(١) التأسيس
تأسيس (١)
في صباه، وهو يصبو إلى الفهم والتفسير، اتجه العقل البشري
نحو ظواهر الطبيعة النافعة، والغضوب الباطشة، واللينة السلسة،
والمزجرة المدمرة، يرجو بينه وبينها تواصلًا، يبغي به نفعًا،
وتوقيًا لعصف العاصف منها وزلزلته، فسجد لها عابدًا، وتقرب
منها بما رآه أهلًا لها، متزلفًا، راغبًا للخير، ودافعًا للشر
… فكان أن تصور الكون كله مليئًا بالحياة.
وجنح به الخيال إلى تأليه المظاهر الكبرى في الوجود، من
الشمس إلى القمر إلى الكواكب إلى النجوم إلى البرق والرعد، حتى
النهر والصخر والخصب والجدب، فجعل لكل حالة في الطبيعة آلهة
معينة بها، تستحق منه العبادة، والتقرب إليها بأثمن ما لديه،
ضمانًا لعطفها ودرءًا لغضبها.
وإبان ذلك أو ربما قبله، قدَّس الإنسان — فيما رآه جديرًا
بالقدسية — آباءه وأسلافه الغابرين، وكان لظاهرة الأحلام دورها
في تقديس الأسلاف، فلم يكن لدى الإنسان في مبتدأ أمره تفسير
واضح لأحداث المنام وأحواله. وهذا المبتدأ لم يكن إلا مرحلة
الطفولة في التطور البشري، فكان كالطفل واضح الحلم جليه، فكان
لا يفرق بين حدث الحلم وحدث الواقع، وفي المنام كان الأسلاف
الراحلون أحياء فاعلين، فخرج بنتيجة مؤداها أن أباه الراحل لم
يزل موجودًا وحيًّا ومؤثرًا، وإن كان مَخفيًّا بطريقة
ما.
ومن هنا سوغ اعتقاده في أرواحية الطبيعة وصبغها بالحياة، أن
سلفه الراحل هو حالة من حالات الطبيعة، أو هو في واحدة من
ظواهرها، فربما كان في هذه الشجرة أو تلك النبتة، أو في هذا
الحيوان النافع، أو في تلك المياه الجارية.
وهي تلك المرحلة المسماة — اصطلاحيًّا — بالطوطمية، التي تم
فيها تقديس الكائنات الأرضية، واعتبارها محلًّا لسكنى السلف
الراحل، مع الأخذ بالحسبان أن الطوطمية من كلمة «أوطوطيمان» من
العهد الكونكي، وتعني «هذا من قرابتي».
وفي مرحلة تالية، وعندما أخذت العشائر البدائية تتجمع في
قبائل، واتصلت القبائل مكونة مجتمعًا أكبر وأكثر رحابة
واتساعًا، لم يعد ممكنًا فرض روح السلف المعبود، الحالَّة في
حيوان طوطمي مقدس لدى قبيلة، على قبيلة أخرى تقدس طوطمًا آخر،
فكان أن تم تمثل السلف في ظاهرة ترضي جميع الأطراف المتجاورة
أو المتحدة، فارتفع العقل بسلفه المعبود عن التمثل في حيوان
على الأرض، إلى تمثله في مظهر كوني أكبر، فكانت عبادته المخلصة
للكواكب والنجوم إن هي إلا للأسلاف المقدسين.
