أضحية للذَّكر، قربان للأنثى ومدخل إلى جذور الدين
الاجتماعية
(١) التأسيس
يزعم كثر من الباحثين أنه عندما كان العقل يتخبط في ظلمات
بدائيته، بين ظواهر تصفو مرة، فتجزل العطاء، وتغضب مرة، فتدمر بلا
تمييز، اتجه الإنسان نحو هذه الظواهر ضارعًا متوسلًا، فألَّه
عناصرها، من أكبرها إلى أدناها، فعبد القمر والشمس وبقية أجرام
الفضاء. وجعل للخصب والجفاف والأنهار والينابيع والأمطار، والحيوان
النافع منه والضار، آلهة معنية بها. تعبَّد لبعضها خشية بطشها،
ولبعضها الآخر رجاء استمرار منافعها؛ ليضمن لنفسه الأمان والقوت،
ولأن حاجاته الأساسية تركزت في الطعام الذي يحصل عليه بصعوبة. فقد
تصور أن بإمكانه التدلف لهذه الآلهة بالقرابين، طمعًا في خيرها.
وبالأسلوب نفسه اتجه للآلهة الباطشة الغضوب تحايلًا عليها، ودرءًا
لعصفها أو زلزلتها، وإرعادًا لشر وحوشها وضواريها.
وأخلص الإنسان في تعبده، فلم يبخل بالعطاء، فكان لا يتذوق ثمار
محاصيله قبل أن يقدم لآلهته أول قطوفها، ولا ينتفع بحيوانه قبل أن
يقترب بأبكار نسله من أربابه، وتفانى في إخلاصه إلى المدى الذي
امتدت فيه يداه بالمدى إلى أعناق فلذات الأكباد؛ ليسيل دماء أطفاله
على مذابح الآلهة.
(٢) موقفان ورأي
وقد اتخذ أغلب الباحثين من مسألة القرابين أحد موقفين:
-
موقف يرى أن القربان في بداية أمره اقتصر على ثمار
النبات، ثم رأى الإنسان — زيادة في تملق آلهته — أن
يذبح لها من ماشيته، بحسبان اللحم أعلى من النبات
رتبة، ولما لم يكن متيسرًا له أن يحمل قربانه ليذبحه
عند عروش الآلهة، فقد عمد إلى ذبحه ثم حرقه لتتصاعد
مادته دخانًا، تشمه الآلهة فتهدأ نفوسها، وزيادة في
المغالاة، وإثباتًا لخلوص ضميره لآلهته، تحول نحو
الدماء البشرية، فأسال بعض دمائه — بجروح مقصودة — على
مذابح الآلهة، تقربًا وفداءً لنفسه ولأولاده
وممتلكاته، ثم تحول الأمر إلى ما يشبه النذور، فكان
يذبح واحدًا من أبنائه لآلهته، إن هي استجابت لرجائه
في أمر يرجوه، أو دفعًا لشر محتمل الحدوث.
-
وموقف آخر يرى عكس ذلك تمامًا، مسايرة لسنة تطور
العقل البشري الارتقائية؛ إذ يذهب إلى أن البداية كانت
بالضحايا البشرية، عندما كان الإنسان لا يزال يصارع
بدائيته الوحشية، وبالتدريج الارتقائي في تطور العقل
تحول نحو الحيوان يستبدله بالإنسان؛ ليقدمه لآلهته
مذبوحًا أو محروقًا فداء لنفسه أو للقبيلة أو الموطن،
وأحيانًا اكتفى بتقديم النبات في حال احتياجه
للحيوان.
لكننا نرى أن العقل البشري في تطوره، لم يكن خاضعًا — كبقية
مظاهر الطبيعة — للسنن والنواميس الفيزيائية البحتة، وإنما لعوامل
أخرى كثيرة، لعل أهمها الوسط البيئي والظروف الاجتماعية، بشعابها
السياسية والاقتصادية، فلم يسر على وتيرة واحدة في خط ارتقائي صاعد
باستمرار، نعم، نحن لا نشك في أن تطوره كان متصاعدًا، لكنه كان
تصاعدًا لولبيًّا تتخلله العثرات والطفرات والكبوات، وكذلك مسيرة
القربان، كانت أحيانًا تصعد، فيقتصر القربان على رمز نباتي أو
حيواني، وأحيانًا تهبط فيبذل الإنسان دمه ودم أبنائه.
فقد تجد في أقدم المراحل التاريخية من ذبحوا أباهم قربانًا —
فيما يزعم «سيجموند فرويد» — وبعدها تجد — منذ حوالي خمسة آلاف عام
فقط — تلك الترتيلة السومرية التي أوردها «ديورانت»،
١ وتقول: «الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان
حياته.» وبعدها بحوالي ثلاثة آلاف عام، نجد «عبد المطلب بن هاشم»
ينذر ابنه «عبد الله» ليقدم قربانًا على مذبح آلهته.
وفي قصة التكوين التوراتية، التي دونت قبل أربعة قرون من ميلاد
«المسيح» نجد «قابيل» يكتفي في قربانه لإلهه بأبكار فاكهته وأثمارها،
٢ وقريبًا من القرن الرابع قبل الميلاد، نجد النبي
اليهودي «أرميا» يقرر: أن اليهود «قد بنوا مرتفعات للبعل ليحرقوا
أولادهم بالنار، محرقات للبعل»،
٣ والمرتفعات هي المذابح، والمحرقات تعني قربانًا يذبح
ثم يحرق، أو يقدم مباشرة طعمة لنيران الإله «البعل»، والبعل إله
كنعاني يعني اسمه «السيد» ومع القرن الأول الميلادي، تمتد العقلية
البشرية إلى حد نزول الإله من السماء، لتقدمه على الصليب فداء
لخطايا البشر، كما تقرر العقيدة المسيحية.
وبينما اكتفى «قابيل» في قربانه بالنبات، نجد بعضنا اليوم يدشن
بيته أو سيارته الجديدة بالدم، وفي الوقت نفسه نجده مُقَتِّرَا في
قربانه بشدة، عندما يقول في أمثاله الدارجة: «ما يحتاجه البيت يحرم
على الجامع»! أي إن المسألة لم تكن أبدًا صعودًا دائمًا ولا هبوطًا
دائمًا، إنما كانت خليطًا من هذا وذاك، وأحيانًا جمع العصر الواحد
كل أنواع القرابين تبعًا لاختلاف الشعوب والأنظمة الاجتماعية،
وتبعًا لاختلاف العقول، وهذا ما ستجده واضحًا في المراحل التاريخية
العقائدية التالية.
(٣) القربان الحيواني
يُعَدُّ القربان الحيواني أكثر أنواع القرابين شيوعًا وقدمًا في
التاريخ العقائدي، ويعترف أكثر من باحث بأنهم لا يعرفون — على وجه
الدقة — السبب في التركيز الواضح على الخروف، في التقرب للإله
المعبود منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا مع ملاحظة أن التيوس تأخذ
المرتبة التالية بعد الخراف مباشرة في التعاسة وسوء الطالع، حيث
تعد — بعد الخراف — أفضل القرابين.
ويبدو أن الخراف قد ظلت قربانًا مفضلًا حتى دُونت أسفار الكتاب
المقدس، ففي سفر التكوين نطالع: «وكان هابيل راعيًا للغنم، وكان
قايين — قابيل إسلاميًّا — عاملًا في الأرض، وحدث من بعد أيام، أن
قايين قدَّم من أثمار الأرض قربانًا للرب، وقدم هابيل أيضًا من
أبكار غنمه ومن سمائها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى
قايين وقربانه لم ينظر.»
٤
ورغم أن الرب — حسب هذا النص — نظر إلى «هابيل» وقربانه، فإن هذا
القربان لم يفد «هابيل» ويفتديه، بل على العكس تمامًا، فقد كلفه
هذا القربان حياته، عندما استباح أخوه دمه، وفي السفر نفسه نجد
النص التالي: «وحدث أن الله امتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم …
خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب به إلى أرض المريا، وأصعده
هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك … فأخذ إبراهيم حطب
المحرقة ووضعه على إسحاق ابنه، وأخذ بيده النار والسكين … ثم مد
إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء
وقال … لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا؛ لأني الآن علمت
أنك خائف من الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه
ونظر، وإذا كبش وراءه … فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة
عوضًا عن ابنه.»
٥ وهذا إنما يعني وجود عادة التقرب إلى الآلهة بالضحايا
البشرية، سواء في عهد «إبراهيم»، أم في القرن الرابع ق.م. عندما
دُوِّن هذا السِّفر، رغم أن الشريعة السومرية قد شرعت إحلال الضأن
محل الإنسان في التقرب للآلهة، وذلك قبل ثلاثة آلاف عام تقريبًا من
هذا التاريخ.
وقد كانت قصة هذا الفداء معروفة بين العرب قبل الإسلام؛ إذ «عبد
المطلب بن هاشم» الأصل القرشي والعنصر العربي عمومًا إلى «إسماعيل
بن إبراهيم» من جاريته «هاجر» المصرية، لكن الذبيح هنا كان
«إسماعيل» وليس «إسحاق»، كما لو كان هناك تنافس قديم بين العرب
أبناء «إسماعيل» وبين اليهود أبناء «إسحاق»: أيهما كان المذبوح
(ولنلاحظ فخر النبي محمد
ﷺ بأنه ابن الذبيحين: عبد الله
أبيه، وإسماعيل الجد البعيد، ولنلاحظ أيضًا تأكيد القرآن الكريم
لقصة الذبح والتقرب للإله بالدماء البشرية في قصة إبراهيم النبي
وابنه إسماعيل عليهما السلام، إضافة لتأكيده أيضًا قصة هابيل
وقابيل التي وردت من قبل في الكتاب المقدس).
وبين مقدسات الجاهليين في الجاهلية حجر أسموه مقام إبراهيم،
وكانت قريش — حامية الكعبة في مكة — وبعض من تبعها، يرجعون شعائرهم
ومناسكهم في الحج إلى «إبراهيم»، وفي هذا يقول «جواد علي»: «ويلحق
بالحج تقديم العتائر — وهي التضحية في الإسلام — وكانت تذبح عند
الأنصاب، فتوزع على الحاضرين ليأكلوها جماعة، أو تعطى للأفراد، وقد
تترك لكواسر الجو وضواري البر، فلا يُصَد عنها إنسان ولا سبع.»
