاسكس الذي شغف برسم الملك فيليب الرابع حتى إنه ما يزال من رسومه للآن ٢٦ رسمًا غير ما أضاع الحريق منها.
قال أوربن: «يمكننا أن نعرف ثمرة هذا الإكباب على رسم أنموذج واحد في فلاسكس، وذلك بمشاهدة هذه الرسوم التي قدرت له أن يدرك ما يدركه في النهاية كل رسام، وهو أنه إذا أراد أن يتفوق فإنما سبيل هذا التفوق لا يكون في موضوع الرسم بالذات وإنما في طريقة المعالجة لهذا الموضوع. ولم يكن فلاسكس ينشد وحيه أو إلهامه في طرافة الموضوع الجديد، وإنما كان ينشدهما في الدأب المتواصل في زيادة الفحص وترقية الرسم لشيء سبق أن رآه».
وكانت علاقة الرسام بالملك علاقة الصداقة والاحترام المتبادل، حتى كان يلزم أحدهما الآخر وتسقط بينهما التكاليف التي توجبها عادات البلاط. وكانت سلواهما الرسم والصيد واقتناء الخيول والكلاب. ومن أحسن الصور التي رسمها صورة ولي العهد كارلوس الذي لم يعش إلى أن يرتقي عرش إسبانيا. وقد رسمه في هيئة ملوكية وهو قابض على العصا، ولكنه مع ذلك مسح عليه مسحة الطفولة التي تحببه إلى كل من يرى هذه الصورة الفريدة. ومن رسومه الفريدة صورة «ايزوب» التي تمثل فليسوفًا قد أنهكه الدرس والفقر فهو سيئ اللباس مشعث الشعر قد تغضن وجهه وبرزت عظامه وذهبت عن عينيه لمعة الشباب. ولعله صور فيها أحد أصدقائه الكثيرين المفلوكين الذين كان يعرفهم قبل أن يرتقي إلى معرفة الملك.
وتعين بعد ذلك «مارشال القصر» فكان يؤدي أعمالًا كثيرة جعلته يهمل الرسم. وفي سنة ١٦٥٩ كان الكردنال مازران الفرنسي قد عقد صداقة جديدة بين فرنسا وإسبانيا بعقد الزواج بين لويس الرابع عشر وماري تيريز الإسبانية. وحضر فلاسكس هذا الزفاف، وكان عليه أن يهيئ جميع ما تتطلبه الأبهة الملوكية. فأنهكه العمل، فلما عاد إلى مدريد في السنة التالية سنة ١٦٦٠ مات.
وأعقبت وفاته فترة من «الجاهلية» في إسبانيا ترجع إلى سيادة رجال الدين الذين ما زالوا سائدين حتى نُسي اسم فلاسكس. ولكن منذ خمسين سنة أخذ هويسلر في إنجلترا ومانيه في فرنسا يشيدان بذكر فلاسكس وكأنما قد اكتشفاه، فبعثت شهرته من جديد.
وتُعرف إسبانيا برسام آخر هو دون فلاسكس ولكنه على شيء من النبوغ الذي يجعل لرسومه بعض القيمة للآن، وهو «موريلو» الذي ولد سنة ١٦٠٠ ومات سنة ١٦٦٧. وقد نشأ أيضًا في إشبيلية وسافر إلى مدريد وانتفع بمعرفته لفلاسكس. ثم عاد إلى إشبيلية وهناك رسم تلك الرسوم التي تمثل الطبقات المنحطة مثل الشحاذين والفقراء ونحوهم. ومن أشهر رسومه «اثنان يأكلان الشمام والعنب» وهي تمثل حالة إسبانيا الاجتماعية في ذلك الوقت، حالة القوة في الدولة والضعف في الأمة. فكانت الدولة مشهورة بالغنى والسلاح والحروب، والأمة تتمرغ على تراب الفقر. وله صورة أخرى هي «حمل العذراء» وهي تمثل السذاجة والحلاوة في العذراء التي تتطلع إلى فوق بنظرة ممزوجة من الدهشة والأمل. وقد اشترت الحكومة الفرنسية هذه الصورة سنة ١٨٥٢ بمبلغ ٢٣٤٠٠ جنيه.
ولم يظهر في إسبانيا رسام آخر بعد «فلاسكس» و«موريلو» إلا بعد مضي نحو مائة سنة وهو «جوبا» الذي سنذكره بعد.