الرسامون الإنجليز في القرن الثامن عشر
لم يكن «هوجارث» أول الرسامين الإنجليز، ولكنه كان أول من اعتمد على بصيرته في الرسم دون النسخ الذي كان دأب الذين سبقوه. وهو لم يكن فقط … «أول رسام إنجليزي وطني، وأول من نظر إلى الحياة الإنجليزية نظرًا إنجليزيًّا ورسمها بدون تصنع أو تأثير أجنبي، بل كان أيضًا أول من جعل الصور محبوبة عند الشعب».
ولد «هوجارث» سنة ١٦٩٧. وكان أبوه معلمًا مستنيرًا، فلم يعارض في أن ينشأ ابنه رسامًا. وكان السير ثورنهل قد أنشأ جمعية للفنون، وكان يلقي فيها محاضرات، فصار هوجارث يواظب على حضورها، ولكنه سئمها في الآخر عندما رأى أن الرسم مقصور على النسخ من الصور القديمة. وكان يقول: «النسخ أشبه الأشياء بصب الماء من إناء لإناء» أي أنه كان يرغب في أن يستنبط ماءه بنفسه من الحياة ذاتها.
ولكنه بقي يلازم مرسم السير ثورنهل لأنه أحب ابنته. ولم يكن يطمع في أن ينال رضا السير ثورنهل بزواجه بابنته، ولذلك عمد إلى الفرار بها وتزوجها. وبقي الزوجان أربع سنوات وهما بعيدان عنه حتى ساعده الحظ ورفعه إلى مكانة الكفء لمصاهرة السير ثورنهل، فاصطلحا وأسس لنفسه مرسمًا في لندن.
ولم يبتغ «هوجارث» حظوة النبلاء والطبقة العالية، ولكنه كان يرسم الطبقات المتوسطة والوضيعة كالممثلين والخدم وأفراد أسرته. وهو يرسم هؤلاء على حقيقتهم. ومن أجمل رسومه رسم «فتاة الجنبري» التي تنبض بالحياة ويكاد ينطلق وجهها مؤديًا تلك المعاني التي توضحها العينان والفم.
وقد ابتدع طريقة جديدة في الرسم، وهي أن يؤلف القصة ثم يرسمها فصلًا بعد فصل. وقد كان الرومان ينقشون على الأعمدة والجدران الرسوم الخاصة بوقائع الإمبراطورة، وكان جوتو يرسم أسفار التوراة، ولكن «هوجارث» كان يؤلف القصة ثم يرسمها. وكثيرًا ما كان يضمنها العبر والعظات في الأخلاق. وله سلسلة تسمى «زواج المودة» تعمد فيها نقد الأخلاق في الأسر الراقية وتهزئة ما يتصنعه أفرادها من ثقافة وكبرياء.
وكان مع بلوغه حالًا حسنة من اليسار متواضعًا يكره الأبهة. خرج ذات مرة من مرسمه فسار إلى منزله والمطر يهطل، وقد نسي أن له مركبة فاخرة تنتظره، فأصابه برد فمات سنة ١٧٦٤.
ويعد «ولسون» الحلقة التي تصل بين «هوجارث» و«رينولدز» كما يعد ثلاثتهم واضعي الأساس لنهضة الفن في إنجلترا. وكان مولد «ولسون» سنة ١٧١٤. وكان أبوه قسيسًا فقيرًا، ولكن أمه كانت متصلة بأسرة كبيرة تعرف قيمة الفنون. فلما رأى بعض أفرادها ميل الشاب إلى الرسم بعثه إلى لندن ليتعلم. وقد بدأ برسم الأشخاص، ولكنه اشتهر برسم مناظر الريف والطبيعة. وحدث ذات مرة أنه دُعي سنة ١٧٤٨ إلى رسم ولي العهد والدوق يورك ومعلمهما، ونال أجرًا كبيرًا تمكن به من أن يرحل إلى إيطاليا لكي يدرس صور عظماء النهضة الإيطالية. وهناك رسم بعض المناظر الطبيعية.
وعاد إلى إنجلترا فلقي حظوة كبيرة بين الأغنياء الذين صاروا يتغالون في شراء صوره، إلا أن الحظ عاد فانقلب عليه حتى قضى سنيه الأخيرة وهو في فاقة بالغة إذ لم يكن ينال من الطعام سوى الخبز.
