قراءة سريعة في موضوع الإله النقيض
(١) تأسيس
في كتابه «عجائب الآثار» يحكي المؤرخ «عبد الرحمن الجبرتي» أنه
في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حين وصلت الحملة الفرنسية إلى
مصر، وبينما كان الشرق يعاني من غيبوبته الغيبية، التي كانت أشد
فتكًا بعقله من القهر العثماني المتسلط آنذاك، قامت مجموعة من
العلماء الفرنسيين الذين رافقوا حملة «نابليون بونابرت»، بعرض بعض
التجارب الكيميائية أمام نفر من علماء الأزهر، فذعر علماء المسلمين
لما رأوا، ولم يجدوا تفسيرًا لديهم سوى أن يُرجعوا تلك التجارب إلى
خدع الشيطان الرجيم وأفاعيله؟!
١
أما «علي مبارك» فيرسم للعقل الشرقي آنها صورة أشد قتامة، في
عرضه لأحداث المعارضة الكبرى التي قادها علماء المسلمين ضد إدخال
مطبعة عربية إلى مصر على يد الفرنسيين، بحسبان المطبعة اختراعًا من
بدع إبليس اللعين!
٢
والعجيب أن الشيطان لم يزل حتى اليوم يصول ويجول في مساحة كبرى
من العقل الشرقي، وليس ببعيد ما ذكره «فتحي غانم» عن حملة السلفيين
المتزمِّتين ضد استخدام الهاتف والسيارة بحسبانهما اكتشافات تمت
بإيعاز من إبليس لعنه الله، بل وتكفيرهم لكُتَّاب القصة، ولأشكال
التعبير الأدبي الجديدة، باعتبارها دسائس استعمارية، يقف الشيطان
وحزبه من ورائها!
٣
وهكذا تجاوز الشيطان إطاره الديني، وتغلغل في ذات الإنسان ليتحكم
بكل حياته، ومِن ثَمَّ أصبح سببًا لكل ما لا نرضي عنه، وستارًا
يخفي الأسباب الحقيقية، ومشجبًا للأخطاء على مستوى الفرد والجماعة
والدولة، وتفسيرًا سهلًا لكل مجهول؛ مما أدى بالعقل الشرقي إلى
غياب شبه كامل عن واقعه المتردي، بحيث تحول التغيير الاجتماعي
المطلوب نحو الجانب الأخلاقي، بشن الحرب على الشيطان وأعوانه في
المقام الأول، وليس تغييرًا للواقع المأساوي الذي نعيشه، وأن مدى
تمكن فكرة الشيطان من العقل الشرقي، تستدعي تساؤلات عن مناشئها
الأولى، وبحثًا عن العوامل التي أدت إلى اكتسابها تلك القدرات
الخارقة، ومِن ثَمَّ وضع الشيطان داخل إطاره وحجمه الحقيقيين.
٤
(٢) ما بين الفوضى والنظام
رغم أن الإنسان البدائي لم يكن فيلسوفًا، إلا أنه شغل نفسه
بمحاولة معرفة أمور هي الفلسفة بعينها، وكثيرًا ما سأل نفسه: أيهما
كان أولًا؟ الموت أم الحياة؟ العدم أم الوجود؟ الضار أم
النافع؟
وهو بذلك إنما بلغ مرحلة متقدمة نسبيًّا على مدارج حداثيته، أدت
به إلى تقسيم قوى الطبيعة إلى قوتين تعملان في اتجاهين متعاكسين،
قوة إيجاب فيها النفع والحياة والوجود والضياء، ممثلة في عطاء
الطبيعة وخصب الأرض وفيض النهر وتكاثر الحيوان النافع، وكان هذا هو
الخير بالنسبة له، والقوة الأخرى قوة سلب فيها الضرر والموت والعدم
والظلام، ممثلة في إمساك الطبيعة عن العطاء. وجفاف الأرض والنبات
والنهر، وما يصحب ذلك من سكون وخمود من حوله؛ لذلك نجده يتجه
بالعبادة ووسائل التقرب لمظاهر الطبيعة المختلفة، للظواهر الخيرة
ليزداد خيرها، وللظواهر التي يرهب جانبها ويخشى بأسها وبطشها
ليتحاشى شرها ونقمتها، ويقلل من ضررها.
وقد جاءت نقلته التطورية الأخرى، بعد مشاهدات، لعل أهمها: أنه
لاحظ اختفاء أكثر مظاهر الحياة أمام ناظريه بحلول الظلام، وأنه لا
يستطيع أن يأمن على نفسه من الضواري ليلًا، فاستشعر أن الظلام
تصحبه الفوضى وانعدام الأمان، فربط بين الظلام وبين العدم والموت
والفوضى، وخاصة بعد تأكده أن غياب الشمس والضياء يعني بدء دورة
جديدة للحياة؛ فربط الظلام بالشر، والضياء بالخير؛ لذا يُلاحظ أن
أغلب عبادات الشعوب القديمة شمسية، تمثل بالشمس إلهها
الأكبر.
ومن هنا على ما يبدو، افترض أن الحالة الأولى للكون، كانت تسيطر
عليها قوى الشر (الظلام، العدم، الموت، الفوضى)، وبعدها ظهرت في
الوجود قوى الخير (الضياء، الوجود، النظام).
ومع تناوب فصول السنة، وما يستتبعه ذلك من موت وجفاف، وعودة
للنمو والخصب بالتناوب، فقد افترض العقل البشري، وهو يرتقي درجة
أخرى على سُلَّمه التطوري، أن هناك صراعًا قائمًا بين قوتي الخير
والشر، فقام يشمر السواعد مساعدًا قوى الخير، بزيادة الجهد المثمر
في الأرض والتقرب إليها بأبكار ثماره وماشيته، مع طقوس وعبادات
خاشعة، بينما اتجه نحو قوى الشر متزلفًا بوسائل السحر، اتقاءً
لشرها، وإبعادًا لغضبها.
(٣) إله الشر الأسطوري
وهذه المعاني نجدها غالبة على أساطير الشعوب الزراعية القديمة في
الشرق الأوسط، ففي مصر القديمة — كانت مصر ولم تزل هبة النيل — نجد
«أوزيريس
Osiris» إلهًا للنيل
والخير والخضرة والنماء، بينما كان «ست
Seth» إله القفار والصحراء، وكان أيضًا زعيم
الأشرار، يحاول دائمًا إحباط أعمال أخيه النافعة الخيرة.