٦ كما كانت مثل هذه العتائر تنحر أيضًا عند عديد من
الكعبات الجاهلية، فكان يوم ٢٥ كانون أول، عيدًا سنويًّا للتضحية
في كعبة ذي الشرى، كما كان يتم النحر في بيت «اللات» بالطائف، وعلى
عرفات في بيت «العزى» … إلخ، ومع أن القرابين أو الأضاحي في هذه
البيوت كانت حيوانية مرتكزة على الخراف، إلا أن معبد «ذي غابة»
بوجه خاص عرف في الوقت نفسه الضحايا البشرية، بل ويرجح أكثر من
باحث أن يكون الوأد هو نوع من القرابين، وخاصة أنه لم يكن مقصورًا
على البنات — كما هو شائع — وإنما شمل الذكور أيضًا.
٧
وعندما جاء الإسلام شرع التضحية الحيوانية، وحرَّم الوأد، فألغى
من عالمه القرابين البشرية واستعاض عنها بالختان تأسيًا بالجد
إبراهيم وامتثالًا لسُّنته.
(٤) القربان البشري
«… وكل شيء تقريبًا يتطهر — حسب الناموس — بالدم، وبدون سفك دم،
لا تحصل مغفرة.»
٨ هذا ما يقوله الكتاب المقدس مؤكدًا ضرورة التضحية
بالدم، سواء أكان دم حيوان فداء للإنسان كما فعل «إبراهيم» النبي،
أم تيسًا كما شرع «موسى». «ويضع هارون يديه على رأس التيس … ليحمل
التيس عنه كل الذنوب.»
٩ أو سواء أكان هذا الدم دم إنسان «ونذر يفتاح نذرًا
للرب قائلًا: إن دفعت بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرج للقائي عند
رجوعي بالسلامة من عند بني عمون، يكون للرب، وأصعده محرقة … ثم أتى
يفتاح إلى المصفاة إلى بيته، وإذا بابنته خارجة للقائه، وهي
وحيدته، ولم يكن له ابن ولا ابنة غيرها، ففعل بها نذره الذي نذر.»
١٠ كذلك نجد النبي «أرميا» يؤكد في سفره أن بني إسرائيل
كانوا يقدمون أطفالهم قرابين تذبح وتحرق على مذبح الإله «بعل مولك»،
١١ أي السيد الملك.
ويلوح أن مبدأ استرضاء الآلهة بالدم كان مسألة عامة عند شعوب
الشرق القديمة، فيؤكد «ديورانت» أنه في الاحتفالات السومرية
الدينية كان الكهنة يضربون أنفسهم حتى تلطخ دماؤهم المذبح، وبعضهم
كان يفتدي نفسه بإخصاء نفسه بنفسه.
١٢ ويؤكد «عبد الحميد زايد» أن الفينيقيين قد جروا على
شرعة التضحية بالطفل البكر.
١٣ فقد وجد الآثاريون عظام أطفال تحت أسس المنازل.
١٤ وروى «فيلون» أنهم كانوا يضحون بأعز أبنائهم في حالة
وقوع الأخطار إبعادًا لشرها، وحكى «دويدور الصقلي» قصة ضُحِّي فيها
بمائتي طفل في صقلية،
١٥ كما كشفت حفائر «كفر الجرة» الكنعانية، عن صندوق يضم
عظام أطفال تحت تأسيس عمود من سور، كتضحية تأسيس.
١٦ وفي قرطاج وجدت عظام أطفال لم تزد أعمارهم على ستة
أشهر، ويوجد في متحف اللوفر أحد هذه الصناديق حتى الآن.
١٧ ومن القصص الشهيرة قصة «ميشا» ملك موآب، الذي ضحى
بابنه الأكبر ليفك الحصار عن مدينته، ولما أجاب ربه رجاءه، ذبح
سبعة آلاف يهودي، شكرًا لله على نعمائه.
١٨
وقد كان للإله «بعل مولك» غرام خاص بدماء الصغار، وفي يوم عيده،
كان الناس يأخذون زينتهم وسط الطبول والمزامير، التي كانت تطغى على
صراخ أطفالهم، وهم يحترقون على مذبحه. وقد حدث في قرطاج أثناء
حصارها سنة ٣٠٧ قبل الميلاد، أن أُحرق على مذبح الإله الدموي مائتا
غلام من أبناء أرقى أسرها،
١٩ وإن كان من بين هؤلاء بعض العقلاء، الذين كانوا يكتفون
بقص غلفة ذكر الطفل وإلقامها نيران الإله.
٢٠
(٥) القربان الملكي
يقول «أنيس فريحة» إن بني إسرائيل كثيرًا ما كانوا ينظرون إلى
ملوكهم على أنهم المسئولون عن الجفاف أو القحط أو النوازل
والمصائب؛ لذلك توجهت أضحياتهم في وقت من الأوقات نحو التضحية
بالملوك …
٢١ ولو راجعنا الكتاب المقدس سنجد «داود» الملك النبي
يقوم بذبح أولاد سلفه «الملك شاءول» السبعة على الصلبان للإله
«يهوه»، فيستجيب الإله «يهوه»، ويكتفي بالذبائح السبع، ويرفع
القحط، وينزل الغيث.
٢٢ ولو عدنا إلى بدايات البدائيين نجدهم يمارسون السحر
ابتهالًا لقوى الطبيعة من أجل تأمين القوت، فتعمد القبيلة إلى قتل
ملكها أو شيخها باعتباره أبًا للجميع، وعلى رأسه يجب أن تقع كل
الأخطاء والأوزار، فيتيسر معاشها وتزيد غلَّاتها، وتخصب أرضها.
٢٣
ويلقي «روبرتسون» مزيدًا من الضوء على المسألة، فيقول: إنه كانت
لدى كثير من الشعوب القديمة عادة دينية سنوية، تقام زمن الاعتدال
الربيعي، ابتغاء وفرة المحصول، يقدم فيها للآلهة قربان هو رمز لإله
الإنبات، فكانوا يضحون أول الأمر بصلب الملك، وبعد موته يأكلون
بضعًا من لحمه، وينثرون قليلًا من دمه، لتكسبهم بعض قدسيته، ثم
ينشرون البقية في الأرض المهيأة للزرع. ومع مرور الزمن استعاضوا عن
الملك بالاقتراع على المضحى به، ثم استبدلوا بالقرعة مجرمًا
محكومًا عليه بالموت. وآخر الأمر استبدلوا بكل هذا حيوانًا، وحبذا
لو كان خروفًا أو تيسًا، وعند تعسر الأحوال — غالبًا ما — كانوا
يكتفون بفطيرة في صورة إنسان، أو بفطيرة مرسوم عليها إنسان، أو
صليب رمزًا للإنسان المفترض أن يضحى به صلبًا، وتحول ذلك تدريجيًّا
إلى نوع من العشاء الرباني يؤكل فيه الخبز رمزًا للجسد، وتعاقر فيه
الخمر رمزًا للدم.
٢٤
(٦) القرباني الإلهي
شاعت في بلاد الشرق القديم، قبل فتوح «الإسكندر»، وسيطرة
الإمبراطورية الرومانية، عقائد مختلفة المواطن، لكنها تشابهت — حتى
في دقائقها — اصطلح على تسميتها «ديانات الأسرار».
ومن المعروف أن «المسيح» — في العقيدة المسيحية التي نشأت في قلب
منطقة ديانات الأسرار — كان بدوره إلهًا هبط ليحمل عن البشر آثامهم
وخطاياهم فيموت على الصليب، ويقوم من الموت مانحًا لمن يؤمن بموته
وقيامته الخلود في ملكوته السماوي، بعد أن يرحلوا عن الدنيا، فكان
أكبر قربان في تاريخ القرابين. وهذا ما تسجله الأناجيل بقولها:
«الله بين محبته لنا ونحن بعد خطاة، ومات المسيح لأجلنا وقد صولحنا
مع الله بموت ابنه»،
٢٥ وأن المسيح الرب «مات من أجل خطايانا، وأنه دفن، وأنه
قام في اليوم الثالث»،
٢٦ وأنه قال: «مَن يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية».
٢٧ ويكون ذلك عن طريق تناول قربان مقدس من الفطير، يرسم
عليه «المسيح» أو الصليب — رمزًا له — في عيد القيامة المجيد (عيد
الفصح المسيحي). والغريب أن موعده المسيحي هو نفسه موعد قيامة
الآلهة المذكورة آنفًا! ويشرب المؤمنون في هذا اليوم جرعات من
النبيذ رمزًا لدمه، ويفسر «بطرس» الرسول ذلك للمؤمنين بقوله: «لكي
تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية»؛
٢٨ وذلك لأنه كما يقول زميله «بولس» الرسول: «بدون دم
وسفك دم لا تحصل مغفرة»،
٢٩ إلا أن المسيحية اختارت لنفسها الخروف كقربان حيواني —
وقد سبق أن بحثنا ذلك في موضوع الشيطان — دون التيس؛ ولذلك توضح
الأناجيل أن الرب «المسيح» كان هو القربان والكبش الأعظم لأنه «حمل الله»؛
٣٠ ولأنه «الخروف … رب الأرباب وملك الملوك»،
٣١ وبالتأكيد هو الخروف الذي ذبح.
