الثورة الفرنسية والفنون
لكي نعرف الأثر العظيم الذي أحدثته الثورة الفرنسية في الفنون يجب أن ننظر قليلًا في حالة الفنون الفرنسية في القرن الثامن عشر. ففي سنة ١٦٤٨ تأسست «الأكاديمية» الفرنسية وغايتها ترقية القنون، ولكنها سارت في خطة تناقض هذه الغاية، فإن «رجال الفن الذين لم يكونوا أعضاء بهذه الأكاديمية أو منتسبين إليها لم يؤذن لهم بعرض رسومهم للجمهور، بل أعضاء الأكاديمية أنفسهم لم يكن لهم أن يعرضوا رسومهم في مكان آخر غير الأكاديمية، وقد طرد واحد من الأكاديمية يدعى «سير» لأنه عرض صورته «طاعون مارسليا» لكي تباع. والمنحة الوحيدة التي كانت الأكاديمية تمنحها لغير الأعضاء هي الإذن بالعرض يومًا واحدًا في ميدان دوفين في «معرض الشباب» بحيث لا تزيد مدة العرض عن ساعتين».
وفي هذا ما ينبه القارئ إلى الخطر الذي يمكن أن يحدث للثقافة والفنون من المجامع العلمية إذا لم يكن المؤسسون لها يقظين يحسبون للرغبة الطبيعية في هذه الهيئات في الاحتكار والسيطرة. ولنا نحن من ذلك عظة.
فهذه الأكاديمية الفرنسية أخرت الفنون بدلًا من أن ترقيها، ولذلك لما جاءت الثورة أذنت «الجمعية الوطنية» لجميع رجال الفن سواء أكانوا أعضاء أم غير أعضاء بالأكاديمية أن يعرضوا رسومهم، وألغت بذلك احتكار الأكاديمية للعرض. ومن الأرقام يتضح للقارئ مقدار التقدم بإلغاء السلطة الأكاديمية. فقد كان المعروض من الصور قبيل الثورة سنة ١٧٨٩ والملوكية قائمة ٣٥٠ صورة، فزادت إلى ٧٩٤ سنة ١٧٩١ أي مدة الثورة. وفي سنة ١٧٩٥ بلغ العدد ٣٠٤٨ صورة.
وهذه الأرقام تدل القارئ على أن ما نحسبه نظامًا مفيدًا قد يكون تقييدًا مضرًّا، وأن الحرية على ما فيها من قليل من الفوضى والاضطراب خير من المبالغة في التقييد بدعوى النظام.
وفي سنة ١٧٩٣ قررت حكومة الثورة دفع مكافآت لرجال الفنون تبلغ قيمتها السنوية ٤٤٢٠٠٠ فرنك. وتأسس متحف في اللوفر لجميع التحف الفنية. وبينما كان الرعاع يهدمون الآثار الفنية، كان رجال الثورة يجمعون كل ما يستطيعون جمعه منها وصيانته.
وكانت النزعة الفاشية في الفنون مدة الثورة تنحو نحو القدماء وتستوحي الإغريق والرومان، وكان الميل إلى الرومان أكثر من الميل إلى الإغريق، ولعل هذا هو السبب لإخفاق الثورة في إنجاب رجل عظيم من رجال الفن.
ويعد «دافيد» الذي ولد سنة ١٧٤٨ وتوفي سنة ١٨٢٥ من أحسن من يمثل تأثير الثورة في الفنون. وقد رحل إلى روما، وأخذ هناك في درس القدماء. ولا نعني القدماء من الرسامين في عهد النهضة، بل قدماء الرومان أيام الإمبراطورة، ولذلك فإنه كان يختار لرسومه موضوعات قديمة. وعاد إلى باريس فكان من حزب روبسبير، وكاد يتعرض للخطر. ولكنه كف عن السياسة واعتكف في مرسمه، فنجا بذلك من عواصف الثورة. ولما أسس «معهد فرنسا» على أنقاض الأكاديميات القديمة تعين «دافيد» عضوًا لكي يختار سائر الأعضاء.