٥
كما نجد الأمر نفسه في حضارة الرافدين القديمة، فيترجم «د. أنيس
فريحة» ملحمة
Enuma Elish — هناك
ترجمات أخرى متعددة — التي تحكي أن «تيامة
Tiamat» رمز القوى العمياء الشريرة في الوجود،
كانت هي البحر الأول المظلم في الوجود — ولم يزل اسمها علمًا على
السهل الحجازي تهامة — حتى جاء النور ممثلًا في «مردوك
Marduk» رب الضياء، فدخل معها
صراعًا عنيفًا انتهى بالقضاء عليها؛ ومِن ثَمَّ فرغ لتنظيم السموات
والأرض، بعد أن باركها لتكثر خيراتها.
٦
والأمر نفسه نجده في كنعان (فلسطين والأردن وسوريا ولبنان)، إن
الأصل كان غمرًا مظلمًا مسيطرًا هو «يم»، يفرض السكون والفوضى على
الوجود، حتى ظهر الإله «بعل» فقضى على «يم» من أجل تثبيت النظام
والخير في الأرض، لكن أتباع «يم» قاموا يحاربون البعل بقيادة الإله
الشرير «موت»، من أجل أن يستعيد الموت والسكون سيادة الدنيا. فتصدى
لهم البعل مرة أخرى، لكن ليدخل مع «موت» هذه المرة في صراع أبدي،
ويتناوبان الهزيمة والنصر، فمرة ترجح كفة «بعل»، فيكسب الجولة،
فتسود الدنيا الخيرات نماءً وخصبًا، ومرة ترجح كفة «موت» فيغشى
الأرض سكون الموت وفوضى الجفاف.
٧،٨
ولنا أن نرى في هذه الأسطورة خطوة ارتقائية أخرى للعقل البشري،
سَوَّغَتْ له تفسير التناوب الفصلي لشهور السنة، وما يستتبعه من
تأثيرات على الأرض إن خصبًا أو جدبًا، وما زالت اللغات السامية
ومنها العربية، تستعمل اسم الإله «موت» للدلالة على حالة السكون أو
الموت، كبقايا أثرية، أو حفريات لغوية — إن جاز التعبير — لتدلل
على المراحل التطورية التي مرت بها العقلية البشرية
ارتقائيًّا.
(٤) الشيطان الفارسي
يبدو أن العقل البشري لم يستسغ الاستمرار في الاعتقاد بأن أصل
الوجود هو الشر والظلام، فأراد أن يعطي إله النور والخير أولوية
الوجود، وفي الوقت نفسه يسوغ بطريقة ما وجود إله الشر، ونظن أول
هذه المحاولات التي لبست ثوبًا فلسفيًّا قد جاءت في عقيدة «كيرمرث»
الفارسية، وإن كنا لا ننكر ما سبقها من محاولات خاصة في مصر
الفرعونية، ويلخص لنا «د. علي النشار» عقيدة «كيرمرث» فيقول: «إن
أول الموجودات كان إله النور والخير «هرمز» — لم يزل اسمه علمًا
على مضيق الخليج العربي — ففكر في ذاته متسائلًا: لو كان لي منازع
كيف يكون؟ وبمجرد أن طرأت هذه الفكرة على خاطره، حتى وُجد هذا
المنازع فعلًا، فظهر الظلام بعد أن كانت الدنيا دائمة الضياء،
نتيجة مجيء إله الشر «أهرمان» إلى الوجود، فقام إله الخير «هرمز»
بخلق كل الملائكة والبشر ليساعده ضد غريمه «أهرمان»، لكن «أهرمان»
قام بخلق كل الكائنات الضارة، وأخذ يؤثر بأتباعه الأشرار على البشر
لينضموا إليه، وهكذا بدأ الصراع بين إله الخير أو النور، وبين إله
الشر أو الظلام.»
٩
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى اعتقاد قدماء الفرس في إله نور
وخير قبل «هرمز» اشتهر باسم «ميثهرا» وهو إله زراعي؛ أي إله خصب
ونماء وضياء
١٠ ويؤكد الباحث «عصام ناصف» أنه كان يُحتفل بعيد ميلاده
في ٢٥ كانون أول، أي بالضبط عندما تبدأ الشمس قوة دورتها الجديدة،
فهو إله الضياء أو الشمس.
١١
وقد عبد الهنود بدورهم هذا الإله، واعتقد عُبَّاده أنه يدخل
سنويًّا في معركة مع آلهة الموت والظلام، وأنه كان يتعرض في هذه
المعركة للأسر، ثم الاستشهاد موتًا على الصليب، فيصيب الأرض الجفاف
ويتوقف النسل، لكنه يقوم من الموت في الحادي والعشرين من شهر آزار،
عند المنقلب الربيعي، فتعود بقيامته المجيدة الحياة للأرض خيرًا
ونماءً، ويشير المرحوم «عباس العقاد» إلى طقوس من ديانة «ميثهرا»،
نجد فيها شبهًا كبيرًا بما في المسيحية، ولك أن تلاحظ أن احتفال
المسيحية بعيد ميلاد إلهها الشهيد «يسوع المسيح» في ٢٥ كانون أول
وهو موعد ميلاد «ميثهرا» نفسه، وأن احتفالها بعيد قيامته المجيد
يوم ٢٠ آذار، هو بدوره نفس موعد قيامة «ميثهرا» المجيدة
١٢ ويقول «عصام ناصف»: «وقد اقتبست المسيحية بعض ما في
المثروية، ومن ذلك مفتاح دار النعيم ومفتاح الجحيم، وتيجان
الأساقفة وأحذيتهم الحمراء، ولقب بابا، وكان يلقب به كبير كهنة «ميثهرا»».
١٣
ومن الطريف أن أتباع «ميثهرا» اتهموا المسيحيين الأوائل باقتفاء
أثرهم، واقتباس عقائدهم منهم، إلا أن الأطرف فعلًا هو أن الآباء
الأوائل … عندما جابهوا هذه المشكلة، لم يخطر ببالهم سُنة العقل
البشري التطورية، وما تستتبعه جدلية التطور من تأثير العقائد في
بعضها، فعللوا المسألة بأن الشيطان بدأ محاربة الإيمان المسيحي من
قديم الزمان، فجعل ديانة «ميثهرا» تسبق المسيحية في الظهور، وتتصف
في مجمل طقوسها، وفي الأحداث التي جرت لبطلها المعبود بما جاء فيما
بعد في المسيحية.
