هويسلر وتأثير الشرق الأقصى
في أواخر القرن الماضي اتصلت أوروبا بالشرق الأقصى اتصالًا وثيقًا في التجارة، وتبادلت مع الصين واليابان البضائع والسلع. وانتقلت إلى أوروبا بعض الرسوم اليابانية والصينية فأحدثت أثرًا واضحًا في مناهج الرسم. وقد عرضت في المعرض الأممي في لندن سنة ١٨٦٢ طائفة من الرسوم اليابانية كان لها وقع كبير في نفوس الرسامين، كما أنشئ حانوت في شارع ريفولي في باريس لبيع الرسوم. وكان يزور هذا الحانوت الرسامون الفرنسيون أمثال: ديجاس، ومونيه، ومانيه، وكذلك فتى ناشئ أميركي المولد يدعى «هويسلر».
وقد قضى «هويسلر» هذا معظم حياته الفنية في فرنسا وإنجلترا وكان له أثر كبر في فن الرسم عند كلتيهما. وقد اتجه منذ أن ابتدأ يرسم نحو «فلاسكس» الإسباني و«هوكوصاي» الياباني، فنبه الأوروبيين إلى الأول، وقد كان مغمورًا أو شبه المغمور، كما فتح أعينهم إلى مناهج الفن في الشرق الأقصى.
وقد ولد «هويسلر» في الولايات المتحدة سنة ١٨٣٤ وهاجر مع أبويه إلى روسيا حيث كان أبوه يشرف على بناء سكة حديدية بين موسكو وبتروغراد. وكانت إقامة الصبي في بتروغراد حيث تعلم الفرنسية.
ومات أبوه فعادت به أمه إلى الولايات المتحدة، وأدخلته مدرسة الضباط، ولكنه لم يفلح فيها. وكان ميله للرسم واضحًا فسعى حتى تعين في قسم المساحة في واشنطون. ولكن الرسم الذي كان يمارسه للمساحة لم يكن هو الذي يطمع فيه. فلما بلغت سنه الحادية والعشرين سافر إلى باريس، وهناك شرع يدرس الرسم درسًا منتظمًا والتفت بوجه خاص إلى «فلاسكس» و«هوكوصاي»، ولذلك نهج منهجًا خاصًّا هو مزيج من هذين الرسامين، وهذا بعد أن طبعه بطابعه الشخصي. ونحن نرى أثر الشرق الأقصى على أبلغه في رسمه «أميرة بلاد الصين» وهي صورة الآنسة سبارتالي ابنة قنصل اليونان في لندن، ففي هذه الصورة نرى كل شيء يابانيًّا ما عدا الوجه فإنه أوروبي.
وفي سنة ١٨٧٢ رسم أمه رسمًا جميلًا يلمع إلى الطريقة اليابانية إلماعًا خفيفًا بتزيينها الباهر. ورسم أيضًا صورة الكاتب المشهور «كارليل» وهي الصورة الشائعة الآن عن هذا الكاتب.
وقامت في حياته خصومة كبيرة بينه وبين نقده الرسم، وخصوصًا بينه وبين «رسكين». وأساس هذه الخصومة هو أنه ابتدع ولم يقنع بالجري على الطرق الممهدة المألوفة. وقد أوذي «هويسلر» من هذه الخصومة، حتى ترك الرسم مدة وصار يتكسب بالحفر على المعدن. ولما ألح عليه «رسكين» بالنقد والتشهير، وكان لكلامه قيمة عند الجمهور، ورأى «هويسلر» أن هذا الناقد يتحامل عليه ويؤذيه رافعه إلى القضاء يطلب تعويضًا. وكان قد رسم صورة «الليل بين الأزرق والذهبي» فقال عنها رسكين: إنها لوحة قد أراق عليها الرسام قدرًا من الأصباغ.
وكان «هويسلر» قد طلب ثمنًا لهذه الصورة مائتي جنيه. فلما كان وقت المحاكمة اتضح من سؤاله أنه رسم هذه الصورة في يومين، فسأله محامي رسكين: «وهل تطلب مائتي جنيه في عمل يومين اثنين؟» فقال «هويسلر»: «لا. لكني أطلب هذا المبلغ للمعرفة التي جنيتها طول حياتي».
وكان بالمحكمة محلفون على النظام الأوروبي، وبينهم جهلة، حتى إنه عندما قدم رسمًا للرسام الإيطالي العظيم «تسيانو» يستشهد به على حسن طريقته ظنه أحد المحلفين أنه من رسوم «هويسلر» نفسه فنحى الرسم عنه وهو يقول: «حسبنا منك ومن رسومك».
وحكم «لهويسلر» بتعويض قدره أربعة مليمات فقط. وكان هذا سببًا لأن يهجر الرسم مدة طويلة. ولكن بينما كان الإنجليز يستهجنون طريقته كان الفرنسيون يقدرونه ويمنحونه أوسمة الشرف، بل يشترون رسومه للمتاحف الفرنسية. وأخيرًا عرف الإنجليز قدره. وذلك الرسم الذي استكثر عليه «رسكين» مائتي جنيه بيع بعد ذلك بمبلغ ألفي جنيه. ومات «هويسلر» سنة ١٩٠٢ في لندن.