٣٢
وعندما أعدت التأمل في هذا الموضوع قبل نشره للمرة الثانية في
هذا الكتاب وضعت يدي على عدة مسائل وآفاق، أعتقد — على حد ما وقع
بيدي من بحوث — أني غير مسبوق إليها، لا في المعالجة، ولا في
النتائج، وفي البداية أرَّقتني عدة مسائل، لم تبدُ لي متسقة أو
مقنعة، ولم أستسغ قبولها على علاتها، ورغم أن طرحي السابق — الذي
اقترحت فيه أن تكون مسيرة القربان قد اتخذت خطها الارتقائي عبر سلم
متذبذب ما بين التصاعد وبين الكبوات — كان مقنعًا، إلا أنه لم يفسر
لي هذه المسائل تفسيرًا كافيًا، وعلى سبيل المثال: لماذا اتخذت
العلاقة بين الإنسان وربه شكل المقايضة، يعطيها القربان ثمنًا
لمقابل يتمثل في زيادة المحصول أو النسل أو الأمان أو ما أشبه،
خاصة إذا كانت هذه الآلهة تتمثل في ظواهر الطبيعة؟ إن الملاحظ
للأساطير المدونة، وفي نقوش ما قبل اكتشاف الكتابة، يجد هذه الآلهة
الكونية تتصف بصفات إنسانية، فتتزوج وتتناسل وتغضب وتحزن وتفرح،
فهل كان التقرب هنا للجرم الكوني أم للإنساني المتمثل في هذا
الجرم؟
وقد قدم بعض الباحثين تفسيرًا للعلاقة بين الإنسان وظواهر
الطبيعة المتغشاة بالأنسنة، فأرجعوها إلى ميل البدائي إلى صبغ
الكون بالأرواحية spirits،
والتعامل مع كيانات الطبيعة الجامدة باعتبارها كيانات حية، لكنني
لوجه الحق، أخذت أميل إلى مذهب آخر يذهب إلى أن بداية التقديس
والتأليه كانت تجاه الوالدين، وهو منطق يتسق مع طبيعة الأمور
الواقعة الملاحظة. فالأقرب إلى حس الحدث البدائي ووجدانه هو الأم؛
فالأب كمصدر قوة وإرادة، ومصدر حماية ورعاية، ومصدر أمان وغذاء،
ولا أتصور أن هذا الحدث البدائي يتجه للأرض أو القمر أو الشمس
بمطالبه، قبل أن يتوجه بها إلى الوالدين، خاصة أن الأساطير القديمة
قد اعتبرت هذه الكيانات الكونية، إما أنها أم كبرى تمثلوها في
الأرض بداية، وإما أنها الأب الأول وتمثلوها في السماء عامة (فالأب
فوق تمثله السماء، والأم تحت تمثلها الأرض)، ولم تزل أغلب الديانات
تنادي ربها حتى اليوم بالأب الذي في السماء، ولم يزل ممثله على
الأرض هو البابا؟ ويبدو أن هناك أحداثًا وظروفًا قد جدت، أدت إلى
تلبيس ظواهر الطبيعة الظاهرة والمؤثرة في حياة الناس بالآباء أو
الأمهات السالفين، ومن الطبيعي أن تختلف هذه الظواهر المؤثرة من
مجتمع لآخر باختلاف البيئات، فتختلف رموز السالفين في ظواهر
الطبيعة.
ويفسر الباحثون استمرار تقديس الأم أو الأب بعد موته، بأن
الإنسان البدائي لم يكن لديه تفسير واضح لظاهرة الأحلام، التي كانت
عالمًا هلاميًّا غامضًا يحياه مختلطًا بالعالم الحقيقي، كالطفل
الذي لا يستطيع أن يفرق بين الحقيقة والمنام، كثيرًا ما كان يرى
السلف الراحل في حلمه حيًّا يعايشه ويفعل ويؤثر؛ مما أدى به إلى
تصور أن هذا السلف لم يزل موجودًا وإن كان مختفيًا عنه، لكن أين؟
«وأين؟» هذه هي التي قادته بعد ذلك إلى تصوره حالًّا في حيوان أو
زهرة أو شجرة، وهي المرحلة التي يسميها الباحثون بالمرحلة
الطوطمية (وأصل كلمة طوطم من أوطوطيمان من العهد الكونكي، وتعني
هو من قرابتي)، ثم تلا ذلك تجمع العشائر البدائية في قبائل، واتصال
هذه القبائل بعضها ببعض وتكوين مجتمع أكبر، وفي هذه المرحلة الأكثر
اتساعًا ورحابة لم يعد ممكنًا فرض روح السلف المعبود، الحالَّة في
حيوان طوطمي مقدس لدى قبيلة أخرى تقدس طوطمًا آخر، لكن المنطقي أن
يتم تمثيل هذا السلف في ظاهرة ترضي جميع الأطراف المتجاورة أو
المتحدة، فارتفع العقل بسلفه المعبود عن التمثل في حيوان على الأرض
إلى تمثله في مظهر كوني أكبر كالأرض أو السماء بأجرامها، ومن هنا
يتضح لماذا تصور الإنسان معبوده على شبهه ومثاله، فهذا المعبود لم
يكن سوى سلفه الغابر، وهنا بالضبط ما يهم موضوعنا.
فكما كان الإنسان يتعامل مع الإنسان، استمر هذا التعامل بعد أن
رحل الأسلاف وحلُّوا في طواطم أو ظواهر طبيعية، أقصد ظاهرة
المقايضة أو القرابين، فكان طبيعيًّا، أو يقوم الحدث البدائي بعد
أن يدخل مرحلة الشباب بكسب رضا الأم والأب المسيطر، عن طريق التقرب
إليه بما يجمع من نبات أو يقنص من حيوان، كسبًا للرضى، وضمانًا
لاستمرار الحماية العشائرية، ويدعم هذا المذهب ما وجدته عند
الآثاري كريمر في إشارته إلى اعتقادات السومريين أن الإنسان قد خلق
من أجل عبادة الآلهة وخدمتها بتزويدها بالطعام والشراب للتفرغ
لأعمالها الإلهية،
٣٣ أو ما وجدته في تلك الترتيلة السومرية التي
تقول:
عندما تزوجت الإلهات الأم
وعندما توزعت الإلهات الأم
بين السماء والأرض
وعندما ولدت الإلهات الأم
عند ذلك كتب العمل
الآلهة العظام تراقب العمل
والأبناء يحملون السلال.
٣٤
حقيقة إني أرى في هذه الترتيلة حفرية رائعة، نقش فيها ما حدث في
الحقب القديمة. فالإلهات هنا من الأمهات (عندما تزوجت الإلهات
الأم) اللاتي توزعن بعد ذلك ما بين الكونيات الظاهرة (وعندما توزعت
الإلهات الأم بين السماء والأرض)، فأصحبت الأرض هي الأم، ثم ارتفع
بها إلى السماء لتتمثل في كوكب الزهرة (الإلهة إينانا في السومرية
وعشتار في اللغات السامية). ولك أن تلاحظ أن هذه القدسية تمت
«عندما ولدت الإلهات الأم»، بينما أصبحت مهمة الأبناء هي العمل
لتتفرغ الأم الإلهة لإدارة شئون العشيرة، وليس بغريب مع ما ذهبنا
إليه أن نجد السومريين ينادون هذه الإلهة بالنداء «ماما
Mama» و«مامي
Mami» و«أما
Ama».
٣٥
وإذا كان الإنسان في الأساطير قد ولد أو «خلق» ليعبد الآلهة
ويقدم لها طعامها وشرابها ويزرع أرضها، فأي آلهة هذه التي تحتاج
طعامًا وشرابًا بين الكونيات؟ إن الأوفق والأقرب للمنطق القول إن
الآلهة هنا كانت هي الأم أو الأب.
ولا شك أن قول تلك الأساطير: إن وجود الآلهة قد سبق ميلاد الكون
وصياغته بشكله الحالي
٣٦ يؤكد مقولتنا في أن التأليه بدأ بالوالدين، وسبق
دمجهما في الظواهر الكونية وتأليهها؛ لأن تعبيرهم «الكون» لم يكن
يعني سوى الآلهة نفسها، فهو
Me
ولاحظ هنا ميم الأمومة مرة أخرى.
إلا أن إشارة الأساطير السومرية (في أغلبها) إلى أن أول الآلهة
كان إلهة أنثى هي الأم، يعني أن هذه المنطقة كانت تحفظ في ذاكرتها
بقايا العصر الأمومي، وهذا يستدعي التساؤل عن نوع القرابين التي
كانت مفترضًا تقديمها للإلهة الأم؟ وهذا بدوره يستدعي عدة أسئلة
أخرى: هل كان هناك فارق واضح بين أنواع القرابين التي كانت تقدم
للإلهة الأم، وبين تلك التي كانت تقدم لإله أب؟ وفي هذه الحالة،
وحتى نمسك بخيوط تطور طقس القربان لا بد أن نحاول الإجابة على سؤال
أهم من كل هذا وهو: أيهما سبق الآخر: المجتمع الأمومي أم المجتمع
الأبوي؟ لم أجد فيما وقع بين يدي من مصادر أو بحوث ما يضع هذه
التفرقة بين قرابين خاصة بالمجتمع الأمومي وقرابين خاصة بالمجتمع
الأبوي، وكل ما وجدت رتلًا ضخمًا يتكلم عن القرابين وخطها التطوري،
منها ما يخلط الحابل بالنابل، ومنها ما يؤكد تطور هذا الطقس ابتداء
من التقرب بالنبات صعودًا إلى الحيوان حتى الإنسان، ومنها ما يعكس
الوضع فيبدأ بالقربان الإنسان ويرتقي، فيستبدل قرابينه الإنسانية
بالحيوان أو النبات. وهنا أقترح — بناء على ما بين يدي من شواهد —
أن طقس القربان في النظام الأمومي، قد اتخذ في أول أمره شكلًا
خاصًّا يتفق مع طبيعة النظام، ثم تبع ذلك اختلاط ناتج عن تداخل
المجتمعين إبان مرحلة الانتقال إلى سيادة الذكر النهائية، أدى إلى
خلط مماثل في البحوث التي تناولت هذه المرحلة.
وحتى أكون واضحًا، ورغم تشابك المسألة واختلاطها الشديد، سأبدأ
بمحاولة تمييز المجتمعات الأمومية عن المجتمعات الأبوية، بميزات
أكثر من كون هذا كانت السيادة فيه للذكور، أو كون ذاك كانت السيادة
فيه للنساء، ولنقر مبدئيًّا أنه من غير المنطق أن يوجد مجتمع كل
آلهته إناث ويسوده بشر ذكور أو العكس.
لقد حاول الباحثون الإجابة على السؤال أيهما كان أولًا: النظام
الأمومي أم الأبوي؟ فافترض «داروين» أن السيادة المطلقة كانت في
البداية للذكر (المجتمع الأبوي)، وأكمل «أتكسون» فقال: إنه قد حدث
أن ثار الأبناء على الأب المتسلط القاسي المتوحش فقتلوه وافترسوه
معًا، ويستطرد «روبرتسون سميث» فيقول: إنه بعد ذلك مرت مرحلة
انتقالية ظهر فيها النظام الأمومي، ثم يسلم «فرويد» بكل ذلك ويقول:
إن الأوضاع عادت بعد ذلك إلى سابق عهدها، وساد الذكر مرة أخرى.
