الجمال ومعاييره وحدوده
الجمال في أشكاله المختلفة لا يختلف فيه الناس إلا بمقدار تربيتهم الفنية التي تزيد البصيرة الطبيعية نورًا وتورثهم هذا الذوق الذي نراه على أكمله في رجل الفن، فجميع البشر على السواء يتذوقون الجمال الساحر في الزهرة الزاهية، والشجرة النضرة، والوجه المشرق، ويجمعون على أن في الفرس رشاقة هي نقيض السماجة التي ترتسم على وجه الخنزير أو الكركدن، ولكن للوسط أثرًا في تربية الذوق، فالزنجي والياباني والأوروبي والمصري كلهم يتفقون إجمالًا على ماهية الوجه الجميل ولكنهم يختلفون تفصيلًا، ولكن يجب ألا نبالغ في هذا الاختلاف لأن الواقع أن الزنجي يستجمل المرأة الجميلة كما كان ينحتها المثال الإغريقي قديمًا أو كما يرسمها الرسام الإنجليزي الآن كما نستجملها نحن، وذلك لأن الوسط الذي أثر في ملامح المرأة الزنجية لم يؤثر بعد في بصيرة الزنوج، ونحن المصريين نعرف أننا نستجمل الوجه الأوروبي الجميل كما يستجمله الأوروبيون بلا أدنى فرق، مع أننا في هيئة الوجه نختلف بعض الاختلاف، وعندما نتأمل صور الوجوه التي يرسمها رجل الفن الياباني يريد بها أن يصور الجمال، نراها قريبة الشبه جدًّا من الشكل الأوروبي، مع أن الوجه الياباني في حقيقته يختلف جد الاختلاف من الوجه الأوروبي.
إن للتربية والعرف والوسط بعض الأثر الذي لا ينكر في تكوين الذوق الفني، فالفتاة التي نشأت لا ترى من الرجال سوى الرجل الحليق، لا يمكنها أن تستجمل الشاب الملتحي إلا بعد تربية جديدة، والزنجي الذي لم ير قط في حياته امرأة بيضاء يشك، لأول ما يرى امرأة بيضاء، في سلامة صحتها، والفلاح يتزين بالألوان الزاهية الزاعقة بينما الرجل المهذب يقنع بالألوان الخفيفة، ولكن كل هذه تفاصيل لا قيمة لها أمام البصيرة التي يشترك فيها جميع الناس ويتفقون فيها على معنى الجمال في الشخص أو الصورة أو التمثال أو البناء.
ولكن الأمم تتفاوت في النزعة التي تنزعها نحو الجمال، فقد كانت النزعة السائدة عند المصريين القدماء هي الدين، فكان المثَّال إذا نحت تمثالًا قصد منه إلى معنى الخلود والهدوء الديني، وكان الإغريق القدماء ينزعون إلى الجمال الذي عبدوه في أشخاص آلهتهم وأبطالهم وفي رياضتهم وألعابهم حتى صاروا لسائر الأمم أسوة وإيحاء، فليس هناك الآن أديب يخدم فنًّا من الفنون إلا ويستلهم الإغريق القدماء، بل الفلسفة الحديثة نفسها قد نحت هذا النحو، وهذا على خلاف الرومان الذين كانوا ينزعون نزعة عملية تتجه نحو الاستعمار وتشييد البناء، حتى عرفوا أشياء كثيرة عن الهندسة، فكانوا أشبه بالعلماء منهم بالأدباء، أما نزعتنا نحن الآن فهي النزعة الاقتصادية التي تجعلنا كلنا منهمكين في جمع المال والاستكثار من العقار.
وربما كان سؤالنا عن السعادة، ومن هو أسعد الناس، خير ما يدلنا على نزعة كل أمة من حيث الفن، فقد سأل الإغريق أنفسهم هذا السؤال، وأجابوا عن لسان أرسطوطاليس بأن الرجل السعيد يجب أن يكون جميلًا، وذلك لأنهم قد انغمسوا في الفنون ولابسوها في معيشتهم ورياضتهم حتى صاروا يعتقدون باستحالة السعادة إذا لم تقرن إلى الجمال، وكانوا مع تقديرهم للفنون يرون أن الإنسان الحي يجب أن يمثل الجمال في شخصه، ولو وضعت مثل هذا السؤال للمصري القديم لأجابك أن الرجل السعيد هو الذي ترضى عنه الآلهة، بينما الروماني يرى السعادة في كثرة العبيد ووفرة المساكن، أما نحن فلا نكاد نتخيل السعادة إلا مقرونة بالثروة.
والفنون الجميلة تتأثر بالنزعات الأدبية، فهنا الرسم أو النحت التقريري، مثلما هناك القصة التقريرية التي تصف الأشياء والحوادث كما تقع، وهناك الرسم الخيالي الذي يقصد إلى المثل الأعلى كما أن هناك القصة الخيالية، وكذلك هناك الرسم التأثيري الذي ينقل الأثر الذي ينطبع في الذهن من المنظر دون الإحاطة بتفاصيل هذا المنظر، وقد نجد في الشعر والقصة مثل هذه النزعة، وهناك النزعات الطبيعية التي تنقل عن الطبيعة أو تنسخها، ولكن كل هذه النزعات في الأدب والفنون تنتهي حتمًا إلى أن تكون خيالية، فالأديب والرسام لا يقنعان بتقرير الأشياء على حالها، وإنما هما يرسمان الواقع ولو كان قبيحًا لكي يتوسلا به إلى الخيال والمثل الأعلى، وإلا لو كان الواقع غاية، لقنع الرسام التقريري بأن يرسم لنا جسم الإنسان كما يُرسم في كتب التشريح.
وكلمة أخرى نقولها قبل ختام هذا الفصل عن الفنون الجميلة، فإنها لاعتمادها على البصيرة دون العقل أو لاعتمادها على الأولى أكثر من الثاني، أو لأن البصيرة هي التي ترسم الغايات والعقل هو الذي يهيئ الوسائل، تتسم الفنون هذه بشيء من مسحة الخلود، فالأدب والفنون الجميلة خالدان لاعتمادهما على البصيرة، وذلك لأن هذه البصيرة قديمة في الإنسان، بل ربما كانت في القرون البعيدة الماضية أقوى منها الآن، ومن هنا إعجابنا بفنون القدماء دون علومهم.
ويجب ألا ننسى هنا أن النزعة العقلية تكاد تناقض نزعة البصيرة، ومن هنا احتقار رجل العلم الذي يبني علومه على العقل للفنون الجميلة القائمة على البصيرة، وقد يصح أن نتساءل هنا: ما هو مصير الفنون في المستقبل إذا انبسطت العلوم وصارت السيطرة للعقل؟