تأسيس (٢)
على ناتج البحوث الأركيولوجية، افترض الباحثون أن المجتمع
الإنسان قد مر بمرحلتين شكَّلا نظامين اجتماعيين مختلفين:
مجتمع سادته المرأة، إذ كانت تستقر إلى جوار أطفالها، بينما
يخرج الذكور للقنص، وكانت المرأة فيه للجميع، لم يكن هناك نظام
زواج بالمعنى المعروف بعد، ومجتمع ساده الذكور، بما في الذكورة
من قسوة وخشونة، وقد اختلف العلماء حول أي المجتمعين كان
سابقًا للآخر، بينما افترضنا في طرح خاص سبق لنا وضعه في
دراستنا «أضحية للذكر، قربان للأنثى»
١ أن اختلاف النظامين: الذكري والأنثوي، ليس
اختلافًا زمانيًّا، إنما هو اختلاف مكاني. ودللنا على أن
المجتمع الذكري الأبوي كان مجتمعًا رعويًّا بدويًّا عبد آلهة
ذكورًا، إلى جوار المجتمع الأنثوي الأمومي الذي سادته المرأة،
وعبد إلهات نساء يمثلن القدرة على الميلاد والخصوبة ومنح
الحياة، تأسيسًا على فرضنا أن المجتمع الأنثوي الأمومي كان
مجتمعًا زراعيًّا، شكَّل فيه الخصب ظاهرة أساسية؛ مما جعلها أس
الاعتقاد والعبادة، الممثلة في إلهة خصبة ولود، كانت أمًّا
أولى مقابل عبادة الأب الأول في المجتمع الرعوي البدوي الذكري
الأبوي، وبمرور الزمن تمكن البدو الرعاة من التسلل إلى المناطق
الزراعية، في شكل غزو بطيء تدريجي أدى إلى سيادة الذكور في
النهاية، ونشوء نظام الزواج؛ ومِن ثَمَّ ترك الأقدمون لنا
آباءهم وأمهاتهم ممثلة في آلهة كونية، تركزت خاصة في الظواهر
الفضائية.
تأسيس (٣)
معتمدًا على نتائج بحوث كلٍّ من «أتكسون وروبرتسون سميث»
افترض «سيجموند فرويد» أن أساس القرابين، التي كانت تقدمها
الشعوب القديمة لآلهتها، في شكل أضاحي من البشر، أو الحيوان
بعد ذلك كبديل عن الإنسان، الذي لم يزل مستمرًّا إلى الآن،
والذي تمثل في ديانة «فرويد» اليهودية في ذبيحة من الغنم الذكر
الخالي من العيوب، في عيد الفسح العبري، افترض أن ذلك يعود إلى
ذكرى في اللاشعور الجمعي، تعود بدورها إلى أيام سيادة الذكور
المطلقة في المجتمع البدائي — فيما يزعم — وقسوة الأب الذكر
الفظ، وإرهابه لبنيه، واستيلائه باستمرار على النساء جميعًا،
وقتله لأيٍّ من أبنائه يثير غيرته، أو لأي سبب آخر؛ مما أدى
إلى تحالف الأبناء — يومًا — ضد الأب القاسي والثورة عليه،
وقتله وافتراسه معًا، وما ذبيحة الفسح أو الأضحية والاجتماع
حولها وأكلها جماعة، إلا تذكار لانتصار حلف الأبناء ضد الأب
الشرس وقتله وافتراسه.
٢
وقد عارضنا رأي «فرويد» في الدراسة المشار إليها آنفًا،
وطرحنا فرضًا آخر لتفسير طقس القربان والتضحية، على أساس مختلف
تمامًا، اعتمادًا على رؤية تأملية خاصة في كلمة الأضحية والتضحية Sacrifice فرأينا
الأب الأول فاديًا استشهد فداء بنيه، وضحَّى بنفسه دفاعًا
عنهم، ومن أجل استمرار حياتهم، في صراع مع واحد أو أكثر من
ضواري ذلك الزمان.
كما افترضنا أن هذا لا بد قد حدث في المجتمع الأبوي الذكري
البدوي الرعوي، إذ ارتفع الأب بمجد عمله في نظر أبنائه إلى
السماء مقدَّسًا؛ ليحل في أوضح كواكب البادية وأقربها إلى حس
الرعاة، أقصد القمر، الذي أصبح إلهًا يستحق التضحية له بأعز ما
يملك الإنسان، عرفانًا له بتضحيته السالفة.
وللتشابه القائم بين قرني التيس أو الخروف أو الثور، وبين
الهلال، فقد تصور الإنسان أن هذا الحيوان إن هو إلا سلفه
المعبود؛ ومِن ثَمَّ قام بذبحه في احتفالات خاصة، ثم أكله
ليحتويه في حشاه وبطنه بتلك الأيام الغابرة.
ورغم اختلاف المجتمعات التي تحتفل بهذه المناسبة (الذبح)،
فإن العين الفاحصة لكل احتفال أضحوي — رغم اختلاف الطوائف —
ستلاحظ غلبة الطقوس القمرية على هذه المحافل.