٣٧
هذا بينما تلخص الأنثروبولوجيا «جيكيتا
هوكس
Jaquetta Hawkes
» اتجاه معظم الباحثين، وترتب المسألة بشكل
أكثر إقناعًا، فتقول: إن أقدم تماثيل شكَّلها الإنسان للعبادة يعود
تاريخها إلى حوالي خمس عشرة ألف سنة (أي في العصر الحجري القديم)،
وهي تماثيل لإناث ضخمت فيها الأعضاء المثيرة جنسيًّا، أسمتها
«هوكس» تماثيل «أفروديت الولادة»، وهذا يعني أن العصر الأمومي كان
الأسبق. وتبع ذلك عصر اتضحت فيه رسوم تتسم بالذكورة، تلاها العودة
للإلهات مع اكتشاف الزراعة في العصر الحجري الحديث، وتؤكد «هوكس»
أمرًا منطقيًّا تمامًا، هو أن النساء هن مكتشفات الزراعة، وقد حدث
ذلك إبان جمعهن للثمار في منطقة مستقرة مع أطفالهن، وملاحظتهن
بالصدفة لنمو الثمار المتساقطة على الأرض مرة تلو أخرى، في وقت كان
الرجال فيه يخرجون للقنص، وعند عودتهم يكون كل الرجال لكل النساء
فينسب الأطفال إلى الأم دون الأب. ويعد اكتشافها للزراعة وإجادتها
لهذا العمل رغم بدائيته النسبية، أساسًا اقتصاديًّا ساعد على تثبيت
سيادتها، ثم تلا ذلك في نهاية العصر الحجري الحديث، أي منذ حوالي
خمسة آلاف سنة تقريبًا، سيادة الذكور النهائية، ولاحظت «هوكس» أن
ذلك قد اقترن بنشأة المدن المستقرة الكبيرة.
٣٨
وإن اكتشاف المرأة للزراعة نقطة مهمة تمامًا وضعتها الصدفة ضمن
رصيدها للسيادة، ومع هذه النقطة أقف بقارئي هنيهة لأضع أمامه
اقتراحًا يحل مسألة أيهما كان أولًا: النظام الأمومي أم الأبوي؟
أبدؤها برفض هذا السؤال من أساسه، فالخطأ الذي أدى إلى إجابات
متضاربة هو السؤال نفسه، ففي رأيي أنه لم يكن هناك قبل أو بعد، ولا
سابق أو لاحق، بل أزعم — وأرجو ألا أكون مخطئًا — أن اختلاف
النظامين هو اختلاف بين مجتمعين، هو اختلاف مكاني وليس اختلافًا
زمنيًّا، فإذا كانت المرأة هي مكتشفة الزراعة في مجتمع أمومي، فلا
بد أن يكون النظام الأمومي قد ارتبط بالوسط الزراعي، وسيكون الشق
الآخر الذي يتبادر للذهن فورًا هو: أن النظام الأبوي قد نشأ في وسط
رعوي بدوي.
(٧) تدعيم مذهبنا
تقول «ميد
Mead» مقولة اعتيادية
تمامًا، وهي أن النساء بفضل قدرتهن على الإنجاب، ولأن مسألة
الولادة كانت في عيني الإنسان البدائي مثيرة للدهشة والعجب (وربما
الانبهار المؤدي للتقديس)؛ مما أدى إلى الاعتقاد بأن النساء قابضات
على أسرار الحياة.
٣٩
ونضيف إلى «ميد»: إذا كانت الولادة في مجتمع أمومي يأتي فيه أي
رجل أية أنثى، فإن ذلك لا يعطي للذكر فرصة ملاحظة أثره أو دوره في
عملية الإنجاب، إضافة إلى أن الفترة الطويلة الفاصلة بين الجماع
وبين الولادة، قد تخفى بسهولة عن عين الإنسان البدائي غير المدققة
للعلاقة بين الأمرين، كما أن معيشة الأولاد والبنات معًا لدى
البدائيين دون عائق قبل المراهقة، فيعرفون الجماع الذي لا يتسبب
عنه ولادة، كل هذا أدى إلى عدم معرفتهم للعلاقة بين المضاجعة
والتناسل؛ ومِن ثَمَّ عدم التفكير بالمرة أن للذكر دورًا في عملية
الميلاد، بل إن هناك مَن يعتقدون حتى اليوم في بعض المجتمعات
المتخلفة التي تحيا حياة شبه بدائية، أنه يمكن للمرأة الحمل دون
رجل يأتيها، بل وتدخل هذه الفكرة الخاطئة تمامًا كأساس في بعض
الديانات الكبرى القائمة إلى الآن؛ لذلك كان طبيعيًّا أن يتصور
الإنسان البدائي أن الأنثى وحدها هي الكائن الوحيد المسئول عن منح
الحياة.
هذا مع الأخذ بالحسبان ما أشارت إليه «هوكس» عن أن أول تماثيل
معبودة وجدت كانت لنساء ولَّادات، إضافة إلى أسطورة «الشعير
والنعجة» السومرية، التي تقول: إن البشر قد خرجوا من الأرض الأم
كالزرع والحشيش والدود.
٤٠ وهذا (خروج الزرع من الأرض، وخروج الوليد من بطن الأم)
هو ما حدا بالعقل إلى تأليه الأرض واعتبارها الأم الأولى الكبرى
التي أنجبت الزرع والحيوان والإنسان، وناداها ماما ومامي، ولا ننسى
أن اكتشاف المرأة للزراعة ومفاجأتها للرجال القناصين بهذه القدرة
العجيبة، زاد من ارتباطها بالأرض ومن رصيدها الخطير (منح الحياة أو
إنجاب الحياة أو إنتاج الحياة)، حتى أصبح ذلك اختصاصًا أنثويًّا
بحتًا، ومن الطبيعي والمنطقي تمامًا ألا يحدث هذا إلا في وسط زراعي
مائة بالمائة.
وللمزيد من أجل تدعيم رؤيانا، نحث الخطى نحو عهد قريب لا يزيد
على خمسة آلاف عام مضت، إلى منطقة الهلال الخصيب (الرافدين، سوريا،
لبنان، فلسطين)، حيث قامت هناك كيانات زراعية انتهت بسيطرة الرعاة
المهاجرين من الجنس السامي، فيما يُسَمَّى بالهجرات السامية، التي
بدأت في هيئة تغلغل تدريجي أدى إلى سيادتهم النهائية على المنطقة،
فحل «الأكاديون» الرعاة محل «السومريين» المزارعين، وانتهت بقية
الهلال الخصيب إلى الوقوع تحت سيطرة «الكنعانيين» وأقربائهم. وقد
احتفظت لنا هذه الحضارات بسجل واضح في ملاحمها الأسطورية، لما يمكن
أن نعتبره صدًى لواقع حقيقي حدث فعلًا يتناغم مع رؤيتنا تناغمًا
بيِّنًا.
ففي بلاد «سومر» الرافدية، حيث اكتُشفت الكتابة المسمارية، سجل
يؤكد أنه حتى قيام الحضارة السومرية في المنطقة الزراعية الخصبة،
كانت السيادة للإلهة الولود المخصبة «إينانا» صاحبة العشاق
الكثيرين، وهي في الأساطير لا تهتم بعشاقها الذكور، بل كانت
أحيانًا تفتك بهم، وهم من البشر والحيوان على حد سواء؛ مما يعطي
انطباعًا أنها كانت رمزًا للأنثى الولود عمومًا، وكان همها الوحيد
هو الإشباع الجنسي الشبق الحاد.
وقد فسر الباحثون ذلك بأنه رمز الأرض التي يجب تخصيبها باستمرار
لتعطي حياة جديدة مستمرة (ولا ننسى أننا انتقلنا هنا عبر مرحلة
طويلة اجتزنا فيها عشرة آلاف عام، اتضح فيها للرجل دوره في
الإخصاب)، وحتى تقدم لنا الأسطورة تفسيرًا لفصلي الخصب والجدب في
طبيعة الأرض، قالت: إن «إينانا» كانت تهبط إلى باطن الأرض، حيث
عالم الموتى في وقت الاعتدال الخريفي، حيث يبدأ فصل الجدب على
الأرض بغيابها، ثم تعود مع الاعتدال الربيعي إلى سطح الأرض، لتبدأ
عملية الإخصاب والتوالد فيعود للأرض خصبها.
وليس بغريب (مع رؤيانا) أن يتم تعديل هذه الأسطورة، بعد تغلغل
الرعاة الأكاديين في بلاد سومر الزراعية، وسيطرتهم عليها وقيام
الدولة الأكادية، ليتحول اسم «إينانا» إلى «عشتار، وعشتروت، من
العشرة والمعاشرة والتعشير»، لكنها لا تصبح السيدة المطلقة
المسئولة عن الخصب، إنما يظهر هنا سيد جديد، كان في الأساطير
السومرية مجرد ذَكَر خامل الذَّكر ضمن مجموعة عشاقها الكثيرين.
وكان يسمى «دوموزي أبسو»؛ ليرتفع ويصبح هو سبب الخصب الأول، ويحمل
اسم «تموز راعي الخراف الطيب» ويصبح هو المسئول الأول عن الخصب
والإنجاب واستمرار الحياة، ويصبح هو الذي يموت في فصل الجدب ويهبط
إلى عالم الموتى السفلي، ويعود في بداية فصل الخصب فيعود للأرض
خصبها، دون أن يرتبط ذلك بأي منطق، فكيف يتأتى ذلك لذكر؟ اللهم إلا
منطق السيطرة الرعوية، منطق مجتمع يأخذ بالنظام الأبوي في نظمه
الاجتماعية، ساد فأراد تسويد آلهته.
وكان المصير، مصير إلهات بقية الهلال الخصيب نفسه، «عناة» أو
«إناث» الأنثى الأولى، التي توارت في الظل بعد السيطرة البدوية
الكنعانية؛ لتصبح تابعة لسيد مطلق هو الإله «بعل» وبعلها سيدها
الذي أخذ دورها ليقوم بقصة الموت والقيام من الموت، ممثلًا دور
الخصب بدلًا منه، أما الإلهة الأولى الكبرى التي ورد ذكرها في
الأساطير الرافدية باسم «تيامات Tiamat» فقد تحولت في الأساطير الأكادية بعد
سيطرة الرعاة على المنطقة مباشرة، في أسطورة «إينوما إيليش» إلى
إلهة شريرة، سميت «تهامة» (ولاحظ أن تهامة علم على سهل بأرض الرعاة
الحجازيين)، قام إله الدولة الذكر القوي «مردوخ» بقتلها وتمزيقها،
إلا أن الأسطورة رغم ذلك احتفظت باعتراف ضمني بأهمية الإلهة الأنثى
للحياة، فقالت إن «مردوخ» قد صنع من جسمها الممزق الكون
وكائناته.
