فن الرسم في هولندا
ظهر الرسم في هولندا بعد أن أينع في إقليم الفلمنك. وكانت هولندا قد أوشكت على الخراب أمام النوازل التي أنزلتها بها إسبانيا. ولم تكن هذه النوازل مما يهون على أمة أن تكابدها وتبتسم للدنيا، وخصوصًا إذا عرفنا أن الهولنديين كانوا أمة صغيرة والإسبان في ذلك الوقت يؤلفون إمبراطورية كبيرة. ولذلك نجد حياة الهولنديين مصورة في رسوم «فرانز هالز» التي تبدو وعلى الوجوه مسحة القلق والغم والاضطراب. وهذه هي المدة التي كان الكفاح فيها شديدًا بين الهولنديين والإسبانيين والخاتمة مجهولة. ولكن بعد أن انتصر الهولنديون واضطرت إسبانيا إلى الاعتراف باستقلالهم نجد الوجوه في رسوم «هالز» قد استبشرت وانطلقت. والفن هو مرآة الحياة.
والمعروف عن «فرانز هالز» أن أباه خرج أو فرَّ بأسرته من هارليم، المدينة الهولندية المشهورة، والإسبان يحاصرونها، إلى مدينة انفرز البلجيكية. ولولا فراره لما عرف العالم هذا الرسام، فإن الإسبان عندما دخلوا المدينة ذبحوا السكان. وهناك في انفرز ولد له «فرانز هالز» سنة ١٥٨٠.
ولا يعرف متى رجعت أسرة فرانز هالز إلى هارليم ولا كيف تعلم الرسم. وإنما هناك بضعة حوادث تثبت أنه كان في سنة ١٦١٦ مقيمًا في تلك المدينة وله زوجة قد شكته إلى ولاة الأمور لأنه أساء معاملتها. وأنه قد طلب إليه رسميًا أن يكف عن الإساءة إلى زوجته ويتجنب مخالطة السكيرين. وقد ماتت الزوجة بعد هذه الشكوى بقليل.
ولا يمكن أن يتحقق الإنسان من مقدار التبعة التي تحملها «فرانز هالز» في هذه الحادثة، ولكن يجب ألا ننسى أن تهمة الإدمان لا تتفق وإجادة الرسم. فإن اليد المرتعشة، والذهن المخبول، لا يهيئان الرسام لأن يكون عظيمًا. وقد تزوج «هانز» بعد ذلك وعاش مع زوجته الثانية خمسين سنة دون شقاق أو خصام. ومما يدل على أنه كان رجلًا محترمًا أنه تعين وهو في الرابعة والستين رئيسًا لنقابة الرسامين في هارليم.
ولكن الذي لا يمكن إنكاره أنه كان يحب الشراب ومجالسة الإخوان. وهذا واضح من بعض رسومه التي يمثل فيها النور في تشردهم ولعبهم، كما يمثل في رسوم أخرى العازفين في الشوارع. ثم حدثت له أزمات مالية آخر حياته تثبت تبذيره، فقد حجز عليه الخباز سنة ١٦٥٢. وبعد عشر سنوات ضاق بعيشه حتى طلب من المجلس البلدي أن يتصدق عليه، فدفع له ١٥٠ فلورينا. وبعد سنتين عين له معاشًا سنويًّا قدره ٢٠٠ قطعة من الذهب.
وقد بدأ حياته الفنية في عاصفة الحرب الوطنية التي شرعت فيها هولندا قبل أن يولد بنحو ١٢ سنة والتي استمرت مدة طويلة في حياته، ورأى بعينيه الاستقلال يتحقق لبلاده والحرية تنتزع انتزاعًا من الإسبان فتأثر فنه بذلك.
ومن أحسن الصور التي رسمها صورة «الفارس الضاحك» وهي تمثل فارسًا هولنديًّا قد ارتسم على محياه الاستبشار والابتسام، وذلك عندما حالت الأحوال واتضح للهولنديين أن النصر سيكون حليفهم. ومن أحسن رسومه أيضًا صورة «المربية مع الطفل» وقد أوشك الطفل أن ينفجر بالضحك. ومثل هذه الصورة لا يمكن أن يرسمها رجل سكير يعق أولاده كما يتوهم الإنسان من شكوى زوجته الأولى.