وأحيانًا قام الإنسان بذبح أحد أبنائه، أو نذره للذبح كضحية
لربه، وانتشر هذا الطقس انتشارًا واسعًا في وقت من الزمان،
ويبدو أنه الأساس في ظاهرة الختان، التي اعتبرت — لدى كثير من
الباحثين — ذبحًا جزئيًّا، بديلًا عن الذبح الكلي الذي كان
يمارس في غابر الأيام.
أما القرابين في المجتمع الأمومي، الذي عبد ربات ولَّادات
مخصبات في مناطق زراعية، فقد افترضنا أنها ممارسة الجنس
الجماعي، وهو ما عثرنا عليه في طقوس كثير من الإلهات الإناث في
حوض المتوسط، وسبق أن فصلنا القول فيه في دراستنا (المشار
إليها) إذ وجدناه منتشرًا بشكل وبائي حاد، وكان قربانًا
وتقربًا يتلاءم مع نظام زراعي، للخصب والميلاد والحياة فيه
الدور الأساسي، وتؤدي فيه الإلهات الإناث دور الخصب والولادة
ومنح الحياة، ويقوم على أساس قديم، سادت فيه الأنثى التي لا
تعرف رجلًا واحدًا، وبعد تداخل المجتمعين: الرعوي الأبوي،
والزراعي الأمومي، وسيادة الذكور ونشوء نظام الزواج، بدأت
محاولات للتخفيف من طقس الجنس الجماعي بما يتلاءم مع الأوضاع
الجديدة. كما خفف من قبل ذبح الطفل إلى عملية ختان. فتحول
الطقس من جنس جماعي عام، إلى فريضة يجب أن تؤديها المرأة ولو
مرة واحدة على الأقل في حياتها، وهي ممارسة الجنس مع غريب
عنها.
ثم تطور الأمر نحو مزيد من التخفيف، فتم تخصيص طائفة من
النساء كمنذورات لمعابد الإلهات الإناث، يقمن بهذه المهمة بشكل
خاص بدلًا من بقية النساء وفداءً لهن. أما النساء اللاتي لا
يقمن بذلك، ولا يدخلن في سلك الكهانة الجنسية، فكان مفروضًا
عليهن استبدال الجنس مع غريب بقص شعورهن للإلهة
المعبودة.
تأسيس (٤)
ولأن الأب الذي في السماء كان أبًا في المجتمع الذكري الأبوي
الرعوي، ولأن الإلهة التي في السماء كانت أنثى ولودًا في
المجتمع الأنثوي الأمومي الزراعي، ولأن المجتمعين تداخلا،
وكذلك النظامان، فقد زوج العباد آلهتهم بعضها من بعض؛ ومِن
ثَمَّ كان القمر رب البادية وأبو الرعاة زوجًا للأم الكبرى
التي كانت صاحبة أخطر دور في حياة المحصول الزراعي ونضجه، أقصد
الشمس.
ولأن هناك زواجًا قد حدث فلا بد من وليد، فكما كانت حياة
الأب الأول والأم الأولى على الأرض، فلا بد أن تكون كذلك في
السماء، وبذلك اكتملت أضلاع الثالوث الإلهي، نعم، اختلف وضع
الزهرة والشمس ما بين مجتمع وآخر، فتارة كانت الشمس ذكرًا،
وتارة أنثى، وتارة كان كوكب الزهرة زوجة أنثى، وتارة ابنًا
ذكرًا، تبعًا لاختلاف المجتمعات وطبيعة البيئة وعلاقتها بالشمس
والزهرة، إلا أن القمر بالذات، كتبت له السيادة بسيادة الذكور
المطلقة، فظل هو الأب الذكر دائمًا، وأخطر ضلع في الثواليث
الإلهية المختلفة، الذي ربما كان أهمها لبحثنا الآن، ثالوث
الجنوب العربي اليمني، الذي قدَّس الثلاثي السماوي: القمر كإله
ذكر أخذ دور الابن، لكن القمر كان هو الإله المقدم، فعبده
القتبانيون والحميريون بالاسم «عم»، وعم القبيلة أبوها وسيدها،
وعبده الحضارمة بالاسم «سين»، وعبده المعينيون بالاسم «ود»،
وعبده السبئيون — فيما يقول الباحثون — بالاسم «المقة».
