الرسم بالزيت: المدرسة الفلمنكية
لا نعرف كيف نشأ الفن في إقليم الفلمنك، وكيف كان في طفولته وحداثته، فإننا نجده لأول ما نجده راقيًا مبتدعًا يجري على أسلوب تقريري يراعي الدقة في تصوير الحقائق دون تزيين أو زخرفة.
وقد كان الرسم الشائع في أوروبا الغربية إلى نهاية القرن الثالث عشر، مثل العمارة الشائعة أيضًا في ذلك الوقت وبعده، قوطيًّا، ما زلنا نراه في أوراق اللعب حيث ترى صور الملوك والملكات، وهذا الرسم القوطي لا علاقة له بتاتًا برسم الإيطاليين من مدرسة فلورنسا، ولذلك فإن فضل المدرسة الفلمنكية وانتقالها من هذا الرسم القوطي إلى الرسوم المتقنة التي أدتها عظيم جدًّا.
ويجب عند المقابلة بين المدرسة الفلمنكية والمدرسة الفلورنسية أن نميز بين الأساس الذي قامت عليه كل منهما، فأساس الأولى هو الفن القوطي، وأساس الثانية هو فن الكنيسة أي الفن البيزنطي، ولذلك فإن الفلورنسيين لزموا إلى حد ما الموضوعات الدينية، وكان معظم رسومهم على جدران الكنائس، أما الفلمنكيون فإنهم خرجوا بالفن من حظيرة التقاليد الدينية إلى رسم أشخاص الأغنياء وتصور الأثاث، وهناك سبب آخر ساعد على بلوغ هذه النتيجة، وهو أن الكنائس في إيطاليا لا يخيم الظلام على جدرانها لأن الجو في أغلب أوقاته في صحو ونور، ولذلك فإن الرسم على الجدران يمكن رؤيته وتقديره، ولكن الغيوم تتغلب في المناخ الشمالي، فلا يكون للرسوم التي ترسم على الجدران الداخلية في هولندا أو ألمانيا تلك القيمة أو ذلك الجمال الذي نجده لها في إيطاليا أو إسبانيا، ولهذا السبب اتجهت جهود الفنيين في الشمال إلى تزيين زجاج النوافذ بدلًا من تزيين الجدران، لأن الزجاج يسطع عليه الضوء مهما ضعف فيبدي ما فيه من رسوم.
وقد اشتهر في المدرسة الفلمنكية رجلان شقيقان، هما: هوبرت فان ايك، وجان فان ايك، وفضلهما لا يقتصر على استحداث الرسوم التي لا علاقة لها بالموضوعات الدينية، بل يتناول أيضًا طريقة الرسم بالزيت التي اخترعها أحدهما وزاولها كلاهما، فإن الرسم كان قبل ذلك يعتمد على الماء والأصباغ، وكان الرسم يستعين أحيانًا وهو يجبل أصباغه بمح البيض، ولكن هذين الشقيقين استعملا الزيت الحار وزيت الجوز في جبل الأصباغ، وشاعت عنهما هذه الطريقة، وتقدم فن الرسم بهذه البدعة خطوات إلى الأمام.
ولا يُعرف إلا القليل عن تاريخ هذين الشقيقين، وهذا بخلاف الرسامين في إيطاليا، ولكن فسارى كتب تاريخهم مع تفاصيل حياة كل منهم، وكان هو نفسه رسامًا في القرن السادس عشر.
والمعروف أن «هوبرت» ولد سنة ١٣٦٥ في قرية قريبة من كولونيا، والظاهر أنه تعلم في هذه المدينة، فلما بلغ سن الشباب تركها إلى مدن الفلمنك حيث كانت «غنت» و«بروج» قد أحرزتا شأنًا في الرخاء والتجارة، وفي غنت أدى هو وأخوه ذلك الرسم العظيم الذي يسمى «عبادة الحمل»، وهو من الرسوم الكبيرة، ولا تقل مساحته عن ألف قدم، أما شقيقه «جان» فأصغر منه بعشرين سنة، إذ ولد سنة ١٣٨٥، وهو أدق في الصنعة وأعمق بصيرة في الفن وأبعد شهرة، وقد اشتغل بالسياسة ورحل إلى إسبانيا وبرتغال في خدمة فيليب، وهو أول من اتبع الأسلوب التقريري، وابتدع تصوير الأشخاص، وكان إذا رسم شخصًا لم يترك في وجهه أو جسمه أي علامة أو قبح حتى ينقله، كما ترى رسمه «الرجل الحامل للقرنفل»، وهذه روح غريبة لا تدل على الرغبة في تصوير الحقيقة وكراهة المبالغة والتزيين فقط، بل تدل أيضًا على أن الهيئة الاجتماعية التي عاشت في ذلك العصر كانت سليمة من الزهو والغرور قانعة بالواقع، والفن ظاهرة من ظواهر الاجتماع، فإذا كان هذا الاجتماع مختلًا لم يسلم الفن من الخلل، وتجد في هذه الصورة دقة عجيبة في نقل الصغائر والتفاصيل حتى عروق اليد وأسارير الوجه واضحة، ومن ينظر إلى الصورة وقد افتر الثغر يكاد ينتظر منها أن تخاطبه.