ولما ظهر نابليون وارتفع شأنه كان «دافيد» من أعظم المعجبين به، وقد قعد له نابليون جلسة واحدة فشرع في رسم الرأس ولكنه لم يتمم الجسم لسأم نابليون، ولأنه كان يحب أن يظهر للناس كما يتخيلون على رأس جيش أو وهو على جواده في المعمعان أو نحو ذلك، ولذلك رسمه رسمًا خياليًّا في صورة «نابليون يعبر جبال الألب».
وأحسن ما خلفه «دافيد» هو صورة «المدام ريكامييه»، مع أنه كان يعتقد أنها غير جديرة به وكاد يتلفها لهذا السبب. وقد حدث له أنه قبل أن يكمل الصورة تركته هذه السيدة وقصدت إلى رسام يدعى «جيرار» وثب حديثًا إلى الشهرة لكي يرسمها، فلما مضت مدة لم تعجبها الصورة فعادت إلى «دافيد»، ولكنه أجابها بقوله: «نحن يا سيدتي لنا نزق النساء فلنترك الصورة حيث وقفنا».
ولما انهزم نابليون سنة ١٨١٥ نفى «دافيد» من فرنسا. فقصد إلى بروكسل حيث مات سنة ١٨٢٥. وإلى «دافيد» يعزى إحياء هذه النزعة إلى درس القدماء من إغريق ورومان.
ومن أحسن الرسامين في ذلك العصر المدام «فيجيه لوبران» التي ولدت سنة ١٧٥٥ وماتت سنة ١٨٤٢. وكان أبوها رسامًا مات وهي في الثانية عشرة فاستأنفت هي عمله وصارت لها شهرة وهي بعد في الخامسة عشرة. وتزوجت المسيو لوبران، وكان يتجر بالرسوم والتحف الفنية وعنده مجموعة من الصور، وجدت هي الفرصة الحسنة في درسها والنقل عنها. واختيرت عضوًا في الأكاديمية سنة ١٧٨٣. وكانت ترسم أعضاء الأسرة المالكة، وقد رسمت الملكة ماري أنطوانت وأولادها. ولما اشتعلت الثورة خشيت عواقبها فنزحت إلى إيطاليا، وهناك احتفل بها الرسامون وأكرموها، وتنقلت في العواصم الأوروبية. ثم عادت إلى فرنسا سنة ١٨٠١، وعادت فغادرتها إلى إنجلترا ثم هولندا، ولم تعد إليها إلا سنة ١٨٠٩.
ولم تتأثر بالثورة لأنها قضت معظم وقتها خارج فرنسا، ولذلك فإننا لا نجد فيها تلك النزعة إلى القديم التي نجدها في دافيد. ولا يمكن أن ننسبها إلى مدرسة خاصة، فإنها لا تنتسب إلى المدرسة الفرنسية إلا من حيث الرعوية والزمن فقط، فهي في الواقع أممية الذوق والنزعة. وأحسن ما خلفته من الصور هو رسمها لنفسها مع ابنتها.
ويعد «البارون جروس» من تلاميذ دافيد. ولكن هذه التلميذة كانت شؤمًا عليه، وكانت سببًا لانتحاره. وقد ولد سنة ١٧٧١ وتوفي سنة ١٨٣٥. ودخل مرسم دافيد سنة ١٧٨٥ وما زال يمارس الرسم عنده حتى أشبع بطريقته وحبه للقدماء. وسافر إلى إيطاليا ونزل في جنوه، وهناك عرف جوزفين التي صارت بعد ذلك إمبراطورة فرنسا فقدمته لنابليون الذي أحبه وأذن له برسمه في الصورة المعروفة باسم «نابليون في اركول».
