هولندا في القرن السابع عشر
عقدت معاهدة مونستر سنة ١٦٤٨ بين إسبانيا وهولندا. وبها استقلت هولندا وزال عنها كابوس الاضطهاد الإسباني، فسارت في طريق الرقي الاقتصادي والفني. ولم يمض عليها نحو قرن حتى صارت من أكبر القوى البحرية في العالم.
وعم الرخاء الأهالي، وبعمومه دخل الفن في طور جديد من حيث نزعته وبواعث رجاله. فقد كان إلى الآن في أوروبا يصور حياة العظماء من ملوك وأمراء، أو كان رجل الفن يستخدم ريشته في رسم جدران الكنائس أو تزيين القصور بالحوادث التاريخية. وذلك لأن الكنيسة والبلاط كانا يستأثران بالسلطان المادي والسياسي. ولكن هولندا أزالت هذين السلطانين إذ ألغت البابوية كما ألغت الملوكية فصارت بروتستنتية كما صارت جمهورية. ولهذا نجد أن الفن الهولندي في القرن السابع عشر يمثل الحياة العادية أكثر مما يمثل حياة العظماء. أما الحياة الإكليريكية أو حياة القديسين التي نراها في إيطاليا فلا نجد ما يمثلها في هذا الوقت في هولندا.
وقد كان لهذا التطور في الفن الهولندي ربح وخسارة. أما الربح فهو دخول الفن في ميادين جديدة من حياة الأمة وتمثيله لأحوال معايشها المختلفة في الريف والحضر والبر والبحر. وأما الخسارة فترجع إلى أن رجل الفن وجد بالاختبار أن الجمهور والعامة يحبون الصنعة أكثر مما يحبون الفن. وذلك لأن الصنعة يسهل على العامي أن يفهمها؛ لأنها لا تزيد عن أن تكون تدقيقًا في نقل الأصل الطبيعي. أما الفن فيحتاج إلى خيال الرسام الذي يصعب على العامي أحيانًا أن يفهمه. وهذا هو عين ما نجده في الأدب. فالأديب الكبير لا يبالي بالصنعة مقدار ما يبالي بها الأديب الناشئ الذي يُعنى بالألفاظ والتزويق والبهرجة. وذلك في حين أن للأول من ثقافته وهمومه الذهنية ودراساته المختلفة ما يلفت نظره إلى ما هو أهم من هذه الفسيفساء اللفظية يفهمها العامي ويعجب بها ويتذوق أسلوبها أكثر مما يستطيع فهم ما يكتبه الأديب الكبير.
وكذلك الحال في فن الرسم. فالعامة لا يمكنها أن تفهم الفن الإيطالي الراقي أو فن رمبرانت، لأن خيال الرسامين الذين أدوا تلك الرسوم السامية التي ما تزال للآن تزين المتاحف والقصور والكنائس كان من السمو كما كانوا هم أيضًا من الثقافة بحيث يتجاوز خيالهم أذهان العامة. وكانت الطبقات الراقية من الكهنة والعظماء المتعلمين يفهمونهم ويساعدونهم. أما الديمقراطية الجديدة، ديمقراطية العامة، فلم تفهمهم في هولندا. ولذلك تغلبت الصنعة على الفن وأخذ النقل الساذج المتقن من الطبيعة مكان الخيال والاختراع.
وهذا النقل المتقن يصور لنا حياة الهولنديين في القرن السابع عشر ولكنه لا يلهمنا. فنحن نكاد نرى فيه صورًا فوتوغرافية متقنة. فإذا نظرت إلى طائر رسمه أحد هؤلاء الرسامين ألفيت كل ريشة فيه قد رسمت بألوانها وظلال ألوانها كأنك ترى الأصل، ولكنك تقف عند هذه الحقيقة ولا تعدوها إلى الخيال. وليست هذه غاية الفن.
ولذلك نرى في القرن السابع عشر في هولندا طائفة كبيرة من صغار الرسامين مثل «جيراردو» الذي ولد سنة ١٦١٣ ومات سنة ١٦٧٥. ومن أحسن رسومه صورة «بائعة الدجاج» نعني لحم الدجاج، لأن الأوروبيين لا يشترون الدجاج حيًّا ويكلفون أنفسهم مشقة ذبحه في البيوت.
