نحو البندقية
إذا ذكرت الفنون في إيطاليا كان لفلورنسا والبندقية أكبر المقام، بل لهما أكبر المقام في أوروبا لأنهما أساس النهضة الفنية، وهما تذكران لظهورهما، ولأن نصيبهما من نهضة الفنون كان عظيمًا، ولكن إلى جانبهما ظهرت جملة مدن أخرى في شمال إيطاليا عُني أعيانها وأغنياؤها بالفنون مثل: بدوا، وبولونيا، وبارما، وفرارا.
وقد كان للنهضة الإيطالية أسباب اقتصادية، فإن الفنون لا تنشأ وتزدهي بين الفقر والفاقة، فالفن الجميل نبات يحتاج لنموه إلى روح الرفاهية ووسط الرخاء إن لم نقل إنه يحتاج إلى عادات الترف، وذلك لأن الصورة الجميلة أو التمثال الرائع لا يقتنيه إلا رجل قد استراح من هموم المعاش الضروري، ووجد في وقته وماله تلك السعة التي تتيح له التأنق وإحاطة نفسه بضروب الترف الكمالية.
وقد كان الجزء الشمالي من إيطاليا بين القرن الثالث عشر والسادس عشر في نهضة اقتصادية أساسها التجارة بين أوروبا والشرق، فظهرت البندقية وفلورنسا وجنوا، وظهرت فيها طبقة غنية تعزى إليها في ذلك الوقت رعاية الفنون.
وقد كانت فلورنسا الأولى في رعاية هذه النهضة، ولكن لم يمض وقت طويل حتى انتشر رجال الفن في المدن الأخرى التي حولها أو القريبة منها عندما كثر الرسامون وضاقت بهم فلورنسا، وأعظم المدن التي تناولت النهضة من فلورنسا وسارت بها شوطًا بعيدًا هي البندقية، تلك الجمهورية الغنية التي ما تزال آثارها الفنية ماثلة يتمتع بها كل زائر، بل يمكن أن نقول: إن منازل أغنيائها هي الآن تحف عجيبة من المرمر الذي ينهض من بين الماء كأنه الجواهر، ولكن قبل أن نذكر عظماء البندقية يجب أن نجول جولة قصيرة في المدن الصغيرة التي انتشرت فيها الفنون الجميلة قبل أن تبلغ البندقية وتزدهي فيها.
ففي «بدوا» حيث كانت هناك جامعة قد شرعت في درس الإغريق والرومان وجد أحد الخياطين المدعو «سكوراتشوني» أن الأهالي والطلبة يعنون بالآثار ويسخون في دفع أثمانها أكثر مما يعنون بالأزياء، فعمد إلى الإتجار بالآثار وملأ حانوته بالتماثيل، وكان الطلبة يزورونه لكي يصوروا هذه التماثيل، وفي سنة ١٤٤١ ادعى هو نفسه الرسم ودخل عضوًا في «نقابة الرسامين» في بدواه والأرجح أنه هو نفسه لم يرسم وإنما كان يغذو شهرته بأعمال تلاميذه، ومن هؤلاء التلاميذ صبي صغير يدعى «مانتنيا» تبناه صبيًّا، وما فتئ الصبي يلاحظ التماثيل ويقلد الطلبة الذين يترددون على الحانوت للنقل حتى حذق الصنعة وأخذ ينقل هو نفسه هذه التماثيل ويدرس قصص الإغريق وكان بليني (الأب) الرسام المعروف قد عرف هذا الخياط وصادقه ورأى من عبقرية هذا الصبي ما أعجبه، ونشأت بينهما صداقة أثمرت زواجًا بين مانتنيا وابنة بليني.
واستقل عندئذ مانتنيا وترك الخياط الذي تبناه وصار يعمل لنفسه، واستدعاه البابا أنوسنت الثامن لكي يزين جدران البلفدير بصوره وأحرز ثروة كبيرة فاشترى عقارًا في مدينة «مانتوا» ومات بها سنة ١٥٠٦.
وكان مانتنيا وثني المزاج للنشأة الأولى التي نشأها في دكان الخياط بين التماثيل الإغريقية، ولذلك فإنه يتناول الموضوعات القديمة مثل «انتصار يوليوس قيصر»، وأحسن رسومه صورة «برناسوس» التي رسم فيها رباوة برناسوس في اليونان التي هي وطن ربات الفنون التسع وهن يمثلن الفنون الجميلة، وعلى الرباوة فينوس أي الزهرة مع أبولو وبجانبه قوبيد الصغير ينفخ في البوق وترقص الربات حولهم، وقريب منهم وقف عطارد رسول الآلهة ومعه جواده المجنح ينتظر وحي الآلهة للشعراء ورجال الفن على الأرض.
ولكن يعاب على مانتنيا أن أشخاصه جامدة، فهو يرسم الشخص وكأنه ينقله عن تمثال من المرمر وليس عن شخص حي.