هناك فرق أولي بين هالز ورمبرانت. فإن هالز قضى معظم عمره في زمن الحرب، أما رمبرانت فقد بلغ فنه النضوج، وأتم معظم رسومه بعد عقد الصلح. ولذلك عاش هالز في وسط الحياة النشيطة المتحركة التي لا تتيح للناس التفكير والهدوء. وقد نقل صورة هذه الحياة في رسومه. أما رمبرانت فقد أمضى عمره بعد شبابه في عصر السلام والهدوء عندما أتاحت الظروف لهولندا أن يكون لها من الفراغ ما تفكر فيه، وتتأمل عظمة استقلالها الذي نالته كما أتيحت أيضًا مسائل حياتها. فيمكن أن نقول إن هالز كان يمثل فروسية هولندا ونشاطها بينما رمبرانت يمثل عمق تفكيرها.
وقد ولد «رمبرانت» سنة ١٦٠٧ في مدينة ليدن، وهي مدينة هولندية كبيرة تمتاز بجامعة كبيرة. وقد كان أبوه يريد أن يعلمه في الجامعة، ولكن الصبي لم يؤهل نفسه لذلك، فإنه قضى معظم وقته في المدرسة وهو يرسم الرسوم المختلفة على هوامش الكتب ولا يؤدي شيئًا من واجباته المدرسية. فأخرجه أبوه وألحقه بمرسم أحد الرسامين، الذي لم يبق عنده إلا قليلًا ريثما أتقن الصنعة. أما الفن فقد كان يعرفه بسليقته وقوة بصيرته.
وفي سنة ١٦٣١ انتقل «رمبرانت» من ليدن إلى أمستردام. وهناك عرف أسرة غنية طلبت منه أن يرسم صورة فتاة تدعى «ساسكيا فان اولينبورج»، فرسمها وتبادل الاثنان الحب وتزوجا سنة ١٦٣٤.
وقد عاش الاثنان في هناء مدة طويلة. وكان هذا الحب المتبادل الذي هو أساس السعادة بين الزوجين موفورًا بينهما، بل من ينظر إلى رسم الزوجة وهي قاعدة على رجل زوجها لا يتمالك من الشعور بهذا السرور الذي يجمع بينهما. وكان لزوجته دخل يستعين به على تحقيق الرفاهية التي كان يحبها، وكان هو نفسه كثير الربح من رسومه. وقد أثث منزله وزينه بأفخر الرياش والتحف، مما يدل على هناء الحياة الزوجية التي كان يشعر به ويستزيد منه.
ولكن هذا الهناء لم يدم فقد ماتت زوجته بعد أن مات له ولدان منها. ولم تترك سوى ولد واحد هو «تيطس» الذي ما تزال صورته تُرى للآن في لندن.
وقامت منازعات بشأن ميراث زوجته بينه وبين أهل زوجته عقب وفاتها؛ لأنه غاظهم منه زواجه بالخادمة.
ومات ابنه ولم يترك سوى طفلة ولدت بعد وفاته. فعاش «رمبرانت» بعد ذلك يعاني صنوف الفاقة، وأعلن إفلاسه لكثرة ديونه التي كان يقع فيها حتى في أيام الرخاء الأولى مع زوجته الأولى، كما يدل على ذلك أنه عندما ماتت أمه وورث منها نصف طاحون احتاج إلى أن يتهارب من الدائنين بتنازله عن حقه لأخيه.
ومات في سنة ١٦٦٩ وهو وحيد فقير. ومن أشهر رسومه صورة «العجوز» التي صور فيها الشيخوخة وحاطها بمعاني الحب والاحترام والرقة. أما غرامه بنفسه فكان كبيرًا جدًّا حتى رسم نفسه عدة مرات في أعمار مختلفة. وأحسن ما فيه أن ينقل العاطفة ويعبر عن الفكر المستتر وراء الوجه. وهذا واضح في جميع صوره.