مجد البندقية
كانت البندقية في وقت من الأوقات أغنى دولة في العالم تكاد تحتكر التجارة بين أوروبا وآسيا وإفريقية، وكان لها أكبر أسطول.
ولكن ذهبت قوتها كما ذهب غناها ولم يبق لها من المفاخر سوى هذه الآثار الفنية التي تركها لها الرسامون.
وأساس الفن في البندقية هو الفن الفلورنسي، فقد أخرجت فلورنسا المعلمين الذين علموا البندقيين أو علموا من علموهم. وإذا ذكرت البندقية في الفنون طار الخيال إلى تسيانو الذي يسميه الإنجليز «تيتيان».
وقد ولد هذا الرسام العظيم سنة أو حوالي سنة ١٤٨٢. ويقال إنه بلغ التسعين من عمره وهو في خدمة البندقيين. ولم تكن البندقية بلدته الأصلية، فإنه نشأ في قرية صغيرة على جبال الألب، ولا نعرف شيئًا كثيرًا عن طفولته أو صباه، وإنما نجده حوالي سنة ١٥١٦ رسامًا معروفًا في البندقية بعد وفاة جورجوني وبليني، وقد تعين في تلك السنة رسامًا للحكومة.
قال فسارى عنه: «كان جميع الأمراء والعلماء والأعيان الذين يزورون البندقية يقصدون إليه … ولم يكن تسيانو عظيمًا في فنه فقط، بل كان نبيلًا أيضًا في شخصه».
وأعظم ما يعرف به تسيانو الآن صورته للإمبراطور شارل الخامس «فإنه صوره عقب انتصاره في واقعة أوجسبرج وكافأه الإمبراطور بألف قطعة من الذهب. وكان بعد ذلك كلما صنع له صورة كافأه بمثل هذا المبلغ. وكان تسيانو إذا رسم المرأة أخرجها وسطًا ناضجًا في الأنوثة، لا هي شابة ولا هي عجوز، حتى في صوره الوثنية أو المسيحية. ومات سنة ١٥٧٦ وبلغ من إعجاب البندقيين به وحبهم له أنهم خالفوا أوامر الحكومة التي كانت تقضي بدفن الموتى خارج المدينة لتفشي الطاعون، ودفنوه في إحدى الكنائس التي زين هو نفسه جدرانها برسومه.
وظهر بالبندقية بعده «تنتوريتو» الذي تتلمذ له وهو صغير، ولكن تسيانو طرده لسبب غير معروف. فقد روى بعضهم أنه غار منه، وروى آخرون أنه كان يعصيه. والأرجح أن السبب الثاني هو الصحيح.
وقد ولد «تنتوريتو» بالبندقية سنة ١٥١٨ وكان سريعًا في عمله. حُكي عنه أن «الأخوة سان روكو» عرضوا على الرسامين أن يقدم كل منهم رسمًا لسقف الغرفة الخاصة بالطعام. فذهب كل منهم إلى مرسمه يفكر في الرسم. ولكن «تنتوريتو» قصد إلى هذه وقاس السقف واشترى القماش ورسم الرسم عليه وذهب وعلقه. فلما كان اليوم المعين لفحص الرسوم رأى الرهبان أن «تنتوريتو» قد انتهى من عمله فأجازوه، ولم يلتفتوا إلى ما عمله الآخرون.
ويمتاز «تنتوريتو» بأنه رسم أكبر صورة هي صورة الفردوس في قصر الدوق، يبلغ عرضها ٨٤ قدمًا. كما يمتاز أيضًا بأنه آخر الرسامين الإيطاليين الذين عنوا برسم المواقف الدينية. بل يمكن أن يقال إنه بموته سنة ١٥٩٤ أدى الفن الإيطالي مهمته وصار على الأمم الأخرى أن يتموا ما بدأته فلورنسا والبندقية.
وكان يعاصر «تسيانو» و«تنتوريتو» رجل آخر تعلم منهما هو «بول فيرونيز» الذي وُلد سنة ١٥٨٨. وكان مولده في فيرونا. ولكن قضى حياته في البندقية. وهو الذي زين قصر الدوق بجملة مناظر فخمة تتسم بالأبهة والفخامة والجسامة. وأحسن صوره هي صورة «أسرة دارا أمام الإسكندر المقدوني».
وكان «بول فيرونيز» يحب ملذات الدنيا ومسراتها وينقل بعض هذه المسرات إلى رسومه، حتى أدى ذلك إلى محاكمته أمام «محكمة التفتيش»، فقد كلف بأن يرسم «العشاء الأخير» للمسيح فما كان منه إلا أن حشد الصورة بالطعام الشهي والشراب الكثير والخدم والحرير. فلما علمت «محكمة التفتيش» بذلك استدعته وقنعت بتوبيخه. وقد رسم بعد ذلك صورة «عبادة المجوس» فتوقى فيها تلك الملذات التي كان هو نفسه غارقًا فيها. ومن أحسن صوره صورة «رؤيا القديسة هيلانة للصليب».
ومن عظماء الرسامين في البندقية «موروني» الذي وُلد سنة ١٥٢٠ ومات سنة ١٥٧٨. وكان يجيد رسم الأشخاص. بل يمكن أن نقول: إن جميع البندقيين من الرسامين كانوا يجيدون رسم الأشخاص، لأن سكان البندقية كانوا تجارًا يتنافسون في رسم وجوههم ويكافئون الرسام بأكبر قيمة. وموروني مشهور برسمه لأحد الخياطين، وبرسم آخر لأحد النبلاء الإيطاليين.
وقد أنجبت البندقية عددًا غير قليل من الرسامين غير هؤلاء من «لوتو» الذي كاد يستوحي الفن البيزنطي القديم من حيث الروح والإيمان. أما من حيث الصنعة فإنه إيطالي.