(٥) المهدي المجوسي
ويُؤخذ مما جاء في مِلل الشهرستاني أنه عندما ظهر «زرادشت» في
فارس مناديًا أنه نبي مرسل من قبل إله الخير «هرمز» لهداية البشر،
كانت المعتقدات المثروية القديمة راسخة في أذهان القوم. فما كان
منه إلا أن أقرها — وهي العادة في مثل هذه الأحوال — وأعلن
«زرادشت» أنه بُعث ليبتعد بالبشر عن طريق الشرير «أهرمان»،
١٤ لكنه فيما يرى «العقاد» حوَّل «ميثهرا» من إله إلى
ملاك موكل بهداية الصالحين لمساعدة «هرمز» في كفاحه ضد جحافل الظلام.
١٥
وليست الديانة الزرادشتية سوى تلك التي نعرفها في الإسلام
بالمجوسية، لكن المجوسية عادت إلى فكرة وجود الشر أولًا، وفسرت ذلك
بأن «هرمز» و«أهرمان» كانا توءمين في باطن الزمن، فاحتال «أهرمان»
بخبثه وشره الفطري، فشق لنفسه مخرجًا إلى الوجود قبل «هرمز» الطيب،
وهنا تدخل الزمن الأب ليحد من سلطان الشر على العالم، بأن أرسل
«زرادشت» نبيًّا؛ ليعزز إله الخير «هرمز»، في محاربة «أهرمان»
وجنده، وذلك بهداية البشر إلى طريق الخير فيكونون جنودًا
لهرمز.
وافترضت هذه العقيدة أن يستمر الصراع اثني عشر ألف سنة، يظهر على
رأس كل ألف سنة إمام مهدي من بيت «زرادشت»، يقود الكفاح من أجل
انتصار الخير على الشر، ويساعد البشر في التخلص من تأثير «أهرمان»
ووسوساته، وبانتهاء المدة تقوم القيامة، وساعتها يحكم الدنيا
الإمام المهدي الثاني عشر، ويسود السلام بعد أن تقوم القيامة،
ويحكم فيها على «أهرمان» وجنوده ومن تبعه من البشر بالخلود في
الجحيم، ولعل التشابه بين هذه الاعتقادات الفارسية وبين ما جاء في
اعتقادات الفرق الشيعية الإمامية أوضح من أن يشار إليه.
كما أنه ليس بخافٍ أن ظهور فكرة إمام من نسل «زرادشت» يعيد
للإنسانية أمنها وسلامها، كان ناتجًا طبيعيًّا لنضوج الأوضاع
الاجتماعية آنذاك والانقسامات الطبقية الحادة، فتحول العقل إلى
البحث عن العزاء والراحة في عالم مقبل، يحكمه مهدي منتظر، يقضي على
الشر والاضطهاد. كما أصبحت فكرة وجود إله شر مريحة للعقل، تساعده
على الهرب من بحث الظروف الموضوعية التي تتحكم في حياته
الاجتماعية، ومصدر الشر الحقيقي فيها، وهكذا جاءت المجوسية
للإنسانية بمشجب مريح تعلق عليه كل الأخطاء والهفوات والتبريرات
والمعاذير، وتصرف الطبقات المطحونة عن تغيير أوضاعها الفعلية إلى
انتظار طوباوي لما في المستقبل الآتي.
(٦) الشيطان اليهودي
بدايةً، يصعب على الباحث أن يجد لدى اليهود إلهًا خاصًّا بالشر،
لكن المطالع لمرحلة ما بعد التيه يمكنه أن يجد إشارات غامضة، تتضح
بالتدريج مع فقدانهم أمان الاستقرار السالف في مصر، وبعد ما حدث
بينهم في سيناء من صراع دموي، فظهرت فكرة إله مساوٍ لإلههم «يهوه»
في القدرة، هو السبب المباشر فيما وقع بهم من مصائب أسموه
«عزازيل»، وتحاشيًا لشر «عزازيل» قاموا يقدمون له القرابين كما
يقدمونها إلى «يهوه» أو كما جاء في كتابهم المقدس: «… ويلقي هارون
على التيس قرعتين، قرعة للرب، وقرعة لعزازيل.» ويرجح «لودز» أن
«عزازيل» كان علمًا على شيطان أو جني اعتقد اليهود أنه يسكن الصحاري.
١٦ وفي كتاب «إبليس» يؤكد المرحوم «عباس العقاد» أن
«عزازيل» هو اسم إله الخراب والقفار،
١٧ بينما يذهب آخرون إلى أنه زعيم الملائكة الذين هبطوا
وزنوا ببنات البشر، ثم انهزموا أمام جنود الخير فلاذوا بالصحراء،
أما نحن فنزعم أن «عزازيل» اليهود هذا ليس سوى «عزازيل» الذي كان
يلقب به إله الهلال البابلي «سين»، وكان يصور في هيئة التيس، أو
على الأرجح أنه كان إله التيوس مرموزًا له بالهلال، للتشابه بين
الهلال وبين قرني التيس، ولعل ذلك ما يفسر لنا صورة الشيطان في
اللوحات الفنية مزودًا بقرنين وحوافر وذنب.
وربما لا نجد ذكرًا كثيرًا للشيطان عند اليهود؛ لأن يهوه جمع
الخير والشر معًا، فلم يكن ثمة حاجة لإله للشر. ويذهب «كراب» إلى
أن اليهود قد تأثروا بالعقائد الزرادشتية بعد احتكاكهم بالفرس،
فقالوا بإلهين: واحد للخير وآخر للشر، وأطلقوا على إله الشر عدة
ألقاب، أهمها:
satan «شيطان»
و«إبليس». وإبليس — فيما يرى الباحثون — اختصار للأصل اليوناني
«ديا بليس» أو «ديا
بوليس
Dia-Bolos» ويؤكد الدكتور «مصطفى الجوزو» أن الكلمة
Dia-Bolos أصبحت علمًا على
ملاك الموت أو زعيم الهاوية السفلى التي كان اليهود يعتقدون أنها
مصير جميع الموتى صالحًا وطالحًا.
١٨ ولنا أن نذهب إلى تعليل ذلك بكون اليهود اعتبروا الموت
أعظم شر يمكن أن يصيب الإنسان، وبذلك فملاك الموت أو الشيطان
اليهودي زعيم الهاوية اعتُبر لديهم إلهًا للشر ورمزًا له.
(٧) عزازيل وعزرائيل
وفي زعم بعض الباحثين أن المقطع الأول من ديابولوس
Dia هو من الأصل اليوناني
Devil ويعني الشيطان، لكن
المرجح أن تكون كلمة «ديابولوس» قد دخلها خلط شديد واشتقاقات أخرى
محتملة للمقطع Dia.