أما سبب نكبته فيرجع إلى أن الجمهور لم يداوم على طلب المناظر الريفية والطبيعية التي كان يرسمها، وأيضًا إلى حادثة صغيرة حدثت له. فقد رسم منظرًا من حدائق كيو وعرضه، فأراد الملك أن يشتريه. فبعث إليه اللورد بوت، وكان هذا اللورد من الإسكوتلانديين المتزمتين الذين لا يفهمون الفكاهة. فلما شرع يساومه في الثمن أجاب الرسام أن الثمن ٦٠ جنيهًا لا ينزل عنه. واستكثر اللورد بوت هذا الثمن فأجاب الرسام مداعبًا: «قل لجلالة الملك يدفع الثمن أقساطًا».
واستكبر اللورد بوت هذه الكلمة وأنزل بالرسام غضب البلاط الذي استتبع أيضًا غضب النبلاء. ولولا أن «ولسون» كان قد تعين أمينًا لمكتبة «الأكاديمية الملوكية» بمرتب ٥٠ جنيهًا في العام قبل أن يفوه بهذه الدعابة لهلك جوعًا. ومات بعد فاقة مؤلمة سنة ١٧٨٢ عند أقاربه في ويلز.
ومعظم الرسوم الباقية لولسون هي مناظر طبيعية لإنجلترا وإيطاليا. ولم يكن أثره مقصورًا على أن جعل الرسوم الطبيعية محبوبة، بل هو جعل الريف الإنجليزي نفسه محبوبًا بما أظهر فيه من محاسن يغفل عنها الزائر المتنزه، ولكنها تتضح في الرسم الذي تؤديه اليد الماهرة والخيال السامي.
وأعظم الثلاثة هو بلا شك «رينولدز» الذي ولد سنة ١٧٢٣ في ميناء بليموث، وهناك عرضت له فرصة حسنة لزيارة إيطاليا. فقد نشأ الفتى يحب الرسم واتفق أن قبطان إحدى البوارج الراسية في تلك المياء رآه هناك وأحبه وأعجب برسومه وأفضى إليه الفتى بهواه في رؤية إيطاليا وكانت البارجة على وشك السفر إلى البحر المتوسط فعرض عليه القبطان أن ينقله إلى إيطاليا.
وهناك أخذ يدرس الرسوم المشهورة في رومية والبندقية وفلورنسا. ولما عاد إلى لندن أقام له مرسمًا عاش فيه عزب يقول عن نفسه إنه قد تزوج فنه. وكان أصم يعيش مع أخته وسائر قريباته. ولم يكن بيته يخلو من حلاوة الطفولة وجمال الصبا. ورسومه الخاصة بالطفولة مأخوذة من أعضاء أسرته. ولما تأسست «الأكاديمية الملوكية» تعين رئيسًا لها. قال لوكاس: «لم يكن الناس يطلبون رينولدز إعجابًا ببراعته في الرسم، بل حبًّا لمحادثته. ومع أنه لم يكن ينشد مصادقة الطبقة العالية فإنه كان يعرف قيمتها. وهناك من ذوي الأذهان السامية من صادقوه مثل: بورك، وجولد سمث، وجونسون، فكان منزله مركزًا للمسامرة والأنسة».
ومن أحسن رسومه صورة «الآنسة بوت تمثل طائس». وطائس هذه هي الفتاة الإغريقية التي رافقت الإسكندر المقدوني في حروبه، فلما مات أخذها بطليموس الأول فولدت له ثلاثة أولاد. وصورته الثانية «الطفل صمويل» وقد جعلها رمزًا لسذاجة الإيمان، وصورته «وقت السذاجة».
ومما يؤسف له أن «رينولدز» كان يحب من الألوان أزهاها وأنضرها، فكان يمزج أصباغه ببعض مستخرجات القار. ومن المعروف أن القار يذوب في الحر، كما يتضح لنا ذلك في الصيف في الشوارع المفروشة بالأسفلت، ولذلك فإن بعض رسومه تلفت واختلطت أصباغها.
وكان «رينولدز» قد فقد إحدى عينيه فحزن لذلك كثيرًا في آخر أيامه، وبقي في خشية العمى إلى أن مات سنة ١٧٩٢. وقد دفن باحتفال رسمي في كنيسة القديس بوليس أكبر كنائس لندن. وكان أديبًا يجيد الكتابة كما يجيد الرسم. وله الآن كتاب يدعى «محاضرات عن الرسم» هو مجموعة المحاضرات السنوية التي كان يلقيها على طلبة «الأكاديمية».