ولجان فان ايك صورة أخرى عن زوجين من الطبقة المثرية تمثلان عنايته بنقل الأثاث وتفاصيل الملابس مما يجعل لها قيمة تاريخية زيادة عما لها من القيمة الفنية، وهذان الزوجان هما: «جان أرنولفيني وزوجته»، بل بلغت عنايته حدًّا عجيبًا في نقل ظل الزوجة في المرآة المستديرة التي بالوسط.
ويلي هذين الشقيقين في الشهرة «هانز مملنك» الذي ولد حوالي سنة ١٤٣٠ ومات سنة ١٤٩٤، ولا نعرف تفاصيل حياته على وجه التحقيق، وإنما الأرجح أنه تعلم في كولونيا ثم قضى سائر حياته في بروج حيث كان يملك دارًا وعقارات أتاحت له العيش في رخاء، وقد زين مستشفى سان جون في بروج بطائفة من رسومه.
وفي تزيين المستشفى في بروج في إقليم الفلمنك ما يجعلنا نلمح شيئًا من هذه الروح الشمالية التي تختلف عن روح الجنوب في إيطاليا مثلًا حيث نجد آثار الرسامين في الكنائس.
ولم يكن مملنك خلوًّا من الروح الدينية فإن أحسن آثاره في الفن ما رسمه من الصور عن حياة القديسة «اورسولا»، ولكن العناية بالمستشفيات وتزيينها في القرن الخامس عشر يعد بدعة تدل على روح الزمن وترينا أن الشماليين أدركوا في ذلك الوقت أن البر لا يقتصر على الأعمال الدينية بل يتجاوزها إلى الأعمال المدنية.
وأحسن ما تركه «مملنك» هو صورة الدوق كليف، فهي تمثل جمال الشباب قد امتزج إلى راحة الإيمان، وهذه الصورة من النفائس التي يزدان بها الآن المتحف الوطني في لندن.
وحوالي هذا الزمن نجد أن الرسم قد انطلق تمامًا من التقاليد الدينية؛ لأن الحياة المدنية كان شأنها قد ارتفع، فظهرت طبقة من التجار والصيارفة وأصحاب المصانع لها من الجاه والثروة ما يجلب إليها ذلك الاحترام الذي كان مقصورًا على رجال الدين أو على الأمراء والملوك، فنرى مثلًا رسامًا مثل «كانتان ماسيس» الذي ولد سنة ١٤٦٦ ومات سنة ١٥٣٠ يعيش في انفرز، وينقل لنا صورة صيرفي مع زوجته، وقد اشتغل هو بعد النقود والتفتت هي إليه بعد أن كانت تقرأ في كتاب ديني مذهب، وقد بالغ الرسام في الدقة حتى رسم على المرآة المستديرة صورة نافذة مفتوحة.
وبوفاة ماسيس يختم العصر الأول للمدرسة الفلمنكية، وهو عصر الاستقلال والابتعاد عن إيطاليا وتقاليدها البيزنطية الضعيفة، أما الرسامون الفلمنكيون بعده فقد تأثروا بإيطاليا مثل «مابوز» الذي ولد سنة ١٤٧٢ ومات سنة ١٥٣٥، فإنه أدخل الطريقة الإيطالية بعد أن زار إيطاليا وعرف هناك دافنشي، وأحسن ما خلقه من الرسوم صورة «مرجريت تودور» التي تُرى للآن في ادنبرج في إسكوتلاندة.