أصل الرسم الحديث: مدرسة فلورنسا
بقي الرسم مدة العصور المظلمة يجري على عرف الكنيسة وتتغلب عليه طريقة بيزنطية، هذه الطريقة التي ما زلنا نراها في الكنائس القبطية في مصر حيث تتشابه الوجوه وتجمد الأجسام ويحيط بها كلها هالة القداسة، وترسم الصورة الصورة على فرش مذهب فلا يمكنك أن تميز من النظر إلى الوجوه اختلافًا في العاطفة أو الأخلاق.
وقد كان الدين أساس الحياة في القرون الوسطى ولذلك فإنه جمع من ناحية بين فلسفة الإغريق واللاهوت، كما جمع أيضًا بين النظر الديني والفنون، وكما استعمل كتاب الكنيسة فلاسفة أفلاطون وأرسطوطاليس للدفاع عن الدين، كذلك استعملوا الرسم لخدمة الدين، فكانت موضوعات الرسام لا تخرج عن رسم الملائكة والعذراء والمسيح والقديسين، وكان العرف هو القاعدة التي يجب على الرسام ألا يتخطاها، وكان الرسام إذا أراد أن يرسم المسيح صوره في هيئة طفل ساذج جميل الوجه باسم المحيا، أو ربما صوره شيخًا في هيئة قاضٍ كبير، أما العذراء فكان هم الرسام أن يبعد عنها ما استطاع تلك اللوثة الإنسانية لكي يجعلها أشبه بالملائكة منها بالناس، ولذلك فإنك لا تحس منها بعاطفة الأمومة، وفي كلتا الحالتين يحاط المسيح والعذراء بهالة القداسة التي تخرجهما من صف الآدميين.
ولكن في القرن الثالث عشر نرى بذرة النهضة الأوروبية في آراء «روجر بيكون» الذي يدعو إلى ترك التقاليد ووضع العقل فوق النقل، وأيضًا في طريقة الرسم الجديدة في إيطاليا حيث شرع الناس يفهمون من المسيحية أنها ديانة الحب، وأكسب هذا الاعتقاد الجديد صورة إنسانية للعذراء تمثل الحب بالأمومة.
ولعل أول من مسح هذه المسحة على الدين هو القديس فرانسيس، فإنه جمع بين حب الطبيعة والإيمان بالدين، فكان يخاطب الطبيعة ويتآخى مع الطير والسمك ويطرب في لذة الاجتماع بالخليقة والاشتراك معها في طرب الصوفية، فنقل الدين بذلك من جمود القاعدة وضيق العرف الكنسي إلى رحابة الطبيعة وما فيها من ألوان مختلفة.
وأول من نقح في الطريقة البيزنطية هو «جوني تشني» وهو رجل فلورنسي ولد سنة ١٢٤٠ ومات سنة ١٣٠٢، وهو ما يزال في رسومه يتبع على وجه الإجمال قواعد بيزنطية ولكنه يمسح على رسومه مسحة إنسانية جديدة فيها معاني العطف والحب، وقد كلف بأن يزين الكنيسة التي دفن فيها القديس فرانسيس برسومه، فكان هذا القديس بصوفيته إلهامًا له يبعثه على اتخاذ البدعة بدلًا من التقليد في الفنون، ومما يذكر أيضًا أن تلميذه «جوتو» كان من عظماء رجال النهضة.
ويمكن مؤرخ النهضة الفنية أن يبدأ بجوتو فهو الفاصل الحقيقي بين النهضة وبين تقاليد بيزنطية، وكان جوتو في صباه راعيًا يرعى الغنم، وحدث ذات مرة أن رآه تشني وهو قاعد يرسم فأعجبه رسمه وطلب من أبيه أن يأذن للصبي بمرافقته لكي يتتلمذ له فأذن الأب.
ولما كلف تشني بتزيين كنيسة القديس فرانسيس خص جوتو ببعض الرسوم التي تمثل حياة القديس، وهنا ظهرت عبقرية التلميذ حتى تفوق على معلمه؛ إذ إنه أبدى كما يقول رسكين: «خروجًا على التقاليد والعرف والمثل الأعلى» وعمد إلى الطبيعة ينقل عنها.
وقصد إلى روما وهناك كُلف أيضًا بتزيين بعض الكنائس، فرسم صورة «البكاء على القديس فرانسيس» وأيضًا صورة «عيد ميلاد هيرودس»، ونعرف بعد ذلك أنه ذهب حوالي سنة ١٣٠٦ إلى «بدوا» لأن المعروف أن دانتي الشاعر كان هناك في ذلك الوقت، وكان يوعز إلى الرسام برسم واختيار بعض الموضوعات، وهذا يدلنا على مكانة جوتو الذي كان يعرفه بترارك أيضًا ويصادقه.