من Devin بمعنى الألوهية، ومن
Dia بمعنى يموت وبمعنى ملعون،
ومن «ديوس Deuce» بمعنى الشيطان،
مع الأخذ بالحسبان قرب «ديوس» في النطق العربي، من اللفظ الكنعاني
العبراني «التيوس» = جمع تيس، ويحمل المعنى نفسه في العربية، وهو
ما يطابق ما ذهبنا إليه في أصل «عزازيل» لقب «سين» إله التيوس أو
إله الهلال البابلي، مع اعتبارات أخرى مهمة، مثل التشابه بين لفظي
«عزازيل» و«عزرائيل» ملاك الموت الأشهر.
ومن المفيد هنا أن نشير إلى تأثر الكنعانيين واليونانيين بشكل
واسع بالعقيدة الفريجية (آسيا الصغرى) صاحبة الإله «آتيس
Attis». وفي هوامش «د. يعقوب بكر»،
على ترجمته لكتاب موسكاتي «الحضارات السامية القديمة» ملخص لأسطورة
الإله «آتيس»، الذي كان إلهًا في هيئة شاب جميل، مات قتيلًا وهو
متلبس هيئة التيس، فهبط سيدًا لعالم الموتى السفلي.
١٩
وبما نعرفه عن ميل اليونانيين إلى استبدال أسماء أبطال الأساطير
الواردة بأسماء يونانية، فمن المحتمل أن يكون هذا «الديوس Deus» أو التيس هو الذي حمل اسم
«أبوللو» إله الشعر اليوناني (ولاحظ أن الشعر حتى يومنا هذا
يُعَدُّ وحيًا شيطانيًّا، ولا يزال يُعبَّر عن فيض الشاعر بأنه قد
أتاه شيطانه).
ومن هنا يصبح معنى
Dia-Bolos هو
التيس «أبوللو»، أو الإله التيس «أبوللو»، أو إله عالم الموتى
السفلي «أبوللو»، وهو ما يفسر لنا المقطع الثاني من كلمة ديابولوس
أقصد
Abolos أما حرف السين
(S) الأخير، فهو التصريف الاسمي،
ولنلاحظ أنه من «أبوللو» كان اشتقاق الصفة
Apollonian أي فائق الجمال.
وبذلك نجد أنفسنا أمام معانٍ كثيرة مختلطة للكلمة
Dia-Bolos يمكن إجمالها في:
-
إله على هيئة التيس.
-
لكنه في الوقت نفسه فائق الجمال.
-
أصابته اللعنة فأصبح شريرًا (لأن
Die =
ملعون).
-
وهبط إلى عالم الموتى السفلي سيدًا (لأن
Die =
يموت).
-
حيث هناك العذاب بالتمزيق والحرق بالنار (لأن
Devil تعني أيضًا:
يمزق، يفرم، لحم مشوي بالنار).
وهي في مجملها الصورة التي سنراها بهذا التركيب المتداخل في
العقيدة المسيحية.
(٨) الشيطان المسيحي
يتضح من دراسة المراحل التاريخية العقائدية التالية، التي مرت
بها فكرة إله الشر، أن البشرية قد ارتاحت تمامًا لمشجبها الديني،
بحيث أصبح من الصعب — ومن الكفر في بعض العقائد — التنازل عنها.
ولما أخذ العقل في الارتقاء من تعدد الآلهة إلى التوحيد، واجه
مشكلة مؤرقة، فقد انتهى إلى القول بإله واحد موصوف بكل صفات
الكمال، لا يصدر عنه إلا الخير، فكيف يُحدِث الشر؟ إلا أنه مع هذا
التراث العريق لإله الشر، ذلك الذي أصبح اسمه «إبليس» أو
«الشيطان Satan»، لن توجد
مشكلة؛ ومِن ثَمَّ تركت له المسيحية بابًا رحبًا في عقائدها، فلا
تكاد تجد سفرًا إنجيليًّا يخلو من ذكر إبليس، مصحوبًا بكل أنواع
اللعنات وأقذعها، وحفاظًا على وحدانية الله — ممثل الدولة الغائب —
لم يعد إبليس إلهًا للشر، بل مخلوقًا إلهيًّا تمرد على خالقه، فكان
سببًا لبلاء البشرية وآلامها، فهو أصل الخطيئة وسببها، وهو الذي
أغوى آدم بالأكل من القوت المحرم والمعرفة المحرمة في الجنة،
فارتكب خطيئته الأولى (ولأن ذلك يتعارض مع النص التوراتي القائل
بأن الحية هي التي أوعزت لحواء لتأكل من الشجرة، فإن المسيحية أكدت
أن هذه الحية لم تكن سوى إبليس متنكرًا! وأنها ربما حملت إبليس في
فمها، فتحدَّث إلى حواء من خلاها).
ويحكي لنا «واطس» قصة هذا المخلوق الذي تمرَّد على خالقه في قصة
ملخصها: إن إبليس كان أكثر الملائكة جمالًا وأعظمها شأنًا عند
الله، وكان أقرب الملائكة إلى الله، حتى كان يعكس الضوء الإلهي
كالمرآة، فلقبه أقرانه لذلك ﺑ «لوسيفر
Lucifer» أي حامل الضياء. ولما خلق الله آدم شعر
إبليس أو «لوسيفر» أن هذا المخلوق الجديد سيهدد مكانته بالخطر.
ورغم معرفته التامة باللعنة الأبدية التي ستلحقه إذا اعترض، فإنه
لم يكتفِ بالاعتراض، بل رفض الأمر الإلهي بتأدية فروض الولاء
للمخلوق الجديد الأقل منه شأنًا، وأيده في الرفض عدة آلاف من
الملائكة، أعلنوا العصيان والتمرد، فدفع الله بهم إلى عالم الظلام
الأبدي تحت الأرض، فتحولوا من ملائكة إلى شياطين، يتزعمهم إبليس
ملكًا للشر، وعدوًا لذرية «آدم».
٢٠ بل وتزعُم الأناجيل أن الله عندما نزل إلى الأرض في
شخص «يسوع» المسيح — حسب اعتقادها — تعرَّض له إبليس أكثر من مرة
ليغويه رغم معرفته به! (لاحظ إلى أي حدٍّ يثق الملاك العاصي
بقدرته)، لكن المسيح الإله كان يفطن دائمًا للخدعة! ويعرف أن هذا
إنما هو عدوه اللعين فيتحاشى مكره وفخاخه.