ومن أعظم الرسامين الذين يصلون بين عهد فلورنسا وعهد البندقية أو يبدءون عهد البندقية ثلاثة هم: كوريجيو، وبليني، وجورجوني. أما كوريجيو فلا يعرف إلا القليل عن حياته. فقد ولد سنة ١٤٩٤ ومات سنة ١٥٣٤ وقضى معظم عمره في مدينة بارما، وكان وثني المزاج إلى حد ما، يحب تصوير الأساطير الإغريقية، وصورته «تربية قوبيد» من أجمل ما خطته ريشة رسام في الخيال والصنعة، وقد ذكر عنه فسارى أنه «كان مغرمًا بالإدخار مثل جميع الناس الذين يحملون عبء الأسرة حتى صار مقترًا مبالغًا في التقتير»، ويعزو سبب موته إلى أنه حمل عبئًا كبيرًا من النقود النحاسية فأثقله حملها وهو سائر في الشمس، حتى عطش فشرب وهو ضائق بالحر والجهد فأصابته حمى مات بها وهو في الأربعين.
أما بليني فاسم يطلق على ثلاثة من الرسامين، أولهم: يعقوب بليني (الأب) الذي زار الخياط في بدوا وزوج ابنته لمانتنيا، ثم أبناه جنتيله بليني الذي ولد سنة ١٤٢٩ وجوني بليني، ولم يكن الفرق بينهما في السن سوى سنة أو سنتين، وكان الجميع قد انتقلوا إلى البندقية التي أخذ أغنياؤها — وهم في ذلك الوقت أغنى أغنياء العالم — يستخدمون الرسامين في تصويرهم وينقدونهم أعلى الأجور.
والبندقية تقوم في البحر، شوارعها خلجان وقنوات، وهي لذلك رطبة الهواء، وقد وجد الشقيقان أن طريقة الرسم الفلمنكية أي مزج الأصباغ بالزيت توافق هذه المدينة أكثر من الطريقة السابقة، فاصطنعاها في رسومهما في كنائس البندقية ومجلس الدوق، قال فسارى يصفهما: «كان الشقيقان يعيشان منفصلين، ولكن كان كل منهما يحترم الآخر كما كانا كلاهما يحترمان والدهما، حتى إن كلًّا منهما كان يعد نفسه ويصرح بأنه دون الاثنين الآخرين».
ولكن الصغير جوني كان أبرع في الرسم من أخيه وأبيه، وقد حدث أن سفير البندقية في الأستانة كان قد اقتنى بعض الصور التي رسمها جوني على القماش، فرآها السلطان محمد الثاني وأعجب بها إعجابًا عظيمًا، وطلب من هذا السفير أن يستدعيه لكي يرسمه، فأرسل السفير إلى دوق البندقية يطلب من المجلس الإذن بسفر جوني إلى الأستانة، ولكن المجلس ضن بجوني وأرسل أخاه جنتيله، وهناك في الأستانة رسم جنتيله بليني صورة محمد الثاني، وعاد إلى البندقية مزودًا بخطاب من محمد الفاتح للدوق والمجلس يمتدح فيه براعة الرسام ويوصي به، ومات جنتيله سنة ١٥٠٧ أما أخوه جوني فقد عاش بعده عشر سنوات ودفن في البندقية.
وللأخوين عدة صورة يعرف منها للآن صورة «الدوق لورندانو» رئيس جمهوية البندقية، وهي لجوني بليني، وصور أخرى تزدان بها كنائس البندقية ومجلس الدوق.
وقد علم جوني بليني طائفة بارزة في الشهرة منهم جورجوني وتسيانو المعروف عند الإنجليز باسم تيتيان، وقد ولد جورجوني سنة ١٤٧٠ ونشأ في الريف، وكان والداه يشتغلان بالفلاحة، وكان يجمع بين الموسيقى والرسم، يجيد النفخ في الناي كما يجيد الغناء، وكثيرًا ما كان يزين رسومه بالآلات الموسيقية، وكان يقول بأن الرسم يؤدي من المعاني أكثر من النحت، ولكي يثبت صحة قوله: «رسم جسمًا عاريًا قد التفت تحت أقدامه فسقية من الماء الصافي يعكس ماؤها صورة الجسم من الأمام، وعلى أحد الجانبين من الفسقية رسم درعًا، الدرع صورة أحد جانبي الجسم لأن المعدن يعكس صورة الأشياء، وفي الجانب الآخر من الفسقية مرآة تعكس صورة الجانب الثاني من الجسم».
وله من الصور الآن غير آثاره في البندقية «صورة شاب» و«صورة العذراء على العرش»، ومات جورجوني سنة ١٥١٠ لأنه كان يحب فتاة مرضت بالطاعون فلزمها ولم يتركها فانتقلت إليه العدوى ومات وهو في الرابعة والثلاثين.