رسم المناظر الطبيعية عند الإنجليز
كانت الثورة الفرنسية ترمي إلى تغيير الحكومة، ولكن أهم ما أحدثته من التغيير كان في الهيئة الاجتماعية والأخلاق وعلاقات الأفراد والفنون الجميلة. فقد نزعت بالناس إلى حب السذاجة والطبيعة وكراهة التصنع والكذب. وكان لهذا أثره العميق في الفنون.
وقد بدأ حب الطبيعة ورسمها في فرنسا في القرن السابع عشر قبل الثورة، ولكنه لم ينجح. وكان الرسام يضطر إلى «تزيين» رسمه بالأشخاص أو الحوادث التاريخية لأنه لو اقتصر على الطبيعة لما اشترى أحد صورته، وأول من رسم الطبيعة هو كلود جيليه الفرنسي الذي ولد سنة ١٦٠٠ ومات سنة ١٦٨٢. وكان يرسم حوادث التوراة على فراش من الطبيعة الزاهية بالألوان والأضواء اللامعة. وهناك رجل فرنسي آخر أحب الطبيعة هو نقولا بوسن الذي ولد سنة ١٥٩٤ ومات سنة ١٦٦٥. وقد عاش طول حياته في رومية.
بيد أن النزوع إلى الطبيعة لم يظهر تمامًا إلا عقب ظهور أدباء الثورة الفرنسية، أمثال روسو الذي قضى عمره وهو يدعو الناس إلى الرجوع إلى الطبيعة والسذاجة. وقد تأثرت إنجلترا بهذا الدعوة في أدبها وفنونها. ولذلك نرى أن أول من تجرأ على رسم الطبيعة هو «جورج مورلاند» الإنجليزي الذي ولد سنة ١٧٦٣ ومات سنة ١٨٠٤. وكان ضغط أبويه له قد أفسد أخلاقه، حتى إنه عندما انطلق من قيودهما انطلق أيضًا من قيود الأخلاق واندفع في حياة اللهو وأكب على الشراب حتى انتهت حياته بالحبس. وقد عرض عليه رومني أن يعطيه مرتبًا قدره ٣٠٠ جنيه إذا عاونه في مرسمه، ولكن «مورلاند» لم يطق هذا «التقييد». إذ كان يلذ له أن يتنقل في الريف ويزور الحانات ويعيش عيشة التشرد. وكان المتجرون بالصور يستأجرونه للرسم ويملون عليه الموضوع، فلذلك رسم صورًا سخيفة مثل «نتائج الإسراف والكسل» أو «ثمرة الاجتهاد» وكان أجره في اليوم أربعة جنيهات يضاف إليها الشراب. وقضى السنوات الأخيرة من عمره في السجن.
ولكن أعظم الرسامين الذين نبغوا في رسم الطبيعة هو «تورنر» الإنجليزي. وهو للرسم الإنجليزي بمثابة شكسبير للدراما الإنجليزية، وقد ولد سنة ١٧٧٢ وكان أبوه حلاقًا في لندن. وكان الصبي يخدم في دكان أبيه ويلهو بالرسم. فلما رأى بعض الزائرين براعته في الرسم نصحوا أبيه أن يلحقه بمدرسة الأكاديمية. وقضى الصبي سنوات في هذه المدرسة ثم خرج وأخذ يرسم للناس وللمجلات، فاتضحت للناس قيمته وأقبلوا على شراء صوره.
وكان في أول ظهوره ينقل عن الطبيعة نقلًا مجردًا من الخيال، ولكنه عندما تقدم ووثق من نفسه صار يضيف خياله إلى الطبيعة ويؤلف منهما ألوانًا عجيبة من الجمال. ومن أحسن رسومه تلك الصورة التي رسمها سنة ١٨٠٧ وهي «الشمس تبزغ خلال البخار». وقد باعها ثم عاد فاشتراها لتكون هدية منه للأمة. وليس في العالم رجل استطاع أن يرسم أضواء الشمس والقمر وظلال هذه الأضواء مثل «تورنر».
ومن أحسن رسومه صورة «البارجة المتهورة» وهي بارجة فرنسية كانت بأبي قير مدة وجود نابليون في مصر، فلما دهم الإنجليز الأسطول الفرنسي قاتلت بشجاعة حتى أطلق عليها اسم «المتهورة». وهي في الصورة تقاد إلى الميناء لتحطيمها.
وقد عاش «تورنر» مع أبيه دون أن يتزوج، ولكنه بعد وفاة أبيه عاش عيشة مزدوجة. فقد عرف سيدة في لندن كان يقضي معها أيامًا باسم «الأميرال بوث» ثم يعود إلى منزله فيقضي أيامًا باسم «تورنر». ولم تعرف هذه الحقيقة عنه إلا قبل وفاته بيوم. فإن السيدة أبلغت الخادم أن «تورنر» عندها. وفي اليوم التالي لوفاته نقل إلى منزله الأول الذي شيعت جنازته منه ودفنت جثته في كنيسة القديس بولس سنة ١٨٥١. وقد ترك ١٢٠٠٠٠ جنيه أوصى بمعظمها لترقية الفن ومساعدة رجاله، ولكن حدثت خلافات عقب وفاته في تأويل الوصية، انتهت بالصلح بين ورثته وبين الأكاديمية. وفي سنة ١٨٤٠ عرف روسكين «تورنر» وألف كتابه «الرسامون المحدثون». وكانت غاية المؤلف الإكبار من شأن «تورنر» فزاد هذا من شهرة الرسام الذي هو رمز الآن للعبقرية الفنية عند الإنجليز.