وهكذا يظهر شيطان المسيحية بقدرات جبارة، تصل به إلى حد تحدي
إلهه والثورة عليه، ومحاولة صرف عباده عنه بغوايتهم. بل وصل به
المدى حدًّا حاول معه إغواء إلهه ذاته، وهي صورة تلقي بنا في مرآة
الزمان القديم، أيام كان إبليس إلهًا ذا قدرات إلهية، بل وتشهد له
الأناجيل بهذا المعنى، بالسيادة في رسالة «بولس» إلى أفسس أن
الشيطان: «رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء
المعصية». وفي الإصحاح ١٤ من الإنجيل نفسه، وهو مع أتباعه في رسالة
«بولس» إلى أفسس: «سلاطين وولاة العالم على الدهر مع أجناد الشر
الروحية في السموات». وفي رسالته إلى أهل كورنثوس يصف بولس الرسول
الشيطان وأتباعه بأنهم «رؤساء هذا العالم»، بل ويؤكد المسيح
ملائكية إبليس وعلاقته بالموت والعالم السفلي، حيث النار والجحيم
في الهاوية، بقوله في الإصحاح ٢٥ من إنجيل متى: «اذهبوا عني يا
ملاعين إلى النار الأبدية، المعدة لإبليس وملائكته.»
(٩) الشيطان في الإسلام
ويبدو أن قصة إبليس بمعناها الذي وصلت إليه مراحل العقل التطورية
في المسيحية، كانت قصة معروفة بين عرب الجزيرة قبل الإسلام، ولا
يبعد أن يكونوا قد عرفوها بتأثير اليهود والمسيحيين، فنجدهم
يعتقدون بالاعتقاد اليهودي السالف حول «عزازيل»، وكونه ملاكًا هبط
مع رهطه إلى الأرض، وتزوَّج من الآدميات فيقول «د. خليل أحمد»: إن
العرب في الجاهلية كانت لديهم أسطورة تقول: إن قبيلة جرهم هي نتاج
تزاوج الملائكة مع بنات البشر، وأسطورة أخرى تؤكد أن ذا القرنين
كانت أمُّه آدمية وأبوه ملاكًا.
٢١ ويؤكد د. جواد علي أن العرب قد عبدوا الملائكة.
٢٢
وهذا كله يفضي إلى أن العرب قد عرفوا قصة الملاك العاصي وأتباعه
وعبدوهم، والإنسان لا يعبد إلا من صعد في التصور البشري إلى رتبه
الألوهية.
وفي الإسلام أيضًا نجد للشيطان مكانة، بالتسميات القديمة نفسها.
فهو إبليس
Di-abolos وهو
الشيطان
Satan. ويؤكد
«الثعلبي» أن الله عندما غضب على إبليس «مسخ صورته فصوَّره شيطانًا
بعد أن كان ملاكًا … وغيَّر اسمه، وكان عزازيل فسمَّاه إبليس!»
٢٣ (وهي صورة تلقي بنا في مرآة القرون الخوالي)، إلا أن
المفسرين — سيرًا على تقليدهم المرعي — وضعوا لكلمة إبليس اشتقاقًا
لغويًّا عربيًّا أصيلًا، فلم يعد اسمًا واردًا من اللسان اليوناني
عبر اليهود والمسيحيين، وإنما أصبح من «الإبلاس» أي اليأس التام من
رحمة الله، وهو مصدر الخطيئة الأولى للبشر، بعد أن أغوى «آدم»
و«حواء» ليأكلا من الثمرة المحرمة. وهو أساس كل بلاء وانحراف عن
جادة الصواب.
ويرجِّح «العقاد» أن تكون كلمة شيطان من مادة: شطَّ، شاط، شوط،
شطن. وهي معانٍ فيها البعد والضلال والتلهب والاحتراق، بحيث تستوعب
أصول المعاني التي تفهم من كلمة الشيطان جميعها.
٢٤
وإذا كان «إبليس» في العقائد القديمة إلهًا للشر، تحول مع التطور
العقلي إلى ملاك عاصٍ أو إلى جنيٍّ، فإن القرآن الكريم يقول:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ
فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ
لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى
وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (البقرة:
٣٠–٣٤).
أما لماذا أبى «إبليس» واستكبر، وماذا كانت النتيجة، فهذا ما
يجيب عنه الحوار التالي: قَالَ يَا إِبْلِيسُ
مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ *
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ
صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * قَالَ
فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ
عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ *
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ (الحجر: ٣٢–٤٠).
فهنا أيضًا «إبليس» ملاك عاصٍ، يقف ممتلكًا قدرات هائلة، لا
يملكها المخلوق، فهو في موقف التحدي مع الإله، ويعلن تمرده، بل
ويكرر قسمه في أكثر من آية بالالتزام بتمرده والاستمرار والإصرار
عليه. انظر مثلًا مواجهته ربه مقسمًا بذاته: «بعزتك لأغوينهم
أجمعين». وليست هذه الغواية سوى رد على غواية الله له:
رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ
… الآيات.
٢٥ ورغم كون «إبليس» في الآيات ملاكًا عاصيًا، إلا أن
آيات أخرى تقرر أنه كان من الجن:
فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ (الكهف: ٥٠). أما كيف كان جنيًّا، فهي نقطة
أخرى سنتطرق إليها بالمعالجة في مكان آخر من هذه الدراسة.
وسواء أكان ملاكًا عاصيًا أم جنيًّا، فهو في الإسلام — بدوره —
شخصية ذات قدرات هائلة، في ضوء عصيانه لله، وهو يعرف كيان هذا
الإله وقدراته، وعليه يصبح لدينا — في الإسلام — إله للخير، وإبليس
للشر. ونتيجة هذا الفهم لإبليس، نسب إليه الكثير من الشراح
والمفسرين والفقهاء أعمالًا خارقة لا يستطيعها المخلوق. حتى قال د.
الجوزو: «وكما أن لإبليس خصم الله الألد جنوده، يبدو أن الملائكة
وبعض الجن الطيبين أنصار لله وعبيد له، يساعدون الناس في عمل
الخير. ولعل هذا ما حدا بالدكتورين «إبراهيم بدران وسلوى الخماش»
أن يلاحظا أن ما نسب إلى إبليس من قوة وجبروت، يبلغ من الضخامة ما
يجعله موازيًا في التصور الوهمي — للإنسان — جبروت الله».
٢٦
(١٠) الشيطان جنيًّا
يبدو لنا أن تحول «إبليس» من إله للشر إلى ملاك عاصٍ إنما يعود
إلى نزوع العقل البشري خلال هذه القرون الطويلة نحو التوحيد،
ونعتقد أنه كان لليهود دور لا يُغفل في ذلك، إبان الأسر البابلي.