ولا يفوتنا ملاحظة خاصة حول أسطورة «الشعيرة والنعجة» السومرية
التي تقول: إن النعجة والشعيرة كانت في موطن يسمى «التل المقدس»،
وأن الإله «إن كي» أو «إينكي» (وترى أنه إله زراعي أصيل في سومر؛
لأن كلمة «آن» تعني «إله» و«كي» أو «جي» تعني الأرض، والأرض كانت
تعني أرض سومر) قد طلب من الإله «أنليل» أم «أنل إيل» (وفي
اعتقادنا أنه إله رعوي وافد يدل عليه اسم إيل، وهو اللفظ الرعوي
المألوف في المجتمعات السامية للدلالة على المعبود)، طلب منه تحقيق
رغبة تتمثل في نقل النعجة والشعير من «التل المقدس» إلى «الأرض»
(واتفقنا أن جي أو كي أو الأرض تعني بلاد سومر الخصبة)، والنص لا
يحتاج لأي تعليق، فالنعجة والشعير الرعويان، يتنقلان هنا من «تل»
إلى «أرض خصبة» رمزًا لدخول الرعاة بلاد الرافدين الخصبة التي
حاولت الأسطورة تصويره، على أنه قد تم برغبة أهل سومر أنفسهم أو
بطلب من إلههم «أن كي» يرجو فيه الإله الرعوي «أنل إيل»، وقد لاحظ
الباحث «فوزي رشيد» اختلاف أسطورة الشعير والنعجة في صياغتها
ومضمونها عن بقية المآثر السومرية ونسقها المعتاد؛ مما أدى به إلى
افتراض قدومها من خارج بلاد سومر
٤١ ثم افترض أن هذا المكان هو الجزء الشمالي من الرافدين
حيث بلاد آشور.
هذا بإيجاز شديد ما حفظه لنا التاريخ محمولًا في ذاكرة البشر؛
لتسجله لنا هذه الملاحم الأسطورية مع اكتشاف الكتابة، وهو ما يكاد
يكون توثيقًا لما طرحناه من قبل.
وفي تصوري أن التغلغل البطيء للساميين الرعاة المهاجرين من مناطق
جبلية وصحراوية إلى الهلال الخصيب، قد استغرق على الأقل خمسة آلاف
عام قبل ذلك، تم خلالها اتحاد بين المجتمعين الأبوي الذكري،
والزراعي الأمومي، كما أن المنطق يذهب بنا إلى الاعتراف للرعاة
بأنهم أول من دجن الحيوان، واكتسبوا في ذلك مهارة وحذقًا، ويتفق
ذلك مع حاجتهم للغذاء الحيواني: لحم ولبن، وللكساء من الوبر (لعدم
توافر النبات)، مقابل تأخر الزراعيين في ذلك لعدم الحاجة، وعندما
تغلغل الرعاة في المجتمع الزراعي، استخدموا مهارتهم في تدجين دواب
أكبر لخدمة العمل الزراعي؛ مما أدى بهم في النهاية — كمجتمع أبوي —
إلى سلب النساء مكانتهن ووضعهن الاقتصادي المستند إلى
الزراعة.
ولم يزل لدينا مزيد من الشواهد لدعم رؤيانا.
(٨) القربان الأمومي
«القربان لغة من قرَّب وقرب ويقترب، فالقربان وسيلة تقرُّب
واقتراب ومشاركة وإذابة للمسافات بين العابد والمعبود»، فأي قربان
كان يمكن تقديمه للأم الأولى المخصبة الشبقة الولود المنجبة مانحة
الحياة؟ في مجتمع أمومي كان فيه الجميع للجميع، النساء للرجال
والرجال للنساء.
حاولت البحث جاهدًا عن إشارات لقرابين حية كانت تقدم للإلهات
الإناث، وما وجدته إما إشارات خاطفة لوجود بقايا نيران وعظام
حيوانات متفحمة بجوار تماثيل فينوس الولَّادة في العصر الحجري القديم؛
٤٢ وهو ما لا يمكن الاعتماد عليه — بمفرده فقط — للقطع،
أو حتى للاحتمال القوي بأن الإلهات الإناث في العصر الحجري القديم
قد عرفن القرابين الحية، وإما إشارات لقرابين حية حيوانية وبشرية
قدمت لعشتاروت الرافدية، وهي بدورها مما لا يمكن الاعتداد به؛
لأنها أولًا وردت في مصادر تجميعية لا يمكن الوثوق بها تمامًا،
ولأنها ثانيًا لا يمكن اعتبارها دليلًا على أصالة هذه القرابين
المقدمة للإلهات النساء؛ لأنها «عشتروت» في عصر قريب بالنسبة
للعبادة الأمومية القديمة، وهو عصر تداخل فيه المجتمع الرعوي
الذكري مع المجتمع الزراعي الأمومي، وساد فيه الغزاة الرعاة الذكور
تمامًا، كما ساد فيه الآلهة الذكور أيضًا إلى جانب الإلهات الإناث؛
مما يعطينا إيحاءً قويًّا بأن الضحايا الحيوانية أو البشرية
كقرابين للآلهة، قد أتت وافدة مع الرعاة إلى المجتمعات الزراعية،
وأن القربان الحي قد عُرف في بداية أمره في المجتمعات الرعوية
الأبوية، وارتبط بالآلهة الذكور ثم بعد اندماج المجتمعين عرفت
الإلهات الإناث هذا النوع من القرابين.
ولعل ندرة الإشارات إلى قرابين حية قدمت لإلهات إناث، مقابل ما
تمتلئ به المصادر من أنواع القرابين الحية التي كانت تقدم لآلهة
ذكور، أول العلامات الشاهدة على ما طرحناه، إضافة إلى شواهد أخرى
كثيرة سيأتي بيانها في حينه، بعد أن نحاول الإجابة على السؤال
السالف: أي قربان كان يليق بالأم المخصبة الشبقة الولود المنجبة
مانحة الحياة؟
وأظنني وجدت الإجابة في طقس مهم ومثير، كان يمارس في المناسبات
الدينية للإلهات الإناث، في عصر المدن والدول الكبرى في منطقة
الهلال الخصيب، أي بعد اختلاط النظامين الأبوي والأمومي، واستتباب
السيادة الذكرية على الأرض، مع عدم خلوصها للذكر تمامًا في السماء،
حيث كان للإلهات الإناث وجودهن الباقي، وأعيادهن واحتفالاتهن. «مع
ملاحظة أن استمرار الو جود الأنثوي في العبادة مستمر حتى الآن في
العقيدة المسيحية التي تعتبر مريم أم الإله المسيح من أبيه
السماوي، وهذه الأم إلهة تستوجب الاحتفال والعبادة. ولعل في صيام
العذراء المخصص لها دون بقية أقانيم المسيحية الثلاثة، الذي يصوم
فيه المسيحيون عن كل ما هو حيواني حي، ويقتصرون فيه على أكل
النبات، تذكرة واضحة لا لبس فيها بالمجتمع الذي كان — في سالف
العصور — يعتمد على الزراعة والنبات، وكانت تسود الأم العذراء
الأولى، ولم تنتهِ عبادة الأنثى إلا في بيئة رعوية مائة بالمائة،
ذكرية مائة بالمائة. أقصد في الدين الإسلامي، الذي تحول بالعبادة
عن الأنثى نهائيًّا.»
وأقصد بالطقس الذي أشرت إليه، والذي كان يمارس في المناسبات
الدينية للإلهات والإناث طقس الجنس الجماعي، في أيام محدودة، بجوار
معبد الإلهة، والتضحية بالبكارة داخل هيكل الإله نفسه. ولا أجدني
مخطئًا إذا قلت: إن هذا الطقس إنما كان أفضل قربان يمكن تقديمه
للإلهة المخصبة الشبقة الولود المنجبة مانحة الحياة، ولا أكون
مغاليًا إن احتسبت هذا الطقس أيضًا تذكرة بتلك الأيام الخوالي،
أيام كان كل النساء للرجال وكل الرجال للنساء. وفي هذا يقول «جيمس
فريزر»: «وكان مثل هذه العادة منتشرًا في كثير من أصقاع آسيا
الغربية، ومهما يكن الدافع لذلك، فإنه لم يكن مجرد انغماس في الفسق
الشهواني، بل كان واجبًا دينيًّا خطيرًا، يقام به خدمة للإلهة الأم
العظمى.» وأقترح تعديل العبارة الأخيرة لتصبح «كان واجبًا دينيًّا
خطيرًا، يقام به تقريبًا للإلهة الأم العظمى» — يتابع فريزر — «وهي
الإلهة التي اختلفت أسماؤها، وشكلها واحد ثابت في كل البلاد؛ ففي
بابل كان على كل امرأة غنية أو فقيرة، أن تستسلم مرة في حياتها
لذراعي رجل غريب في معبد ميليطا أي عشتار أو عشتاروت، وأن تقدم
للإلهة الدراهم التي أخذتها لقاء هذا البغاء المقدس. كان صحن
الهيكل يزدحم بالنساء اللاتي ينتظرن العمل بهذه العادة … وفي بعلبك
في لبنان كان العرف يقضي على كل عذراء أن تضاجع غريبًا في الهيكل.»
٤٣ وما زلنا مع «فريزر»: «وفي أرمينيا كانت أشرف العائلات
تكرِّس بناتها لخدمة الإلهة أنايتيس في هيكل إكسيليسينا، حيث كانت
الغيد يعملن كبغايا مدة طويلة قبل أن يتزوجن … وكذلك كانت جماعة
كبيرة من الزانيات المقدسات يعبدن الإلهة «ما
Ma» ولاحظ ميم الأمومة في بلدة كومانا في بنطس …
الإلهة الأم التي تمثل في شخصيتها قوى التناسل في الطبيعة كلها …
وذلك لضمان إثمار الأرض وتكاثر الإنسان والحيوان … وكانت الإلهة
دائمًا تعد غير متزوجة وغير عفيفة معًا.»
٤٤ وألفت نظر قارئي إلى أن هذه الصفة (غير متزوجة وغير
عفيفة) إنما كانت صفة الأنثى في المجتمع الأمومي الأول، حيث لم يكن
قد اخترع نظام الزواج بعد.
والملاحظ أن هذا الطقس — الذي تمجه أعرافنا اليوم — كان عملًا
مقدسًا سمي Sacred Protitution
قُصد به تحريض القوى الإخصابية في الأرض الأم، اعتمادًا على مبدأ
السحر التشاكلي، إذ الشبيه ينتج الشبيه.