وليس لمن عاصروا «تورنر» ذكر بالنسبة إلى شهرته مع أنهم لولاه لكانت لهم شهرة وصيت، وهذا مع استثناء «كونستابل». فمن هؤلاء: جبرتن ودوونت وكوكس. وهذا الأخير أشهرهم، ولد سنة ١٧٨٣ في برمنجهام حيث تعلم الرسم. ولكنه لم يبرع فيه إلا بعد أن استنار ذهنه بالسياحة في أوروبا. وفي سنة ١٨٣٩ التقى بالرسام جيمس مولر (١٨١٢ - ١٨٤٥) وكان هذا قد زار مصر واليونان وتأثر بمناظرهما الطبيعية التي تخالف المألوف في إنجلترا. وقد انتفع كوكس به ودرس رسومه وتأثر منها. وأحسن ما خلفه «كوكس» رسمه «يوم عاصف» وقد مات سنة ١٨٥٩.
أما «كونستابل» فلا يقل عبقرية عن «تورنر» ولكنه دونه شهرة وتوفيقًا. وعلة ذلك أن «تورنر» كان يعرف أن الناس لا يحبون اقتناء صورة الطبيعة والريف، فكان يخترع حادثة تاريخية توهم الناظر كأنها هي الأصل، والمناظر الطبيعية حولها ليست سوى فراش الصورة. بيد أن «كونستابل» لم يكن يحتال على أذواق الجمهور بهذه الطريقة بل كان يقنع برسم المنظر الطبيعي أو الريفي ويجعله الأصل والفصل. وقد ولد سنة ١٧٧٦ وتتلمذ للسير بومونت الذي لم يكن رجلًا غنيًّا يرعى الفنون فقط بل كان رسامًا أيضًا، وكان يشجع «كونستابل» على الرسم ويعاونه بالمال والنفوذ.
وفي سنة ١٨١٦ تزوج «كونستابل» وعاش بعد ذلك سعيدًا مع زوجته، وأسس له مرسمًا، ولكنه لم يحز الشهرة التي يستحقها في لندن وإنما حازها في باريس. لأن الفرنسيين استطاعوا أن يقدروا عبقريته وبراعته في رسم الأضواء والألوان الطبيعية. ومن أحسن رسومه «الجواد القافز» و«حقل القمح»، ولولا أن صهره مات وخلف لزوجته ٢٠٠٠٠ لشعر بالفاقة. وانتخب في آخر حياته عضوًا في الأكاديمية، ولكن وفاة زوجته في ذلك الوقت لم تترك له الفرصة لأن يتمتع بهذا الامتياز. ومات سنة ١٨٣٧ وازدادت شهرته بعد ذلك. والآن يتغالى الناس برسومه ويدفعون فيها عشرات الألوف من الجنيهات. ويمتاز «كونستابل» عن «تورنر» من حيث إنه إنجليزي أكثر منه في رسومه. فإن «تورنر» قد تأثر بمناظر أوروبا التي ساح فيها، ولكن «كونستابل» لم يكن يعرف سوى ريف إنجلترا وجبالها.
ومن الرسامين الإنجليز في ذلك العصر بونتجتون الذي ولد سنة ١٨٠١ ومات سنة ١٨٢٨. وقد زار فرنسا وإيطاليا ولم يعش طويلًا ليكشف عن تلك العبقرية الكامنة فيه. وأحسن رسومه صورة «عمود كنيسة القديس مرقس» وهي الكنيسة الكبرى بالبندقية.
ومنهم جون كروم الذي ولد في مدينة نوريتش مدينة النسيج الإنجليزية المشهورة وكانت ولادته سنة ١٧٦٩ ووفاته سنة ١٨٢١. وهو مؤسس «مدرسة نوريتش» إذ جمع حوله طائفة من شباب تلك المدينة الذين يهوون الفنون الجميلة، فألف منهم جمعية صارت تنشئ المعارض السنوية في نوريتش ولندن. وظهر في هذه المدرسة طائفة حسنة من الرسامين مثل «جيمس ستارك» الذي مات سنة ١٨٥٩، و«كوتمان» الذي مات سنة ١٨٤٢ و«جون كروم» الذي مات سنة ١٨٢١. ونجحت «مدرسة نوريتش» لأسباب اقتصادية لأنها نشأت في وسط غني بالصناعة يقدر أهله الفنون ويقتنون التحف الجميلة. وكذلك لنجاحها سبب آخر هو علاقة الأقاليم الشرقية الإنجليزية بهولندا وتأثرها بالفن الهولندي.