عصر الانحطاط
يعتري الانحطاط الفنون الجميلة من جملة نواحٍ، أولها المنع من الناحية الدينية، فقد كانت الفنون الجميلة تجد عند المصريين والإغريق من القدماء أسعد الفرص لأن تتجلى وتتمثل ذلك لأن للوثنية معابد فخمة وأصنامًا تزينها ورسومًا تنقش على جدرانها.
ولكن لما فشا التوحيد عن اليهودية أولًا ثم المسيحية ثم الإسلام، أخذ الموحدون يحاربون الوثنية ويهدمون الأصنام ويحرمون على الناس اقتناءها أو رسم الأشخاص، والهيئات الاجتماعية القديمة كانت هيئات ارستقراطية، تنحصر الثروة في الطبقة العالية وسائر الأمة تعيش في فقر، فلم يكن للفنون قدرة على أن تعيش ما لم تجد هذا العون من المعابد؛ لأن أفراد الأمة كانوا من الفاقة بحيث لا يستطيعون شراء التماثيل والصور، فلما ماتت الوثنية ماتت فنون الرسم والنحت والبناء، وذلك لأن البناء أيضًا كان يقوم على المعابد، وهو شديد الالتصاق بفني النقش (الرسم والنحت)، وبتحريم هذين الفنين اعتراه هو الآخر بعض الانحطاط، والطبقة العالية في كل أمة هي أولى الطبقات التي تسيطر على الدين أو الدين يسيطر عليها، فيجب أن تتخذ مظاهره، ولذلك نجد أنها بعد أن كانت تحمي الفنون الجميلة في عهود الوثنية صارت تقاومها في عهود التوحيد المختلفة.
ولكن الأديان لم تؤثر في الفنون من هذه الناحية فقط، بل لها تأثير آخر، فمن المتفق عليه أن الفنون الجميلة تعد من الترف، ولكن الأديان ترمي جميعها باختلاف في الدرجة إلى التقشف والزهد وإساءة الظن بالترف، ومن هنا كان بعض سخطها على الفنون الجميلة.
وعصر الانحطاط في الفنون الجميلة يبتدئ في أوروبا من أول انتشار المسيحية إلى زمن النهضة، ومصر تابعة لأوروبا في هذا الانحطاط أيضًا، فقد حطم المسيحيون الأصنام وهدموا المعابد في إيطاليا واليونان ومصر وسورية، ونشأ على هذه الحطامة فن بيزنطي منحط نرى للآن صوره في كنائس مصر والأستانة، ويتسم هذا الفن بأن العرف يأخذ من الرسام الاعتبار الأول، وأكثر الرسوم تُعنى بالقديسين والعذراء والسيد المسيح.
وقد بنى المسيحيون الأول فنونهم على الآثار الوثنية القديمة على الرغم من كراهتهم لها واجتهادهم في تحطيمها ومحوها، فصورة العذراء وابنها ترجع إلى الصور المصرية القديمة التي كانت تمثل الربة العذراء إيسيس وابنها أوزوريس، وصورة القديس جرجس الذي يُرى للآن نقشه على الجنيه الإنجليزي تمثل أسطورة ترجع إلى عهد انتشار الثقافة القديمة.
والرسوم البيزنطية تجري كما قلنا على العرف، فالرسامون يعنون بالهالة المنيرة حول الرأس أكثر مما يعنون بملامح الوجه وأعضاء الجسم، وللتذهيب مقام عندهم أكثر من مقام الألوان الطبيعية التي تعكس لون البشرة الإنسانية، أما الفنون عند الأمم الإسلامية في القرون الوسطى، ونعني هنا الزمن الواقع بين ظهور الإسلام والنهضة العربية الحديثة، فقد اقتصرت على فني البناء والزخارف، وذلك لأن النحت والرسم قد حرما تحريمًا باتًّا إلا عند الشيعة من الفرس، فإن رسم الوجوه عندهم لم يحرم، ولذلك فإن الزخارف الإسلامية اتخذت أشكالًا هندسية ليس فيها صورة إنسان أو حيوان.