وقد كان يمكنه أن يكون زعيم نهضة في الرسم لو لم يتأثر بالنزعة إلى القدماء التي غرسها فيه دافيد. فقد بقي طول حياته تصطرع في نفسه نزعتان: إحداهما تنزع به إلى رومية وأثينا، والأخرى تنزع به إلى ما يسمى الحركة الرومانية.
وهذه الحركة الرومانية شاعت في الأدب والفنون منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر. وكانت ترمي في الفنون إلى مخاطبة العواطف بدلًا من مخاطبة الذهن، ولكنها كانت في الأدب ترمي إلى النزوع نحو القرون الوسطى.
وقد درس «جروس» روبنز وفانديك وتأثر بهما من حيث المبالغة في الألوان. ورأى الحرب بنفسه. إذ حوصر وهو في جنوده بالجيوش الفرنسية. فقاده ذلك من حيث لا يدري إلى أن يخرج على أستاذه دافيد. وفي سنة ١٨٠٤ عرض صورته «المرضى بالطاعون في يافا» في باريس، فأثارت الحماسة في نفوس الشبان المشتغلين بالرسم حتى جللوها بالزهر.
ولما سقط نابليون وأعيدت أسرة نابليون البوربون إلى العرش بقي «جروس» آمنًا، بل أنعم عليه الملك بلقب بارون. وكان دافيد في ذلك الوقت ينعي على تلميذه تركه للقدماء وإضاعة وقته في رسم الأشياء الحاضرة، ويهيب به إلى أن يعود إلى رسم الصور التاريخية، وهو يعني بذلك تاريخ رومية وأثينا. وكان «جروس» يتهم نفسه بخيانة المبادئ التي وضعها أستاذه. ولما مات دافيد أراد «جروس» على سبيل الشكران له أن يرسم صورًا قديمة فرسم «هرقل وديوميد». ولكنها عند عرضها لم تنل سوى استهزاء الرسامين الجدد الذين شرعوا يدركون من الحركة الرومانية معاني أسمى من الدعوة إلى رسم الموضوعات القديمة. وفي سنة ١٨٣٥ انتحر «جروس» بأن أغرق نفسه بعد أن يئس من صد تيار الحركة الرومانية الجديدة.
ولكن زعامة الدعوة إلى القديم كانت في يد «أنجر» أشد غرضًا وأقوى سبيلًا مما كانت في يد جروس. وقد ولد سنة ١٧٨٠ ومات سنة ١٨٦٧. وسافر إلى رومية سنة ١٨٠٦ وبقي هناك ١٨ سنة «يرسم ليتعلم ويصنع الصور ليعيش». وكان أحسن القديم عنده ما سبق النهضة الإيطالية، فهو لم يكن يميل إلى رومية والإغريق بمقدار ما كان يميل إلى أولئك الرسامين البدائيين في إيطاليا.
ولما عاد إلى فرنسا وجد نفسه زعيمًا للدعوة إلى القديم. وثم اختلاف بين دافيد وبينه، فالأول كان يدعو إلى اتخاذ الموضوع القديم، أما «أنجر» فكان لا يبالي بأي موضوع يرسمه. ولكن المهم عنده أن يرسم على الطريقة القديمة، وليس شك في أنه انتفع بهذه الفكرة، وخصوصًا عندما كان يرسم الجسم الإنساني العاري. وأحسن ما خلفه من الصور هو «العين»، وهذه الصور تحفة ثمينة تمثل فتاة عارية قد وقفت وعلى كتفها دن أو جرة لتستقي من العين. وقد شرع في رسمها سنة ١٨٢٤، ولكنه تركها، ثم عاد إليها فأتممها سنة ١٨٥٦. فجمع بين خيال الشاب وصنعة الشيخ الخبير. ومن أحسن رسومه أيضًا صورة «جان دارك» الفتاة الريفية التي قادت الجيش الفرنسي وطردت الإنجليز من فرنسا ثم أحرقت بالنار بتهمة الهرطقة.