وبمرور الزمن، وتأكيد سيادة الذكور التي تتميز بالغيرة، بدأت
محاولات للتحايل (ما نسميه اليوم التأويل) من أجل تخفيف هذا
القربان، فكان أن شُكلت طبقة خاصة من النساء ليقمن بهذا الطقس
القرباني، فأصبحن ضحية وفداءً لبقية النساء، إلا أن ذلك لم يكن
عارًا بل شرفًا عظيمًا نالته هؤلاء النسوة، فلقبوهن «بالعشتاريات lshtaritu» المشتق من
«عشتار».
ويقول «فاضل عبد الواحد»: إن هؤلاء «العشتاريات» أصبحن كاهنات
المعابد وأنهن كنَّ من بنات العائلات المالكة والنبلاء.
٤٥ ويذكر «فريزر»: أن إحداهن — ويبدو أنها الكاهنة الكبرى
— كانت تنام دائمًا على سرير الإله «بعل» أو «مردوخ». وكان معتقدًا
أن الإله اصطفاها من بين نساء بابل كلهن ليضاجعها في سريره
٤٦ وكان لقب العشتارية الأفضل هو «قاديشتو»، وهو الذي
أصبح في اليهودية «قديشًا» — وكانت تطلق على زانيات الهيكل
السليماني — التي ننطقها «قديسة».
٤٧
أما باقي النساء فكان لا بد أن يتقدمن لعشتار بقربان بديل عن
الجنس مع غريب، فلا بد من تضحية. لذلك كان واجبًا دينيًّا على
المرأة التي لا ترغب في تقديم جسدها للإلهة، أن تكتفي بقص شعرها
بدلًا من جسدها.
٤٨
وفي عيد رأس السنة الجديدة (الاعتدال الربيعي، وقت عودة عشتار أو
زوجها من عالم الموتى السفلي لإخصاب الأرض) كان يقام احتفال عظيم
يقوم فيه الملك بدور الإله الأكبر، بينما تقوم القديسة الكبرى بدور
الإلهة عشتار، ويضاجعها على سرير الإله، فتتحقق الخصوبة، ويعم الرخاء.
٤٩
ولنا أن نلاحظ تلك الملحوظة التي تفرض نفسها بقوة، فقد كان لقب
أية إلهة خصب في الهلال الخصيب هو «البتول». وقد ترجمها بعض
المترجمين بالعذراء، إلا أنها لوجه الحق كانت تعني «غير المتزوجة،
أو غير المرتبطة برجل محدد بعينه» وهي بدورها صفة الأنثى في
المجتمع الأمومي الغابر، وهي الصفة التي حملتها الإلهة مريم في
العقيدة المسيحية «رغم إنجابها للمسيح وإخوته».
وفي طرالس بليديا تم الكشف مؤخرًا عن لوحة شرف منقورة على عمود
مرمري يعود عهدها إلى القرن الثاني بعد الميلاد، تعلن: أن الشريفة
«أورليا أماليا» قد قدمت جسدها قربانًا للإلهة، وأنها في تدينها
أصيلة، فقد قدمت أمها وجدتها القربان نفسه، وأنه قد تم التأكد من ذلك.
٥٠
(٩) القربان الذَّكَري
يقول الكتاب المقدس: «وكان هابيل راعيًا للغنم، وكان قايين
عاملًا في الأرض، وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض
قربانًا للرب، وقدم هابيل أيضًا من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر
الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين لم ينظر.»
٥١
ورغم أن هناك أمورًا غير منطقية كثيرة بالكتاب المذكور، إلا أن
مسألة قبول الإله للحم «هابيل»، ورفضه لثمار «قايين» يصعب قبولها
على علاتها، أو افتراض أن الإله ربما كان من «اللواحم» وكفى، فلا
ريب أن في الظروف الموضوعية التي أحاطت بالشعب العبري — وهو شعب
رعوي — صاحب ومؤلف الكتاب المقدس، أسبابًا دفعته إلى التأكيد على
علاقة الرب الودية بالراعي، مقابل نفوره من المزارع، دونما سبب
واضح غير أن هذا راعٍ وذاك مزارع، تلك العلاقة التي توجها الموقف
المأساوي المتمثل في مقتل الراعي على يد المزارع؛ لإبراز الشر
الكامن في المزارع، مقابل طيبة الراعي؛ ومِن ثَمَّ وجب الثأر
المتأصل في القبلية، فحل الغضب الإلهي على المزارع؛ ومِن ثَمَّ
تقدس قربان «هابيل» الراعي، الذي ما كان ممكنًا قبوله أو وصوله إلى
الرب، دون ذبحه وحرقه لتتصاعد مادته، فيتسلمها الرب فتهدأ نفسه
وتستريح.
وهنا بالضبط أتصور السر الكامن وراء الدم والذبح والحرق والتقرب
بالخروف والتيس، كوسائل تواصل بين الراعي ورب الرعاة، وهنا يكمن
السر في تنافس العرب واليهود (وكلاهما راعٍ) في تأكيد الفخر لنفسه
بأنه كان المذبوح للرب (مشخَّصين في إسماعيل وإسحاق)، وأنه هنا
يكمن السر في التضحية بسيد القبيلة أو ملكها باعتباره الأب
والمعبود، تمثل — في ذروته — في التضحية بالخروف الأكبر «يسوع» في
العقيدة المسيحية، ولنحاول الآن إقامة عمد هذه الرؤية.
ونبدأ بالإشارة إلى الاحتفالية المسيحية بعيد الفصح، وهو موعد
قيامة «المسيح» بعد أيام ثلاثة من موته، وفيه يؤكل لحم الخروف، بعد
حرمان من أكل أي طعام حيواني، يقضيه المسيحيون اختياريًّا لمدة
خمسة وخمسين يومًا في صيام يقتصر الطعام فيه على النبات، ولنا حول
ذلك ملاحظات، مع إضافات لازمة:
-
أن صيام العذراء رمز واضح — كما سبق أن أشرنا — إلى
العصر الأمومي الزراعي، وخاصة أنه قد خصص للأم العذراء
«مريم» بالذات.
-
أن نهاية الصيام الكبير تتم بعيد الفصح الذي يُكسر
فيه الصيام بأكل الخروف، وهو ليس سوى رمز لنهاية
النظام الأمومي في المجتمعات الزراعية وسيادة النظام
الذكري الرعوي الغازي ممثلًا في الخروف، قربان الرعاة
المفضل.
-
أن المسيح — بنص الأناجيل — كان يعد لمريم «ابنها البكر».
٥٢
-
أن المسيح — بنص الأناجيل — كان يعد «ملكًا لليهود».
٥٣
-
أن المسيح — بنص الأناجيل — إله ذكر.
-
أن المسيح قد استشهد ومات، وهو في المسيحية اعتقاد
أساسي دونه الكفر، وأن موته كان فداء للبشر.
-
فالمسيح إذن «ابن بكر» كان يعد ملكًا، وفي الوقت
نفسه إله ذكر استشهد فداء للبشر، وتحول بعد موته إلى
الأب الذي في السماوات.
-
أن عيد الفصح المسيحي، الذي يؤكل فيه الخروف أو
المسيح كان في أصله عيدًا رعويًّا، كان يحتفل به
الساميون عمومًا، والعبريون اليهود خصوصًا، وكان
بالتسمية العبرية عيد «الفسح» ويقول مولتون
Moulton: «إن العبريين
كانوا يبدءون احتفالهم الفسحي ليلة البدر من لحظة ظهور
القمر — وطوال الليل — وإلى لحظة اختفائه بأكل خروف
يشتركون فيه جماعة.»
٥٤ ولاحظ أن الخروف من حيوانات الرعاة، وأن
القمر أحد الظواهر الفضائية المؤثرة في حياة البادية
الليلية، وأنه كان إلهًا لكل الشعوب السامية العائدة
بأصولها إلى بوادي شرق المتوسط، وأنه عُبد تحت اسم
الإله «سين». راجع في ذلك موضوعنا «منذ فجر التاريخ
والحج فريضة إجبارية».
-
أنه لا بد أن تتوافر في هذه الضحية شروط عدَّدها
موسكاتي كالآتي:
أنه كان يؤكل مع هذه الضحية فطير (خبز غير مختمر)، ويرى
«موسكاتي» أن ذلك بدوره كان عادة رعوية، إذ لم يكن لدى الرعاة وقت
لانتظار التخمر؛ نظرًا لظروف تنقلهم السريع وراء الكلأ والعشب،
٥٦ إلا أن لنا رأيًا آخر، وهو أن أكل الفطير خبزًا غير
مختمر، ربما كان عادة زراعية الأصل، وهو ما يؤكده رأي «برتولت
Bortholet»، فيرى أن سر أكل الخبز
فطيرًا هو أن ينال الإله نصيبه من المحصول الجديد في أسرع وقت ممكن،
٥٧ وهو ما يجعلنا نضع احتمالًا بأن الأصل في احتفالية عيد
الفسح عيدان وليس عيدًا واحدًا:
ثم اختلط العيدان، بتداخل المجتمعين، والنظامين الأبوي والأمومي،
ويؤكد لنا أن عيد الفطر لم يكن عيدًا رعويًّا في الأصل قول
«برتولت»: إن عيد الحصاد لم يكن ذا موعد محدد، فقد كان مرتهنًا
بنضوج المحصول والاستعداد لجمعه، ثم تحدد موعده وثبت بعد ذلك، بعد
أن ارتبط بعيد الفسح. أما أظهر الدلالات على ذلك ما جاء في كتاب
العبريين المقدس: أن عيد الفسح
٥٩ هو «عيد ابتداء المنجل في العيدان»!
٦٠
وإن هذا بدوره يعد دعمًا آخر لمذهبنا، في أن النظام الأمومي كان
زراعيًّا، وقرابينه إما دعارة أو نبات في هيئة فطير، وإن النظام
الأبوي كان رعويًّا وقرابينه دماء وذبائح.
ونعود إلى عيد الفصح المسيحي مرة أخرى لتناول فكرتين مهمتين:
وأطرح هنا تفسير «سيجموند فرويد» لمسألة التضحية (بالحيوان،
بالإنسان، بالملك، بالإله على حدٍّ سواء)، فيقول اعتمادًا على
«داروين»، و«أتكسون»، و«روبرتسون سميث»:
إن البشر قد عاشوا في أول عصورهم على هيئة عشائر صغيرة، وإن كل
عشيرة رزحت تحت نير سلطة طاغية لأب ذكر، «وبناء على مذهبنا، سينطبق
كلام «فرويد» هنا على المجتمع الرعوي البدائي فقط، رغم أنه لم يقل
ذلك». وإن هذا الأب القاسي المرعب، كان أنانيًّا فظًّا غليظ القلب،
يقتل أبناءه لأتفه سبب، إنه كان يرضى خصي الابن أو يقطع ذكره من
أصوله إذا أثار غيرته، واقترب من الإناث اللاتي كن حريمًا له،
وحريمه إما أمه أو إخوته أو بناته. وذات يوم تضافر الأبناء
المقهورون، وأعلنوا تمردهم وعصيانهم على ملكهم وأبيهم، فقتلوه
وافترسوه معًا.