(٢) آلهة القمر: سين وياسين
و«سين» كبير آلهة حضرموت، كشفته بعثة بريطانية في منطقة الحريضة
عام ١٩٤٤م، في نقوش تمتد بطول الشريط الساحلي لجنوب الجزيرة
العربية، على امتداد أرض الأحقاف
٣ وقد كان إله القمر باسم «سين» معروفًا في عبادات
الرافدين القديمة،
٤ كما كانت له معابده ومزاراته في شبه جزيرة سيناء، التي
يرى الباحثون أن اسمها مشتق من اسمه.
٥
ونرى أن الاسم «سين» يتركب من «ن» النون الأخيرة، وهي أداة
التعريف في العربية الجنوبية، تلحق بآخر الاسم المراد تعريفه،
و«سي» وهي في اللغات السامية بشكل عام، إنما تطلق على الشياه
عمومًا (الخراف، الماعز، البقر، والثيران … إلخ)، وهي التي تطورت
بعد ذلك من «سي» إلى «شاة».
٦ وعليه فإن الاسم «سين» كعلم دال على إله القمر، إنما
يعني الإله التيس أو الإله الثور، وهو ما يلتقي تمامًا مع ألقاب
القمر المنتشرة في الجنوب اليمني وهو اللقب «الثور».
٧
لكن الأمر اللافت للنظر في أمر الإله «سين»، أن بعض المتخصصين في
اللغات السامية وعلمائها، يرون أن الاسم هو «ياسين».
٨ وهو مما يستدعي التساؤل: هل هناك علاقة بين «سين» أو
«ياسين» وما جاء في القرآن الكريم:
يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ *
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (يس: ١–٣)، خاصة إذا
أخذنا بالحسبان ملاحظة للباحثة اليمنية ثريا منقوش في ملاحظة
هامشية تقول: إن الإله «سين» ظل كمكبوت في العقل اليمني يستدعى
اليوم في قرى اليمن عندما يتعرض عزيز لحادث، فيقولون: «ياسين
عليك»، كما يقول المصريون «اسم الله عليك»!
٩ وهي تقصد بدون مواربة أن الإله «سين» كان يعرف أيضًا
باسم «ياسين»، ولعل «الياء هنا للنداء وربما كانت للترجي»، وهو ما
يدعمه ما جاء عند المؤرخ اليمني «أبو الحسن الهمداني» في حديثه عن
الإله القمري السبئي «المقة» بقوله: إن أصل الكلمة هو «يلمقة»،
١٠ أو «يا المقة».
هذا إضافة إلى ما يجب وضعه في الاعتبار عن اعتياد القرآن الكريم
القسم بمقدسات عرب قبل الإسلام وتمجيدها، مثل قسمه بالشمس والقمر
صراحة، وبالكواكب الخمسة المعبودة المعروفة بالخنس، الجوار الكنس
في قوله: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ
(التكوير: ١٥). أو كما في قوله: فَلَا
أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (الواقعة:
٧٥).
وقد كان من أسماء الإله القمر لدى عرب الجنوب الاسم «شهر». وكان
منتشرًا بدوره في كل اللغات السامية كعلم على إله القمر في حالة
الهلال، ولم يزل مستعملًا إلى الآن في اليمن.
١١ وقد جاء بالاسم والمعنى نفسيهما في القرآن الكريم في
قوله:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ (البقرة: ١٨٥) بمعنى من شهد منكم
الهلال!
(٣) الأب الودود
وقد عبد المعينيون القمر بالاسم «ود»، ويعني الأب، والودود أو
الحنون، وفي عبادة هذا الإله المعيني دعم آخر لنظريتنا التي
طرحناها مقابل نظرية «فرويد»، ورأينا فيها أن طقس التضحية هو تكرار
لحدث استشهاد الأب الأول دفاعًا عن أبنائه في معركة مع ضارٍ شرس.