ومن أغرب ما يذكر عن تأثير الثورة الفرنسية أن الرجل الذي تأثر بها ونزع نزعتها لم يكن فرنسيًّا بل إسبانيًّا، وهو «جويا» الذي ولد سنة ١٧٤٦ ومات سنة ١٨٢٨. فقد قضى عمره يدعو بريشته إلى الثورة، فيهزئ الملوكية والكهانة والدين والمجد الحربي. وكانت إسبانيا ترزح تحت أسرة البوربون كما كانت فرنسا قبل الثورة، وكان البلاط الإسباني في غاية الانحطاط.
ونشأ «جويا» في أراغون، وكان أبوه فلاحًا، ولكن الفتى أبدى ميله منذ صباه إلى الرسم. فأرسله أبوه إلى مرسم أحد الرسامين في سراقسة، وانتقل إلى مدريد وتصعلك بتعرفه إلى الفئات المنحطة وكان يطارد من مكان إلى آخر، وأخيرًا تزوج بأخت أحد الرسامين المعروفين في البلاد، فاتصل بالملك شارل الثالث ورسمه وصلحت حاله بعد ذلك، وكان يرسم أشخاص الطبقة العالية وكأنه يريد أن يفضحهم، فالأصباغ واضحة في الوجنتين، والكحل والتزجيج ظاهران، ولكن إسبانيا كانت من الانحطاط بحيث لم تكن مثل هذه الأعمال مما تلام عليها امرأة.
ومن أحسن ما رسمه صورة الدوقة الفا التي سماها «الماجة العارية»، ويقال إنه نوى أن يرسمها في الأصل عارية، ولكن زوجها فاجأه فرسم عليها ثيابًا رقيقة لئلا يشك الدوق في أمانة زوجته، ثم أعطى الصورة الكاسية للدوق وصنع صورة أخرى عارية استبقاها لنفسه.
وله رسوم كثيرة عن الأسرة المالكة، وقد تعمد أن يرسم أشخاصها بهيئات تبعث الاشمئزاز في نفس الناظر إليهم، ورسم سلسلة من الصور سماها «الأهواء» لتهزئة الحالة الاجتماعية والدينية، كأنه يرسم نساء متدينات يعبدن فزاعة من تلك الفزاعات التي تنصب في البساتين لطرد الطيور، أو يرسم القسوس وهم يصلون بلا تقوى أو خشوع، أو يرسم الجثة وقد انتفضت من القبر وكتب على أصبعها «العدم» كأن الآخرة التي بعثت فيها لا تحتوي على شيء سوى العدم، أو كأن يصور جهل القسوس في صورة مثل «المسحور» حيث ترى كاهنًا مرعوبًا بالعفاريت التي تتراءى له بهيئة الحمار والتيس، ومن أحسن ما خلفه صورة تمثل فظاعة الحرب في وقت لم يكن أحد يفكر في المجد إلا معلقًا بالحروب والسلاح، ففي هذه الصورة يصور رجلًا إسبانيًّا من المتطوعين قد حكم عليه الفرنسيون بالإعدام، فهم يقتلونه في فظاعة وطمأنينة كأنهم يؤدون عملًا اعتياديًّا لا غرابة فيه، ورسم صورة أخرى سماها «موت الحق» مثل فيها الحق شخصًا عاريًا يقتله القسوس.
وفي سنة ١٧٩١ ماتت زوجته وابنه، وأصيب هو بالصمم، ولكنه دأب في رسم الصور التي تمثل أفكاره الثورية، فمن ذلك مثلًا رسمه لحجر السجون وحجر التعذيب، ومن أشهر رسومه الآن صورة «قتال الثيران» وهو موضوع عرفه أيام صعلكته الأولى.
ولما أحس أن الطبقات الحاكمة قد بدأت تفهم مقاصده من رسومه التي هاجم فيها الدين، سافر إلى فرنسا، وهناك نزل في بوردو حيث مات سنة ١٨٢٨.