فقد نقلوا — فيا يرى معظم الباحثين — جل آلهة الرافدين معهم إلى
فلسطين، وعلى رأسهم الإله الجبار «إيل» وأتباعه من الآلهة التابعة،
والذي ينتسب إليه «عزرا-إيل، وميكا-إيل، وإسراف-إيل … إلخ».
وأضافوا إليها عددًا من الآلهة الفرعونية والكنعانية في مراحل
تاريخهم التالي، ويبدو أنه مع اتجاههم نحو تمجيد إلههم القومي
«يهوه»، الذي أدخل عبادته بينهم «موسى» النبي — عليه السلام —
وتفضيله دون غيره عن بقية الآلهة، عز عليهم أن يتركوا هذا الجم
الغفير من الآلهة باعتباره ثروة وتراثًا قوميًّا بدوره، فحوَّلوها
من آلهة إلى أتباع للإله القومي «يهوه»، واعتبروها أقل منه
شأنًا.
وقد تأسس استنتاجنا هنا على إشارة من «ديورانت» إلى احتمال أن
يكون اليهود قد صاغوا ملائكتهم من حشد الآلهة القديم.
٢٧ ومِن ثَمَّ نصادق على استنتاجنا بأن هذه الآلهة
العديدة ظلت تحمل الطابع الإلهي هو هو لم يتغير. فهي مثل الإله
نورانية التكوين، وهي مثله خالدة ولها قدرات كقدراته، ولها أجنحة
آلهة الرافدين. ويؤيد ذلك أنه ما زال بعض تماثيلها المجنحة قائمًا
في العراق إلى اليوم، وبما أنها أصبحت تابعة للإله الأكبر أو من
أملاكه. فقد أطلق عليها اللسان العبري، الملائكة
Mal’akh. ولدينا أيضًا الإله الجبار «إيل» وهو
أعظم الآلهة القديمة شأنًا لدى جميع الشعوب الرافدية الأصل ولدى
اليهود بشكل خاص، الذي أخذ وضعه اللائق بين الآلهة المساعدة أو
الملائكة، فأصبح كبيرها وسيدها باسمه القديم الإله الجبار إيل
«جبرا إيل، أو جبريل»، وقد تخلقت الكلمة جبرًا بمعنى الجبروت
والقوة في كل اللغات السامية عن النطق الرافدي بما في ذلك اللغة العربية.
٢٨
ومما يؤكد مذهبنا في تحويل اليهود الآلهة القديمة إلى ملائكة،
تأكيد «سبتينو موسكاتي» أن الوصف الدقيق الذي قدمه النبي «حزقيال»
لطائفة الكروبيين من سادة الملائكة، إنما كان نتيجة تأثره بما
شاهده في بابل إبان الأسر البابلي في القرن السادس قبل الميلاد،
حيث يقول: «وحزقيال متأثر في هذا الوصف — ولا ريب — بتماثيل وصور
الكائنات الجنية التي كانت تحرس معابد بابل وقصورها، والتي شهدها
حزقيال قطعًا إبان المنفى». ويؤكد ذلك أن في سفر حزقيال إشارات
مباشرة إلى الصور المحفورة على الجدران في بابل.
٢٩ وهنا يلوح لنا التداخل الذي حدث لبعض الآلهة المتحولة
إلى ملائكة، ما بين كونها ملائكة أو جنًّا؛ نتيجة للتداخل الذي حدث
بين فكرة الملائكة التابعة للإله، وبين الصور البابلية للجن، التي
تصورهم كائنات بقرون وحوافر وذيول، التي شاهدوها إبان الأسر
البابلي. ولما كان «إبليس» إلهًا قديمًا للشر، فمن المنطقي أن
يتحول بدوره إلى ملاك تابع، وإلى جني في الوقت نفسه، ومن هنا —
فيما نظن — نشأ التضارب فيما بعد، ما بين كونه ملاكًا أم
جنيًّا؟
وفي مثل مذهبنا هذا نجد «العقاد» يقول: «إن التطور في الديانات
محقق لا شك فيه، أما التوحيد فهو نهاية تلك الأطوار كافة في جميع
الحضارات الكبرى، فكل حضارة منها قد آمنت بإله يعلو على الآلهة
قدرًا وقدرة، وينفرد بالجلالة بين أرباب تتضاءل وتخفت حتى تزول، أو
تحتفظ ببقائها في زمرة الملائكة التي تحف بعرش الإله العلي.»
٣٠ ونساند ما رأيناه في التداخل بين الملائكية والجنية في
شخصية «إبليس» بقول «العقاد»: «ففي أقدم العهود لم يكن عند
العبريين فارق بين خلائق الكائنات العلوية وخلائق الكائنات الأرضية
من إنسانية وحيوانية، ولم يكن عندهم كذلك فارق بين هذه الخلائق
وخلائق الشيطان، فكان الشيطان يحضر بين يدي الله مع الملائكة، وكان
الملائكة يهبطون إلى الأرض، فيعاشرون بنات الناس، ومِن هؤلاء
الملائكة مَن يعمل في طاعة الشيطان.»
٣١
(١١) إبليس التيس
وتتمة لمذهبنا في هذا التحوُّل، نزعم أنه كان للمسيحية دور آخر
كبير في التحولات التي دخلت على فكرة إله الشر. حيث نجد تحول إله
الشر إلى ملاك مغضوب عليه، قد ظهر واتضح بجلاء في القرن الأول
الميلادي. ثم بعدها أخذ المسيحيون يصورونه في هيئة إنسان ذي قرون
وحوافر وذيل. وكان هذا في رأينا نتيجة لأن شعوب حوض المتوسط الشرقي
كانت لا تزال تعبد الإله «آتيس»، ورمزه التيس ذو القرون والحوافر
والذيل، وَتَعُدُّه إلهًا شهيدًا. كما كانت هذه الشعوب بشكل عام،
تتعبد إلى صور متعددة لتموز الرافدي، حتى سادت صورته الفينيقية
بشكل واسع ممثلة في الإله «أدونيس». وكان يرمز له بدوره بالتيس،
وكان بدوره إلهًا شهيدًا. كذلك كان «ميثهرا» إلهًا شهيدًا يحمل
الصورة نفسها، فلما جاءت المسيحية واعتقد المسيحيون أن إلههم
«يسوع» شهيد، ووجد الآباء الكنسيون صورة هذه الآلهة تتشابه — مع
طقوسها — مع العقيدة المسيحية، لم يرجعوا ذلك إلى أن المسيحية
مصبٌّ صُبت فيه هذه المعتقدات، إنما اعتبروا هذه الديانات الأخرى
التي ظلت في حالة صراع مع المسيحية حوالي خمسة قرون، قبل أن تصبح
المسيحية دينًا رسميًّا، صنعة للشيطان، وأن هذه الآلهة التي في
صورة التيس لم تكن سوى تمثلات للشيطان نفسه.