ومنهم «بطرس دوهوش» الذي ولد سنة ١٦٢٩ ومات سنة ١٦٧٧. وله ميزة على أقرانه من حيث اهتمامه بتصوير النور عندما تقع أشعته على أنحاء الغرفة، كما يتضح للقارئ من رسمه الذي يمثل فيه غرفة في منزل هولندي بها فتاة «التارنة» تقرأ في ضوء الشمس الذي ينسكب على جدار الغرفة من النوافذ.
ومنهم «مومير» الذي ولد سنة ١٦٣٢ ومات سنة ١٦٧٥. وكان يمتاز بالدقة في تصوير الألوان. ومن أحسن رسومه «رأس فتاة». وفي هذا الرسم من حلاوة الصبا وبزوغ الشباب ما يجعل الصورة ذكرى لمن يراها. وهي تفوق عصره في الفن والخيال.
ومنهم «بول بوطر» الذي ولد سنة ١٦٢٥ ومات سنة ١٦٥٤ ويمتاز بما له من الرسوم الريفية. وهولندا بلاد تُعنى بالزراعة من زمن قديم بل هي الآن أعظم أمة في القدرة على استغلال الأراضي وأقدر أمة على استخراج الحاصلات الزراعية، ولذلك كان من الطبيعي أن يُعنَى رساموها بتصوير حياتها الريفية. وأحسن رسوم «بوطر» هو رسمه «العجل» وهو عجل أوروبي بارد، إذا تأملته خيل لك أنه يجتر فليس فيه شيء من معاني الفحولة.
وممن رسموا الماشية في هولندا «البرت جوب» الذي ولد سنة ١٦٢٠ ومات سنة ١٦٩١ وله مناظر ريفية مثل منظره «عند النهر».
ومن عظماء الرسامين في هذا القرن «مندرت هوبيما» الذي ولد سنة ١٦٣٨ ومات سنة ١٧٠٩. فإنه ينزع إلى شيء من الخيال يميزه عن سائر الرسامين الهولنديين في ذلك الوقت، ورسومه عن الطبيعة من أبدع ما خلفه من التحف الفنية. وأحسن رسومه «الطريق». وقد كانت رسومه وحيًا للمدرسة الإنجليزية التي عُنيت برسم الطبيعة والأشجار والأنهار والجبال. وهنا يجب أن نلاحظ أن حب الطبيعة والريف والرياضة الخلوية نشأ في الأمم الشمالية، حيث الطبيعة في الجمال دون ما هي عليه عند الأمم الجنوبية مثل إيطاليا أو إسبانيا. فالرياضة البدنية الخلوية هي من المخترعات الاسوجية أو الإنجليزية أو الألمانية. وحب الطبيعة والدعوة إليها هما أيضًا من خصائص أهل الشمال في أوروبا. وهذا مع العلم بأن السماء أصحى في الجنوب مما هي في الشمال والطبيعة أزكى نباتًا وحيوانًا في الجنوب أيضًا. وكذلك الفن نحا نحو الطبيعة في الشمال، في هولندا أو إنجلترا. ولا ترى هذا النحو عند رجال الفن في جنوب أوروبا. وتكاد توهمنا هذه الشواهد بأننا نحب الطبيعة والريف والشمس والصحو بمقدار ابتعادنا عنها. فنتخيلها في الرسم، ونتغنى بها في الأدب، وننزع إليها في الرياضة. أما إذا كنا نعيش بينها ونلابسها في حياتنا فإننا لا نقدرها ولا نهيم بها.
وكما كانت هولندا أمة زراعية كذلك جاء عليها وقت كانت فيه أمة بحرية كبيرة كادت تنازع إنجلترا سيادة البحار. ولذلك نجد أن الفن الهولندي قد تناول موضوع الحياة البحرية. وأشهر من قام بذلك «فان دي فلت» الذي ولد سنة ١٦٣٣ ومات سنة ١٧٠٧، فقد صور البحر في سكونه وهياجه. وأشهر رسومه صورة «العاصفة» التي تمثل الكفاح بين الأمواج والملاحين.