ثم حلت عشيرة الإخوة محل الأب، ونتيجة الشعور بالذنب، صرفوا
النظر عن نسائه، وأقاموا نظام الزواج الخارجي، فنشأ التابو أو
التحريم، ونظَّمت الأسرة أوضاعها تبعًا لقواعد أمومية جديدة، «وهذه
النقطة سبق أن رفضناها من خلال نظريتنا».
ثم اختار الأبناء المتمردون حيوانًا ليكون طوطمًا للأب المقتول
(ولاحظ أن الكلمة أو طوطيمان تعني: هو من قرابتي)، واعتبروه السلف
الأول والروح الحامية، وحُظر مسه أو قتله إلا في اجتماع كامل
لمأدبة يأكلونه فيها جماعة.
٦١
وهنا اقتراح أن يكون هذا الطوطم خروفًا أو تيسًا، باعتبارهما من
حيوانات الراعي. لكن الاعتراض البدهي قد يقول: كيف ذلك بينما
الخروف أو التيس كان يؤكل في أي وقت كان، وهنا أُبرز رؤيتي
بنقطتين:
- الأولى: ما جاء في تحديد صفات الوليمة الطوطمية في الفسح
العبري (ذكر وليس أنثى، من الغنم أو الماعز، بكر،
سليمة من العيوب)؛ لتأكيد صفات معينة في الطواطم
دون بقية الخراف، تتمتع بالرعاية إلى اليوم
الموعود لذبحها وأكلها.
- والثانية: إن من عادات المشعوذين حتى اليوم، أن يطلب
المشعوذ من صاحب المشكلة حيوانًا ذا صفات محددة
وخاصة جدًّا ليذبحها فتحل مشكلته.
ونتابع مع «فرويد»، فيقول: «إن الأب المقتول الذي كان الأبناء
يخشونه ويرهبونه ويكرهونه ويجلونه في وقت واحد، كان كل منهم يتمنى
لو يحتل مكانه؛ لذلك أصبح أكله ممثلًا في خروف في موعد محدد كل
عام، هو محاولة للتشبه به من خلال التمثيل الجسدي لقطعة منه.
٦٢ وفي الوقت نفسه أصبح هذا الموعد عيدًا يحيي في الأبناء
ذكرى انتصار حلفهم على الأب الملك القاسي.»
٦٣
ويرى أن عادة الختان المستمرة حتى اليوم، إن هي إلا بديل رمزي عن
الخصي الذي كان الأب كليُّ القدرة يعاقب به أبناءه فيما غبر من الزمن.
٦٤ وأضيف إلى «فرويد» أنه ليس ختانًا فقط، بل كان يصل إلى
حد إخصاء كامل يقوم به الإنسان لذاته بذاته، في احتفالات الآلهة
الشهيدة، كما كان يحدث في احتفالات الحزن على الإله «أدونيس» في «لبنان».
٦٥ ولم يزل يمارسه الشيعة المتطرفون في احتفالات الحزن
على «الحسين» الشهيد في لبنان وسوريا والعراق وإيران، حتى اليوم.
ومع ذلك أجدني أخالف «فرويد» في كثير مما ذهب إليه.
إن قول «فرويد» إن الاحتفال بالفصح حول ذكر غنم مذبوح إحياء
لذكرى قتل الأب — والأب كما اتفقنا كان الإله — على يد أبنائه.
وذكرى انتصارهم عليه، فيها كثير مما يجافي المنطق والواقع. ومجافاة
المنطق تتضح في التساؤلات: هل كانت حالة قتل الأب البدائي حالة
واحدة حدثت في جماعة بعينها دون بقية الجماعات، وترسبت ذكراها بعد
ذلك لدى كل الجماعات والمجتمعات، التي ما زالت إلى اليوم على
اختلاف مللها ونحلها تمارس طقس الأضحية في أعيادها؟ بالطبع هذا غير
ممكن أيًّا كانت التبريرات. أم أن حادثة قتل الأب قد تكررت الصورة
نفسها لدى كل العشائر القديمة، حتى تظل في ذاكرة جميع الشعوب، ويتم
تذكرها إلى اليوم باحتفالات التضحية، وهذا بدوره نوع من الصدفة
مستحيلة الوقوع بهذا الاطراد والتزامن والتشابه.
ثم إنه إذا كان أكل الخروف إلى اليوم، هو أكل الإله ذاته — كما
هو واضح تمامًا في العقيدة المسيحية — فهل التقرب يتم هنا للإله
نفسه؟ أعني أن الاعتقاد بهبوط الإله المسيح من السماء وموته على
الصليب لفداء البشر، وأكل الخروف في الفصح المسيحي تذكرة به، إذ
قال المسيح: «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه.»
٦٦ هل يعد هذا الاعتقاد تقربًا للإله ذاته؟ إن ذلك يبدو
لي غير منطقي بالمرة، ولا يمكن أن أتصور الإنسان حتى اليوم يتقرب
للإله بالإله ذاته، فينزل من عرشه السماوي ليصلبه على الأرض، ثم
يأكله بعد ذلك خروفًا، فيما يزعم «فرويد» أنه احتفال بذكرى قتل
الأب البدائي وانتصار حلف الأبناء عليه.
إنه تفسير يجافي المنطق تمامًا، ثم يجافي الواقع المعيش، ومن
الواقع المشاهد للآن يمكنني أن أرسم صورة تأملية نستعيد فيها حقيقة
ما حدث في غابر الأزمان، يمكن أن نفسر بها سر التضحية ﺑ «الأب،
الملك، الإله، الخروف» على حدٍّ سواء.
(١٠) الأضحية والفداء
مرة أخرى أعود فأؤكد أن القربان النباتي (الفطير) كان في مجتمع
زراعي أمومي، لم يعرف الدماء ولا الذبح في مبدأ أمره، وكانت
قرابينه إما دعارة أو فطيرًا. بينما كانت التضحية بالذبح والدم
احتفالية رعوية نشأت في مجتمع أبوي، وكي تتماسك حلقات رؤيتي
التأملية، أستمر في استقراء الواقع، وأعود إلى «داروين» كما عاد
إليه «فرويد». فأجد أن نظرية الانتخاب الطبيعي لا تعني أبدًا تضافر
الإخوة لقتل الأب، إنما كان ما يحدث، هو ما يحدث اليوم في عالم
الحيوان؛ إذ يستمر الذكر القوي في سيادة القطيع، حتى ينتابه ضعف
الشيخوخة، فيظهر ذكر آخر قوي يدعوه للنزال وينازعه السيادة، وعلى
المهزوم أن يتخلى عن موقعه، وهكذا دواليك، أما تمثل الأب في طوطم
يؤكل في موعد يحدد فليس مرجعه جريمة ارتكبها الأبناء في حق الأب
كما ذهب «فرويد»، إنما أتصور الأمر كامنًا في معنى «الأضحية» نفسه،
فهي في الإنجليزية sacrifice بمعنى
التضحية والذبح للإلهة وهي الأضحية. والذبيحة، وتعني أيضًا الخسارة
والتضحية بشيء، من أجل شيء آخر، والأضحية في اللغة العربية من
التضحية، والتضحية «فعل» يحمل معنى الخسارة والتنازل عن شيء نملكه.
كما يحمل أيضًا معنى فداء الآخرين، ومعنى النبل، فهي خسارة شخصية
من أجل كسب أكبر وأهم للجماعة كلها.
وكان معنى الضحية ولم يزل معنى الفدية التي يفتدي بها الإنسان أو
المجتمع أو الوطن، وتحمل أيضًا معنى التضحية الاختيارية بالذات، من
أجل سلامة الجماعة كلها، وفي هذه الحال، يتحول عمل الفادي في نظر
الناس بعد موته إلى قمة الأعمال سموًّا وقدسية، حتى إن تضحيته في
كافة الأديان تقريبًا، ترفع عنه كل الخطايا، حتى تصل قداسته حد
الملائكية. ويطلق على عمله في هذه الحال «استشهاد»، بمعنى الموت
أمام الجميع وهم شهود يستشهد بهم على مجد عمله وفدائه. وإذا كان
هذا يحدث اليوم، فلا نتعجب من أفراد العشيرة البدائية، وهم يحتمون
وراء الذكر الأب القوي، من أحد ضواري الصحراء، أو من نازلة طبيعية
قاسية، فيموت أمام أعين الجميع وهم شهود على مجد عمله وقدس
فدائيته، فيرفعونه بعد موته إلى رتبة الألوهية الغيبية (مع ملاحظة
دور الأحلام في تأكيد هذا المعنى، والفزع الطفولي في حلم يسترجع
ذكرى فداء الأب واستشهاده)، ولكن لأن الغيب مسألة غير واضحة
المعالم، فقد تمثل البدائيون السلف الراحل في طواطم أنفع
الحيوانات، وما أنفع الخروف والتيس للراعي! ذاك الطوطم الذي ظل
يحظى بالإكرام والتبجيل، حتى موعد ذكرى استشهاده، فكان أن اجتمع
الأبناء حول جسده المذبوح في خروفه الطوطمي، تذكرة لهم بآلام
استشهاده، ثم يأكلونه ليحتووه في البطون والحنايا والحشايا،
ويستمدون من جسده القدسي مددًا وقوة، ويحتوونه داخل أنفسهم
وأرواحهم، فهو فيهم وهم فيه (بتعبير المسيح آنف الذكر).