ومن المفيد أن نقابل بين رسم تشني «العذراء وابنها» ورسم جوتو «البكاء على القديس فرانسيس» لكي نعرف الفرق بين العهدين أو بين المعلم والتلميذ، فما زالت على صورة تشني المسحة البيزنطية: هالات من نور حول الرءوس وفرش مذهب للصورة، ولكن التنقيح في القواعد البيزنطية واضح من المسحة الإنسانية التي على الوجوه، أما صورة القديس فرانسيس والرجال الذين حوله يبكونه فليس فيها شيء من قواعد بيزنطة، وإنما كل ما يعاب عليها النقص في الصنعة أي في الأبعاد ودقة التصوير ونحو ذلك، وليس هذا غريبًا إن اعتبرنا أن جوتو قد شرع في محاولة جريئة ففيه النقائص التي تلازم كل مبتدئ، فهو أول من ترك موضوع القداسة الجامدة إلى نشاط الطبيعة فصار يرسم الحقول والأشجار والحيوان والإنسان.
وقد كان جوتو مع عبقريته في الرسم معماريًّا عظيمًا بنى البرج المعروف الآن باسمه في فلورنسا، ولما عاد إلى هذه المدينة التي هي مدينته الأصلية لقي الترحيب والإكرام من أهلها سنة ١٣٣٤ وتعين هناك مديرًا للأعمال في الكاتدرائية الكبرى، وبقي هناك يعمل في الرسم والعمارة إلى أن مات سنة ١٣٣٧.
ومن الفلورنسيين الذين انتفعوا بالطريقة الجديدة التي وضعها جوتو نجد «أوركنيا» صاحب صورة «تتويج العذراء» وهو مع لزومه السذاجة الطبيعية لم يبلغ مبلغ جوتو في تصوير نشاط الطبيعة.
وهذه النزعة نحو الطبيعة التي أوجدها جوتو في المدرسة الفلورنسية تفرعت فرعين: أحدهما نفسي، والآخر جسمي، فرجال الفرع الأول اتجهوا نحو اتقان التصوير للعاطفة القوية العميقة مع الحركة والعمل، بينما رجال الفرع الثاني اتجهوا نحو تقرير الواقع مع التدقيق في رسم الأعضاء بحيث ينطبق الرسم على الحقيقة، واستطاع هؤلاء أن يتغلبوا على صعوبات الصنعة كتحقيق الأبعاد الخطية والهوائية ودرس التشريح للأجسام العارية في الكون والحركة وسائر التفاصيل الخاصة بالأحياء والجمادات لونًا وشكلًا، وبذلك أمكن الخروج من العرف والقواعد البيزنطية.
ويلي أوركنيا في النهضة الفلورنسية رجل راهب له شهرة لا تقل عن شهرة جوتو، وإن كانت عبقريته الفنية دونه وهذا الراهب هو «الأخ انجليكو» الذي ولد سنة ١٣٨٧ ومات سنة ١٤٥٥، وكان من رجال الفرع النفسي في التصوير، ولكنه كان مع ذلك يجيد رسم الجبال والأزهار والأشجار، حتى ليظن الإنسان أن هذا هو موضوعه الأصلي الذي خص فنه فيه، ولكن الحقيقة أن انجليكو لم يرسم هذه الأشياء إلا لأنها وسطه الذي عاش فيه معظم حياته إذ قضى في قرية كارتونا وقرية فيوسول خمسين سنة، فلم يختلط بالمدن الكبرى مثل فلورنسا أو روما إلا بعد ذلك، ولكن هواه وبراعته يتجهان نحو تصوير الحالات النفسية، فقد كتب عنه فارساي يقول: «إن ملائكته التي يرسمها تبدو كأنها كائنات من الفردوس»، وذلك للخيال الذهني الذي قاده إلى تصويرها، وهذا الخيال كان يخالف الطبيعة.
وقال عنه موتهور: «إن رسومه التي يصور فيها الاستشهاد توهمك بأنه يرسم صبيانًا أو شبانًا قد اتخذوا هيئة الشهداء والجلادين، أما رجاله الملتحون فيبكون بكاء النساء، ولذلك فهو لا يقنعك بأنه يصور لك الحقيقة، ولكنه عندما يلزم موضوعه الخاص به، وعندما ينقل إليك رقة الشعور أو الفرح العظيم الصامت للقلب أو الحزن الرقيق أو الطرب الديني، فإن لصوره تأثير الصلاة الصامتة للطفل».
وصورته «البشارة» التي تمثل الملك وهو يبشر العذراء بالمولود تدل على صدق ما قاله موتهور، فهم الرسام هنا أن ينقل إليك صورة التقوى والدين أكثر مما يريد أن يدقق في رسم الأشخاص.