ثم تحول الأب بعد موته ليحل في طوطم حيواني (خروف أو تيس أو ثور)،
وبعدها ارتفع — في نظر أبنائه وأحفاده — ليتلبس بالقمر، للتشابه
بين قرني الطوطم الأرضي وبين الهلال.
وقد جاءت النصوص تشير إلى الإله القمر بالصيغة «ودم شهرن»، وهي
تعني الأب القمر «ود = الأب + شهر = الهلال + ن أداة التعريف
اليمنية = الأب القمر». وقد ورد في صيغة أخرى هي «دم شهرن»
١٢ وتحمل المعنى نفسه «الآب القمر».
ونلاحظ هنا أن الأب حمل في اسميه معاني الود والرحمة والمحبة،
إضافة إلى دماء الشهادة والتضحية، فدخل في تركيب اسمه — إضافة للود
— معنى الدم، في «ودم»، وفي «دم»، وما زلنا نعبِّر إلى اليوم عن
الروابط القرابية بأنها صلة «دم». ونعني بها القرابة من جهة الأب
بالذات؛ لأن قرابة الأم صلة «رحم»، والميم في «ودم شهرن» هي للصلة
والاتصال والربط بين «ود» و«شهرن»، ويدعمنا أكثر أن «ود» الأب الذي
حارب الضواري واستشهد في سبيل أبنائه — في نظريتنا — قد مثَّله
الجنوبيون في هيئة رجل مقاتل شجاع محارب،
١٣ ولقبوه بعدد من الألقاب التي تحمل معاني التبجيل
والحب. فناداه اللسان اليمني «صدوق» أي الصادق،
١٤ و«نهى» أي الحسن، و«رضى» أي الراضي الرحيم، و«حكم»
١٥ أي الحكيم، و«رحمن» أي الرحمن،
١٦ و«حريمن» أي المحرم أو القدوس،
١٧ والرب، والملك، والعزيز، والعادل، والأمين.
١٨ أما أبلغ الأدلة على تطابق عبادة القمر لدى المعينيين
مع نظريتنا، فتتمثل في اعتقاد المعينيين أنهم إنما هم أبناء
مباشرون للقمر «ود»، حتى أطلقوا على أنفسهم «ﻫ ود» أو «هود».
١٩ والهاء تفيد الانتساب والبنوة، ويصبح المعنى «أبناء
ود» أو الأبناء الذين في الأرض للأب الذي في السموات.
٢٠
(٤) المقة
«المقة»، هو اسم القمر السبئي، كما ورد عند الباحثين في آثار
الجنوب العربي. ويعد السبئيون أنفسهم أولاد الإله «المقة».
٢١ ويعد أشهر آلهة اليمن، فقد ورد اسمه في النقوش
المكتشفة حتى عهد قريب أكثر من ألف مرة.
٢٢ ويقول الباحثون: إن الاسم يعني اللامع أو الثاقب،
لكننا نرى أن هذا الاسم الغريب يحتاج جهدًا آخر في التعامل
معه.
ووجه الغرابة — في نظرنا — يكمن في أمرين: الأمر الأول يتعلق ﺑ
«الألف واللام، اﻟ» في بداية «المقة»، ونحن نعلم أن أداة التعريف
في العربية الشمالية هي «الهاء، ﻫ» في أول الكلمة، مثل «هبعل» أي
الإله «بعل»، وكانت في العربية الجنوبية هي «النون، ن» تضاف إلى
نهاية الكلمة مثل «رحمنن» أي الرحمن، فما دلالة الألف واللام في
اسم «المقة»؟
والأمر الثاني يتعلق بالتاء الأخيرة في «المقة»، والتاء في
العربية القديمة، شمالية وجنوبية، كانت تضاف آخر اللفظة للتأنيث،
بينما نفهم من النصوص السبئية أن «المقة» إله ذكر، قال الباحثون
إنه إله القمر السبئي، فما حكمة إضافة تاء التأنيث لاسم علم يدل
على إله ذكر؟
ولنبدأ بالمشكلة الأولى: «الألف واللام، اﻟ»، وأظنني وجدت حلها
فيما أشار إليه «موسكاتي» عن شخصية إلهية غامضة تسمى «إل»،
٢٣ وقد كان «إل» اسمًا إلهيًّا في بلاد الرافدين وبلاد
الشام القديمة، وهو فيما يؤكد لنا «د. جواد علي ونولدكه وآخرون»،
كان إلهًا ساميًّا معروفًا في كل العبادات السامية
٢٤ إلا أنهم لم يوضحوا لنا دلالته بشكل صريح، كذلك يؤكد
لنا «ديتلف نيلس» أن معبودًا باسم «إل» كان معروفًا في كل بقاع
جزيرة العرب، ويرى أنه كان اسمًا ذا دلالة عامة، يستعمل كبديل لكل
اسم إلهي في حديث الغائب، فيقال «إل كذا» ويتبع «إل» اسم الإله
المقصود، ويضيف «نيلسن» أن «إل» ورد كعلم لإله خاص في النقوش
السبئية والقتبانية،
٢٥ لكنه بدوره لم يوضح لنا أي إله خاص تسمى بالاسم «إل»
وعلى أية منطقة من الطبيعة أو على أية ظاهرة طبيعية كانت دلالته.