وإلَّا، لماذا الحزن والبكاء في موسم استشهاد الآلهة؟ ولماذا لطم
الخدود وشق الجيوب الذي كان يمارس حزنًا على «تموز» و«أدونيس»
و«بعل» و«آتيس» و«ميثهرا» و«المسيح» و«الحسين»؟ وهل يتفق هذا الحزن
الهائل مع تفسير «فرويد» أنه ذكرى انتصار الأبناء على الأب القاسي؟
ثم لماذا يصل الحزن إلى حد تجريح الأبدان إن لم يكن مشاركة للأب
الشهيد في ألمه، واصطناعًا لألم ناتج عن عدم مشاركته بطولته
ومصيره؟ ثم لماذا يسمى الفطير القرباني، الذي يقدم في ذكرى موت
«المسيح» مرسومًا عليه «المسيح» أو صليبه (رمزًا لآلام استشهاده)
الذي كان يؤكل قبل ذلك في الفسح، لماذا يسمى خبز الحزن sad
bread؟
أو لماذا يتمادى الحزن ويتحول إلى هستيريا تصل إلى حد إخصاء المؤمن
نفسه في مواسم استشهاد آلهة الهلال الخصيب، إذا لم يكن ذلك محاولة
متأخرة للاعتراف لهذا الأب بأنه الوحيد الذي يستحق شرف الرجولة،
وأن من عداه لا يستحق أن يحمل شرف رجولة لم يشارك بها الشهيد مجد
استشهاده؟ ثم لماذا يلقب كل آلهة الخصيب التي سادت مع السيادة
الرعوية بلقب «الشهيد»؟ ولماذا تقول الأساطير رغم تباعد المسافات
بين هذه الآلهة: إن كلًّا منهم مات ميتة عنيفة على أنياب وحش بري
بالذات؟
حقيقة لا أرى ذلك كله متفقًا أو متسقًا إلا مع رؤيتي، وإذا كان
من غير المنطقي أن تتكرر حادثة قتل الأب على يد أبنائه كما ذهب
«فرويد»، فإنه من المنطقي أن تتكرر حادثة استشهاد الأب فداء
لعشيرته، باختلاف المكان والزمان، وفوق هذا كله فإن نظريتي تتسق مع
آخر الديانات الفدائية الكبرى (المسيحية)، التي اعتقدت في ألوهية
المسيح، ذاك الإنسان الذي أعاد إنجيل «متى» أصل نسبه إلى بيت
الملكين «داود» وابنه «سليمان»،
٦٧ فكان ملكًا منتظرًا لليهود يمسح بالزيت المقدس مسيحًا،
ثم يقودهم ويحررهم من الاستعمار الروماني، لكنه استشهد على الصليب،
فاستحق الألوهية؛ لأنه في الاعتقاد المسيحي قد أسلم نفسه للصليب
بإرادته فداء لكل الشعب، وإن الإيمان به، وأكل لحمه وشرب دمه
ممثلًا في خروفه الطوطمي في الفصح، يرفع كل الخطايا عن البشر، خاصة
أن عرش ملك اليهود المنتظر كان يسمى عرش «يهوه» إله اليهود؛ لذلك
كان المسيح ملكًا وإلهًا.
ومن هنا لا نندهش عند قراءة الأساطير القديمة لآلهة الفداء، أن
نجد الإله «تموز» يستشهد وهو في هيئة التيس، وكذلك «بعل»
الكنعانيين، وكذلك «أدونيس» الفينيقي الذي قتل على أنياب خنزير
بري، وكذلك «آتيس» إله فريجيا الذي استشهد إبان صراعه مع وحش بري.
وهو يتلبس هيئة التيس!
(١١) تداخل القرابين والأضاحي
يبدو لنا أن الإنسان عندما بدأ يتحوَّل بأسلافه من الطواطم إلى
المظاهر الكونية، كان اهتمام المجتمع الرعوي الأبوي بما فوق
(والذكر فوق الأنثى والأب فوق الأم)، خاصة مع حياته في بادية
تسترشد بالقمر والنجوم ليلًا مع الاتساع والرحابة في أفق لا تحده
حدود. فتمثل آلهته في السماء (الهلال القمر الإله سين، ولاحظ
التشابه بين قرني التيس أو الخروف وبين الهلال) وأرى أن المنطق
يقود إلى تمثل الراعي لوجه أبيه الشهيد في القمر لما تحمله تضاريسه
من تمثلات كثيرة، كنا نتخيل فيها ما يحلو لنا ونحن صغار، وما أشبه
البدائيين بصغار اليوم، إضافة إلى أن اللفظ السامي الرعوي الدال
على الغنم أو الماعز كان «سي» بإمالة السين إمالة طويلة، والتي
أصبحت «شاه». والتسمية «سي» تلتقي تمامًا مع تسمية القمر ﺑ «سين»
ولم تزل نساؤنا المصريات إلى اليوم يسبقن اسم الزوج ﺑ «سي» بمعنى
سيدي أو ربي أو «بعلي» «فلان»!
هذا بينما تركز اهتمام المزارعين أصحاب النظام الأمومي في أمهم
الأرض، وعندما رفعوها إلى السماء ليلبسوها بالظواهر الفضائية
تمثلوا هذه الأم في كوكب متلألئ ذي دلال هو كوكب الزهرة، ويذهب
«فرويد» إلى أن هذه الأم قد رمز لها بالقمر، إلا أني أرى في ذلك
بعض الخلط. فارتباط الأنثى الأم بالقمر، جاء فيما أعتقد ليس لكونهم
رأوها هي القمر ذاته أو أن رمزها في السماء هو القمر، ولكن لعدم
معرفة الزراعيين البدائيين بدور الرجل في الحمل والميلاد، وربما
كان اتفاق ظهور القمر — وتبدل أحواله حتى تكامله ثم اختفائه — مع
إيقاعات المرأة البيولوجية، سببًا في نشوء تفسير لدى البدائيين في
المجتمع الأمومي. إن القمر هو الزوج الحقيقي للمرأة، كما يصح أن
يكون هذا التصور قد تدعم فيما بعد باندماج المجتمعين الرعوي الأبوي
والزراعي الأمومي، فزوجوا الأب الذكر «سين» إله القمر بالإلهة
الأنثى الأم الكبرى، وهو ما وجدنا صداه في أسطورة «إينانا» إلهة
الجنس وكوكب الزهرة السومرية، إذ جاء فيها أن القمر سين كان زوجًا
لها ومقابل اسمها «إبناتا = إن + آن» أي سيدة السماء، كان لقب
الإله سين «نانا = نن + آن» أي ذكر السماء أو رجل السماء أو سيد السماء.
٦٨
وكان اعتياديًّا تمامًا بعد هذا التزاوج بين المجتمعين والنظامين
أن تتداخل القرابين الزراعية بالأضاحي الرعوية، وأن تستمر تضحية
الأب البدائي في الذكرى الإنسانية، التي تحولت إلى عرف مسنون يجب
الوفاء به كلما حل بهم أمر جلل، وعلى الملك (الذي حل محل الأب بعد
قيام المدن) أن يقوم بهذه التضحية، باعتباره ممثل الإله كما ضحَّى
بذلك الأب الأول. وهو ما فعله الملك القرطاجي «هملقار» في معركة
«هيرا» التي قاتل فيها الإغريق قتالًا مستميتًا، واستمرت من الفجر
حتى منتصف الليل، ومكث في معسكره يلقي بعشرات الضحايا في محرقة
هائلة. ولما رأى جنوده يتقهقرون ارتمى وسط اللهب بتضحية اختيارية،
وقضى نحبه فداء مواطنيه. فجعل مواطنوه فيما بعد يقدمون له الضحايا،
وشيدوا له نصبا في كافة المستعمرات القرطاجية
٦٩ (وهو تكرار واضح لا يحتاج تعليقًا لما سبق وحدث في
سالف الأزمان، ويتفق تمامًا مع رأينا).
بالعودة إلى خمسة آلاف سنة مضت، وقت نشأة المدن في الهلال
الخصيب، وسيادة الذكور، وتزاوج الثقافتين الرعوية الأبوية
والزراعية الأمومية، تحولت احتفالات الخصب؛ لحث الأرض على الإنتاج،
من إلهات الأرض والزهرة الإناث، إلى الآلهة الذكور، فتحولت
القرابين بالتالي إلى أضاحي، يضحي فيها الملك بنفسه، ويبدو أن
تقديم الأطفال قربانًا للنيران — فيما نرى — قد نشأ عن محاولة
الملوك التهرب من هذا المصير المفزع، فنشأت عادة مضاجعة الملك
للكاهنة الكبرى «قاديشتو» لإنتاج آلهة من نسله الملكي الإلهي تخصص
للتضحية. وفي هذا ما يفسر لنا لجوء الملك اليهودي «داود» إلى شنق
أبناء سلفه «شاول» السبعة؛ لرفع القحط وإنزال المطر.
وهكذا أصبح إنبات الأرض واستنزال المطر وعودة فصل الخصب، مرهونًا
بسفك الدماء وبالأضاحي، وهو أمر لا يزال شائعًا في بلادنا إلى
اليوم، يتمثل في تحذير الأم لطفلها بعدم الخروج وحيدًا، حتى لا
يذبحوه على حجر طاحونة الحبوب؛ لأن الطاحونة إذا توقفت فلا بد أن
يذبح عليها طفل حتى تعود إلى العمل، وتعود إلى طحن الحبوب، هكذا
كانوا يروون لنا ونحن صغار، وهي رواية تلقي بنا في مرآة التاريخ
القديم، حيث ارتهن استمرار دوران الطبيعة (الطاحونة)؛ لتعطي حبوبها
وزرعها بالتضحية بالدم، وهي تضحية لم تكن — أبدًا — أصيلة في
المجتمع الأمومي الزراعي. إنما وفدت مع قدوم الرعاة، إذ أصبح تقديم
الطفل الملكي الإلهي للإلهة الأم الكبرى، نتيجة اقتران ثقافة
المزارع القاضية بتقديم دم بكارة الأنثى في الهيكل للأم الكبرى،
بثقافة الراعي التي كانت تقضي بتقديم بكر الخراف أو الملك نفسه
فداءً للجماعة.
وربما كان الطفل (الناتج عن جماع الملك الرعوي بالكاهنة
الأمومية) هو تراضٍ بتعاقد لتقديم ضريبة عوضًا عن الصراع الدموي،
الذي لا بد قد حدث إبان دخول الرعاة للأرض الزراعية، بين أصحاب
الأرض الزراعية وبين الغزاة الرعويين.
والمطالع للكتاب المقدس يجده لا يني يذكر دائمًا الابن البكر
صاحب الميراث والبركة عن أبيه، وهو ما يتفق مع اعتباره ولي العهد
أو الملك أو الأب الذي يجب أن يقوم بالتضحية المطلوبة.
وظل الاعتقاد قائمًا حتى اليوم، ويمارس تذكرة بالأب الفادي
والشهيد الأول، وظل الخروف هو الضحية المثلى، يذبحه أحفاد الرعاة
المسلمون، ويذبحه المسيحيون ليفطروا على لحمه، بعد الصيام الأمومي
النباتي الطويل.