نهضة الفن في فرنسا
ظهر فن الرسم في فرنسا في القرن السابع عشر وقد نزع نزعتين: إحداهما نزعة ديمقراطية تمت إلى الفلمنكيين والهولنديين ويُعنى فيها الرسام برسم أحوال الطبقات الوسطى والفقيرة، والأخرى نزعة أرستقراطية تمت إلى الإيطاليين ويُعنى فيها الرسام برسم حياة العظماء والملوك وتزيين القصور.
وأعظم الرسامين الفرنسيين في القرن السابع عشر هو «أنطون واطو» الذي ولد سنة ١٦٨٣ ومات سنة ١٧٢١. وكان مولده في فالنسين قريبًا من الحدود الفرنسية الفلمنكية. ولما حاول أن يتعلم الرسم رفض أبوه أن يساعده لأنه كان يرغب في أن ينشأ نجارًا مثله. ولما بلغ التاسعة عشرة فر إلى باريس، وهناك عرف أحد التجار الذي يتجرون بالصور الدينية فاشتغل عنده بنقل هذه الصور. ولم يكن الطبع بالحجر قد عرف بعد، فكانت الصور ترسم باليد. ويُحكى عنه في ذلك الوقت أنه قصد إلى غرفته التي يأوي إليها على سطح أحد المنازل ومعه قماشه وريشته وأصباغه، ولكنه نسى صورة «القديس نقولا» الذي كان عليه أن ينقلها. وجاءت زوجة التاجر تحمل معها هذه الصورة إليه، ولكنها عندما بلغت غرفته وشرعت في توبيخه لأنه نَسِيَ الأنموذج الذي ينقل منه، حانت منها التفاتة فرأت أنه قد رسم صورة هذا القديس معتمدًا على ذاكرته فقط ولم ينس شيئًا من التفاصيل.
وترك هذا العمل الذي يشبه السخرة واشترك مع رسام آخر يدعى جيلو، ولكنهما افترقا لأن جيلو رأى أن شريكه أبرع منه في الرسم وعرف في ذلك الوقت أمين قصر لوكزمبرج، فصار يتردد إليه يرسم ما حوله من الأشجار ويدرس ما في جدرانه من الرسوم التي زينه بها روبنز، وفيها وصف حياة ماري دو مدسيس (مديتشي). وتشبع «واطو» برسوم روبنز، حتى أثر بذلك في الفن الفرنسي فجعله يتجه نحو الطريقة الفلمنكية الهولندية بدلًا من الاتجاه نحو إيطاليا. ومن أحسن رسومه في ذلك الوقت رسمه «السيدة تلبس ملابسها».
وكان يحن إلى رؤية إيطاليا محج الرسامين في كل وقت، ورغب في أن ينال الجائزة المالية التي تمنحها الأكاديمية لكي يسافر بها إلى إيطاليا، وكان قد سافر إلى بلدته وهناك أدى بضعة رسوم تمثل حياة الجيش، فأخذ لوحتين كبيرتين من هذه الرسوم وتوسل بالرجاء إلى أن علقتا على جدران الأكاديمية. وحدث أن أحد الأعضاء وهو المسيو دولا فوس رآهما وأعجب بهما. فسأل عن الرسام وتعرف إليه. فلما بثه «واطو» دخيلة سره وأنه يرغب في أن يظفر بالجائزة لكي يسافر بها إلى إيطاليا أجابه المسيو دولا فلوس بأنه ليس في حاجة إلى ذلك لأنه يحسن الرسم كالإيطاليين إن لم يفضلهم. وسعى له هذا العضو حتى جعله هو نفسه عضوًا في الأكاديمية. وكان هذا خيرًا من الجائزة، لأنه أذاع شهرته فأقبلت عليه الدنيا وراجت رسومه.
ولكنه لم يتمتع كثيرًا بهذه الشهرة، فقد كان مصابًا بالدرن الذي تفشى في رئتيه أيام البؤس الأولى، فلما كان في السابعة والثلاثين ساءت حاله فكان لا يستطيع العمل إلا قليلًا، وكان يحب العزلة والاعتكاف وهما من الصفات الذهنية التي يحدثها التدرن في نفس المصاب به. وخطر له أن يسافر إلى إنجلترا سنة ١٧١٩، وهناك لقي توفيقًا، ولكن الجو القائم والرطوبة أثرا في صحته فعاد إلى فرنسا وقد تبدلت نفسه، فصار يكب على الصلاة وقراءة الأناجيل وينتظر الموت. وكان قد آوى إلى كوخ في قرية صغيرة تدعى نوجان أقام بها إلى أن مات سنة ١٧٢١. وكان آخر ما أداه من الرسوم رسم «صلب المسيح».