وبحسبان كل هذه الديانات بما فيها المسيحية ديانات فدائية تقول
بإله شهيد فدى البشر بنفسه، وتذبح نموذجًا حيوانيًّا له في عيد
موته وقيامته، الذي كان عيدًا عامًّا في كل ديانات حوض المتوسط
تقريبًا، فإن التيس كان هو القربان الأمثل؛ لذلك رأت المسيحية أن
تخالف ذلك، فاعتبرت إلهها الشهيد خروفًا وليس جَديًّا أو تيسًا.
واعتبرت الخروف القربان الأمثل، وعليه فكل مَن يؤمن بالإله الخروف
فهو من أهل اليمين الخالد في النعيم. أما من يؤمن بالإله التيس فهو
من أهل اليسار، أتباع إبليس، ومصيرهم جهنم. وفي هذا يقول إنجيل متى
(إصحاح ٢٥): «ومتى جاء ابن الإنسان (المسيح) في مجده، وجميع
الملائكة والقديسيين، فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه
جميع الشعوب، فيميز بعضهم عن بعض، كما يميز الراعي الخراف عن
الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره، ثم يقول الملك
للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ
تأسيس العالم … ثم يقول أيضًا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا
ملاعين، إلى النار الأبدية المعدَّة لإبليس وملائكته.»
ومن هنا يتضح إصرار الأناجيل على تأكيد خروفية «المسيح» وليس
تيسيته، أو ألوهيته وليس شيطنته. ومثال ذلك: «طوبى للمدعوين إلى
عشاء عرس الخروف، هذه أقوال الله الصادقة» (سفر الرؤيا، إصحاح ١٩)،
وفي الجنة «عرش الله والخروف» (سفر الرؤيا، إصحاح ٢١). وهذا الإله
الخروف هو «… حمل الله» (إنجيل يوحنا إصحاح ١).
٣٢ وأتباع التيس «سيحاربون الخروف، والخروف يغلبهم؛ لأنه
رب الأرباب وملك الملوك» (سفر الرؤيا، إصحاح ١٧). ومن هنا كانت
تضحية الخروف والتقرب به أمرًا مستحبًّا، تعبيرًا عن صدق تضحية
المسيح، وكذب تضحية إبليس (أو ميثهرا أو آتيس أو تموز أو أدونيس)؛
لأنهم جميعًا إنما كانوا تيوسًا.
(١٢) إبليس الحية والتنين
يقول «العقاد»، وهو المعتمد الأساسي في هذه الدراسة عن الشيطان:
إن الإنسان عندما حاول في بداية ظهور فكرة الشر أن يجد لها رمزًا
طبيعيًّا «لم يكن أمامه في مثل هذه الخطوة مثل على الشر الخبيث
الذي يضمر السوء، ويتوارى عن النظر، أقرب إلى الحس والخيال من
الحية التي تزحف على التراب وتندس في الجحور كيدًا وخديعة وتمكنًا
من الدس والأذى فيما توهمه، ولم يكن في وسعه أن يتوهم شيئًا سواها؛
ولهذا بقيت الحية مقترنة بقوة الشر حقيقة أو رمزًا إلى أحدث العصور.»
٣٣ وفي العقيدة الفارسية القديمة، نجد في الفصل الثالث من
كتاب
Bundahesh أن «أهرمان» إله
الشر تشكل بهيئة الحية وملأ الوجود كله، ثم أرسل سمومه في كل شيء،
ولم ينهزم حتى هبط هرمز إله الخير إلى الأرض وأعاده إلى
قراره.
ودعمًا آخر نضيفه لما سبق في رؤيتنا لتحويل اليهود الآلهة
القديمة إلى ملائكة، ثم تحول الملائكة إلى شياطين، ما جاء في رؤيا
«إشعياء» النبي أن طائفة من الملائكة تُسَمَّى السرافيم تحرس عرش
الرب في معبد أورشليم وتسبِّحه. ويشير «د. يعقوب بكر» في هوامشه
على ترجمة كتاب «موسكاتي» سالف الذكر إلى أن الكلمة «سرافيم» هي في
اللسان العبري من المفرد «ساراف» و«ساراف» تعني الحية!
٣٤ والحية هي التي أوعزت لحواء في الجنة بالأكل من الثمرة
المحرمة، فهي إذن رمز «إبليس» أو هي «إبليس» أو الشيطان، والشيطان
يكون بهذا المعنى واحدًا من السرافيم الملائكة. وفي هذا يقول
الكتاب المقدس: «وكانت الحية أَحْيَلَ جميع حيوانات البرية التي
عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقًّا قال الله لا تأكلا من كل
شجر الجنة، فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمرة
الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا
تموتا، فقالت الحية للمرأة: بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح
أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة
جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من
ثمرها وأكلت وأعطت رجلها.» ولما علم الرب بذلك قال للحية: «لأنك
فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على
بطنك تَسعينَ، وترابًا تأكلين كل أيام حياتك» (الإصحاح ٣، سفر
التكوين).
إلا أنه للحق، حتى كتابة هذا النص التوراتي لم تكن شخصية «إبليس»
قد تبلورت بعد، وكان الاعتقاد في مصدر الشر والإيعاز به هو الحية
ذاتها، التي عظم أمرها في الأدوار التالية، وأصبحت في الخيال
الإنساني ذات رءوس متعددة وأجنحة وأرجل ولسان وقاذف للهب، أي
تنينًا خرافيًّا يرمز للشر، ويدخل معه الإله في صراع طويل حتى
يتغلب عليه. وفي ذلك يقول المزمور ٧٤ بالكتاب المقدس: إن الإله
القومي «يهوه» دخل الصراع مع هذا التنين الذي يُسَمَّى «لوياثان»:
«أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضفت
رءوس لوياثان.» لاحظ أن الإله لا يصارع مخلوقاته بل أنداده. وفي
سفر إشعياء (٢٧: ١): «في ذلك الوقت ستقتل لوياثان الحية الهاربة،
لوياثان الحية الملتوية، ويقتل التنين الذي في البحر.» ولعله واضح
أن ذلك ليس سوى ترجيع لصدى الاعتقادات البدائية في قوتي الخير
والشر والصراع بينهما.