ومن رجال ذلك العصر أيضًا «الأخ لبي» ولا بد أن القارئ يقف هنا متأملًا هؤلاء الرهبان الذين انسلخوا من الرهبانية إلى الفنون، ولكنه إذا عرف أننا نتكلم عن عصر النهضة التي ليست شيئًا آخر سوى الخروج من التقاليد الدينية إلى الدرس البكر في مسائل الحياة والطبيعة، وإذا عرف أن الثقافة والفنون كانت مدة القرون الوسطى خاضعة للرهبان مصبوغة بالدين حين كانت الأديار مثوى الآداب، لم يتعجب بعد ذلك من أن تكون بداية النهضة في الفنون على أيدي بعض الرهبان، ولكن هؤلاء الرهبان كانوا خارجين على تقاليد الكنيسة وإن لم يشعروا بذلك، لأن روح الزمن كانت قد انضجت العقول، وهيأتها للثورة والخروج.
و«لبي» هذا يمتاز عن «انجليكو» بأن العذارى عنده أشبه ببنات فلورنسا منهن ببنات السماء، فهو يفهم الجمال النسائي كما هو في طبيعته، ويجيد رسم الأزهار كما تدل على ذلك صورته «البشارة».
ويمثل «لبي» الروح العلمية في الرسم، فقد درس الأبعاد درسًا دقيقًا ورسم معركة حربية لأول مرة في تاريخ النهضة، ولم يحاول أحد بعده رسم معركة حربية إلا بعد مضي قرن كامل على وفاته، ورسم هذه المعركة يدل على ميل رجال الفن في ذلك الوقت إلى الانفصال من الدين، وقد وُلد «لبي» سنة ١٤٠٦ ومات سنة ١٤٦٩.
وفي سنة ١٤٤٧ ولد «بوتيتشلي» الذي مات سنة ١٥٣٥ وفي عصره تم الانفصال بين الدين والفن، فقد كانت الكنيسة راعية الفنون مدة القرون الوسطى وفي بداية النهضة، فكان الرسامون والمعماريون يعملون لها، ولكن القرن الخامس عشر كان يتسم بالتجديد، وظهر فيه رعاة آخرون للفنون غير الكنيسة.
وكان هؤلاء الرعاة لا يبالون بالدين، ولا يكلفون الرسامين لزوم القصص التورائية أو الإنجيلية، ولذلك فإننا نجد بوتيتشلي يرسم صورًا تمثل القصص الإغريقية القديمة مثل صورته «الربيع» حيث ترى في الوسط «الزهرة» ربة الحب تنتظر قدوم الربيع يحوم فوقها «قوبيد» الربيب الصغير الذي يقنص القلوب ويوقعها في شباك الغرام، وعلى يمينها الفتيات الثلاث وعطارد رسول الآلهة، وعلى يسارها يتقدم الربيع تدفعه إلى الأمام بلطف «فلورا» ربة الزهر ويحذوه «زفير» الذي يمثل النسيم، وأينما تطأ قدماها تظهر الأزهار، وهذه صورة تدل على الجراءة التي اتسم بها ذلك الزمن، لأنها لو ظهرت في القرون الوسطى لعوقب صاحبها واتلفت لإحتوائها على آلهة وقصص وثنية.
وقد تعلم «بوتيتشلي» على يدي «لبي» وكان متأثرًا به يتبع طريقته إلى أن ترك «لبي» مدينة فلورنسا في مهمة، فلما انفرد «بوتيتشلي» ترك لعبقريته العنان في التأليف فصار يرسم الناس كما يراهم، ولا يمسح عليهم مسحة التواضع الديني.
ولما ذاعت شهرته في فلورنسا استدعاه البابا إلى رومية حيث رسم فصولًا من تاريخ موسى، وبعد سنتين عاد إلى فلورنسا، وهناك وجد «سافونا رولا»، وهو رجل كان متحمسًا للدين وعمد إلى الكتب فأحرقها، وتأثر بأقواله بعض الرسامين حتى أتلفوا ما رسموه من الأوثان والآلهة، وهذا يدل على أن الصراع بين الدين والنهضة كان ما يزال قائمًا، ولكن الجمهور الذي كان «سافونا رولا» يحمسه إلى الدين عاد فانقلب عليه وأحرقه هو نفسه.
ورأى «بوتيتشلي» هذه الحوادث في مدينته فحزن، وخصوصًا عندما رأى أن الأسرة التي كانت ترعاه قد انهزمت ونفيت من المدينة، وهي أسرة مديتشي، بل حين رأى أخاه يتلف رسومه السابقة بيده للإشارات الوثنية التي فيها.
وممن يذكرون أيضًا في عصر هذه النهضة تشيمابو الذي ولد سنة ١٢٤٠ ومات سنة ١٣٠٢ وأحسن رسومه صورة العذراء وابنها.