ومن الرسامين في ذلك العصر «بوشيه» الذي ولد سنة ١٧٠٣ ومات سنة ١٧٧٠، وقد نال جائزة الأكاديمية وهو حوالي العشرين من العمر. وقد عرف تلك المرأة الجميلة المدام دو بومبادور وأتحفها بطائفة كبيرة من رسومه. كما أنه ابتدع بدعة جديدة في الألوان، وهو أن يتخفف منها كلها فلم يستعمل الألوان الصارخة التي كانت شائعة في زمنه.
ومن رسامي ذلك العصر أيضًا «شاردن» الذي ولد سنة ١٦٩٩ ومات سنة ١٧٧٩. وكان ديمقراطي النزعة ينشد الجمال بين الفقراء من الصناع والتجار والعمال. ومن أحسن رسومه صورة طباخة تصنع الفطير، وعلى الرغم من أنه كان يعيش في زمن من أفسد الأزمنة، هو ذلك الزمن الذي هيأ التربة لنبات الثورة، فإنه لم يغتر ببهارج الطبقة السائدة ولم ينشد الجمال إلا في سذاجة الطبيعة وسلامة النفس.
ومن أحسن الرسامين في ذلك العصر «فراجونار» الذي ولد سنة ١٧٣٢ ومات سنة ١٨٠٦. وقد نال جائزة الأكاديمية سنة ١٧٥٢. ورحل إلى إيطاليا فقضى فيها أربع سنوات. وعاد إلى باريس فنال الحظوة بين النبلاء، وهو أشبه الرسامين من هذه الناحية ببوشيه الذي كان يحظى برعاية المدام دي بومبادور عشيقة الملك.
قالت الليدي دلك الإنجليزية: «لقد وجد بوشيه في فراجونار خلفًا صادقًا. فإن أزياء البلاط وعاداته بما فيها من التصنع الكبير، حتى في التظاهر بالبساطة ولزوم الطبيعة، ثم مزاج الهيئة الاجتماعية التي كانت تنغمس في الشهوات على الرغم من ادعائها للحنان والعطف، كل هذا كان سببًا لتلك الأكاذيب الكثيرة التي تجري في حياة الناس العادية … وحدائق فراجونار كلها سرور ولكن ما فيها من آلام وعواقب وخيمة كان يتجاهلها الرسام في رسومه. كما أن الأمراض والأحزان كان الناس يتجاهلونها في الحياة الواقعة أيضًا».
والفن كما سبق أن قلنا مرآة الحياة. وقد صور هذه الحياة التعسة بين نبلاء فرنسا كل من «فراجونار» و«بوشيه» ونقلاها في رسومهما بروح الإعجاب لا بروح الاستيلاء. وكان ذلك دليلًا على مقدار الغفلة المتسلطة على هؤلاء النبلاء الذين اكتسحتهم بل ذبحتهم الثروة الكبرى.
وقد كان يعاصر «فراجونار» رسام آخر هو أعظم من ذكرناهم شهرة وهو «جروز» الذي ولد سنة ١٧٢٥ ومات سنة ١٨٠٥، وهو يمثل أفكار جان جاك روسو في تصوير البساطة وسذاجة الإيمان، وقد نال شهرته لصورة رسمها عن «والد يشرح الكتاب المقدس لأسرته». وحياته تشبه حياة «واطو» من نواحٍ كثيرة. فقد كان والد كل منهما نجارًا يعارض ابنه في اتخاذ الرسم صناعة. وكما فرَّ «واطو» كذلك فرَّ «جروز» إلى باريس. وكلاهما نال شهرته حوالي الثلاثين: الأول بدخوله عضوًا في الأكاديمية، والثاني بعرضه هذه الصورة التي ذكرناها. وقد تألم كل منهما في آخر حياته: الأول بالمرض، والثاني بالفقر.
وأصل هذا الفقر الذي وقع فيه «جروز» هو زوجته، فقد أحبها وهو يعلم بفساد أخلاقها. ولكنه كان يمني نفسه بإصلاحها، وقد خلدها في رسم بديع هو «رأس فتاة تتطلع» فإن هذه المرأة لم تكف عن فسادها وزادت على ذلك أنها أتلفت ماله وأضاعت كل ما كان يدخره. وجاءت الثورة الفرنسية فكانت عنصرًا جديدًا لم يألفه «جروز» فمات غريبًا عنها لا يُعنى به أحد.