ويدعم ذلك تمامًا الاكتشافات الآثارية الحديثة في أوجاريت (تل
شمرا) القديمة، وما سجلته النصوص الكنعانية المقدسة هناك حول إله
الشر المرموز له ﺑ «لوياثان»، حيث نجد أصلًا (طبق الصورة الموجودة
بالكتاب المقدس) أورده الباحث «فراس السواح»: «وفي ذلك اليوم،
يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان، ويضع نهاية للحية
الملتوية الهاربة، شالياط ذات الرءوس السبعة.» وفي نص آخر تقوم
«عنات» زوجة الإله «بعل» بقتل التنين، فيخاطبها النص الأوجاريتي
قائلًا: «ألست أنت التي أفنت التنين؟ وسحقت الحية الملتوتة ذات
الرءوس السبعة؟»
٣٥
(١٣) وكان الشيطان العربي ثعبانًا
وإضافة لهذه المشابهات (أو الشبهات) النصية، نجد الفكرة العامة
هي صراع بين قوتي الخير والشر، وهي الفكرة نفسها في صراع «أوزير»
و«ست» في العقيدة المصرية القديمة، وصراع «مردوك» و«تهامة» في
العقيدة الرافدية القديمة، وصراع «البعل» و«موت» في العقيدة
الكنعانية، وهي الفكرة القديمة نفسها الشائعة في بقية المعتقدات
العتيقة من تنين الصين حتى تنانين حوض المتوسط.
و«العقاد» يؤكد أن الشراح اليهود المتأخرين قد ذكروا أن الشيطان
تمثل لآدم في صوة الحية حين أغراه بالأكل من الثمرة المحرمة، ولم
تنقطع العلاقة بين الحية والشيطان أبدًا.
ومن بعد اليهود استرسل المسيحيون الأوائل في حديث الحية
باعتبارها أقرب صورة حسية لتمثيل الفكرة الطالعة للشيطان أو
«إبليس»، حتى أصبح لها مقار عبادة في مختلف الحضارات القديمة.
٣٦ ومن هنا اعتبر المسيحيون الحية معبودًا شيطانيًّا
كالتيوس الآلهة، ومن هنا أيضًا أصبح الشيطان ممثلًا في الحية
والتنين والتيس لدى المسيحيين، فبقيت اللوحات الفنية المسيحية
تمثله بالحية، وبالتنين في جميع أعضائه عدا الرأس الذي حُوِّل إلى
رأس إنسان ذي قرنين أو أذنين صاعدين مكان القرنين. وكلما تقدمنا
زمنيًّا وجدنا الأعمال الفنية المسيحية تستبعد عن صورته الحية
والتنين لتخلفها ملامح إنسان خبيث، لكنه محتفظ بالقرنين أو الأذنين
الطويلتين والظلف المشقوق، والذيل الذي غالبًا ما ينتهي برأس
الحية!
أما أوضح إشارة إنجيلية لتسمية الحية بالشيطان، فقد جاءت في
الإصحاح ١٢ من أعمال الرسل، إذ تقول: «إنه التنين العظيم، الحية
القديمة، المدعو إبليس، الشيطان الذي يضل العالم»!
ولو رحلنا جنوبًا نحو جزيرة العرب، فسنجد الجاهليين يسمون
الثعبان الكبير شيطانًا، ويقال في بعض التفاسير إن هذا المعنى هو
المقصود من
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ
الشَّيَاطِينِ (الصافات: ٦٥). كذلك نجد في الإسلام
حديثًا منسوبًا للإمام «علي» يقول: «قلت: يا رسول الله
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ
(البقرة: ٣٧) فما هي الكلمات؟ قال: يا علي إن الله أهبط آدم
بالهند، وأهبط حواء بجدة، والحية بأصبهان، وإبليس بميسان، ولم يكن
في الجنة شيء أحسن من الحية والطاووس، وكان للحية قوائم كقوائم
البعير، فدخل إبليس في جوفها فغرَّ آدم وخدعه، فغضب الله على الحية
وألقى عنها قوائمها، وقال: جعلت رزقك التراب وجعلتك تمشين على
بطنك، لا رحم الله من رحمك.»
٣٧ وذلك مما يذكرنا بإبليس في العقائد القديمة كطاووس
للملائكة وكحية.
ويفصل لنا «النيسابوري» أكثر فيقول: «إن إبليس أراد أن يدخل
الجنة ليوسوس لآدم وحواء، فمنعه الخزنة من ذلك، فذهب إلى الطاووس،
وكان — سيد طيور الجنة — يتحايل عليه ليدخله الجنة، فدله على الحية
لأنها أقدر على ذلك، وكانت من خزان الجنة، وكانت صديقة لإبليس،
فأدخلته في فمها ومرت به على الخزانة وهم لا يعلمون فأدخلته
الجنة.»
ويصوِّر لنا «الثعلبي» العقاب الإلهي الذي نزل بالمتآمرين
الثلاثة «إبليس والطاووس والحية» بقوله: «إن الله أنزل إبليس
بالأبلة من أرض العراق وهي البصرة، وقيل ميشان، والحية بأصبهان،
والطاووس بأرض بابل، ومسخ صورة إبليس فصيَّره شيطانًا، بعد أن كان
ملاكًا، وعاقب الحية بخمسة أشياء، قطع قوائمها وأمشاها على بطنها،
ومسخ صورتها بعد أن كانت أحسن الدواب، وجعل غذاءها التراب، وجعلها
تموت كل سنة بالشتاء (لاحظ تفسيره لمسألة البيات الشتوي) وجعلها
عدوة لبني آدم وهم أعداؤها، حينما يرونها يقتلونها.»
٣٨
ولعله قد بات واضحًا في كل ما سردناه حتى الآن تأثر العقيدة
المسيحية والعبرية بالأساطير الرافدية القديمة، إذ لم تزل مصورات
الحية بقوائمها إلى اليوم قائمة، ونقوش عدة لإله الخير وهو يقطع
هذه القوائم، ونقوش أخرى تجمع في تصويرها ما بين الطاووس والحية
والتيس وإله الخير يصرعه، بل إن إيعاز الحية لآدم وحواء في القصص
الديني، يجد له صدًى وترجيعًا واضحًا في الآثار السومرية بعد أن
عثر الباحثون على نقش سومري يعود تاريخه إلى الألف الثالثة قبل
الميلاد (قبل ظهور اليهودية بقرون طويلة) يصوِّر ذكرًا وأنثى
يتناولان ثمرة من نخلة، وخلف حواء تدلت حية في وضع يوحي بالصورة
نفسها التي جاءت بعد ذلك في القصص الديني لتؤكد مقولة «العقاد»:
«إن التطور في الديانات محقق لا شك فيه.»