هذا وقد أفادنا «ريكمانز» أن «إل» قد جاء في النقوش السبئية يحمل
اللقبين «فخر» بمعنى العظيم و«تعلى» بمعنى تعالى،
٢٦ كما أفادنا «هوبر» بأنه قد عثر على «إل» في النقوش
الثمودية بالصيغة «إله ن» وتعني الله.
٢٧
وتأسيسًا على هذه المعاني، يمكننا الزعم بأن «الألف واللام» في
أول «المقة» إنما تعني الله أو الإله، وتصبح لفظة المقة تعنى
«الإله مقة»، أو «الرب مقة».
وتبقى الإشكالية الثانية وهي «تاء التأنيث» الأخيرة، وأتصور أن
حلها يمكن العثور عليه في نص قتباني يشير إلى موضع الذبائح المقدسة
بقوله: «مختن ملكن بمكي»،
٢٨ وتعني مذبح الملك بموضع مكي، أو المذبح الملكي في
منطقة مقدسة أطلق عليها النص اسم مكي، ولأن المذبح لا يكون إلا في
معبد، إذن فمعبد الإله هنا ومزاره المقدس في منطقة «مكي»، فهل هناك
علاقة بين الاله «المقة» وبين مكي؟ هناك مشكلة ظاهرة يمكن أن تواجه
هذا الاقتراح، وهي أن النص «مختن ملكن بمكي» نص قتباني، يشير إلى
معبد إله القمر القتباني، وإله القمر القتباني كان هو الإله «عم»
وليس «المقة»، إلا أني أعتقد أن هذه المشكلة الظاهرية ستساعد على
الحل، أكثر من إثارتها للإشكالية، ولنطرح الآن تصورنا للحل في
الخطوات التالية:
- (١)
ورد عند «ابن طيفور المصري» و«القيروان» أن أهل
اليمن كانوا يقلبون القاف كافًا كما يفعل أهل فلسطين
اليوم، ومن هنا لا تستبعد العلاقة بين «المقة»
و«مكي».
- (٢)
إن إشارة النص القتباني إلى المذبح الملكي بكونه في
الموضع «مكي»، مع ما عرفناه عن تقديسهم للإله «إل»
وتلقيبه بفخر وتعلى، والصيغة الثمودية التي عثر عليها
هوبر «إله ن» أي الله، والتي تشير إلى «إل»، وما
عرفناه عن «إل» كعلم دال على إله خاص عند القتبانيين
والسبئيين معًا فيما زعم «نيلسن»، ومع ما زعمناه حول
كون «الألف واللام» في أول «المقة» إنما هي «إل»،
وتعني إله أو رب، مع هذه المجموعة من الإشارات نجدنا
مدفوعين دفعًا إلى استنتاج أن معبد «إل» على الأرض
سواء أكان قتبانيًّا أم سبئيًّا، إنما كان يشار إليه
بالاسم «مكي»، ويقدس معبده ومحيطه كحرم خاص بالإله
«إل».
- (٣)
ومن هنا نقترح أن يكون اسم «المقة» ليس خاصًّا لإله
خاص، إنما يعني «إل = إله + مقة أو مكي = معبد الإله
على الأرض»، وهنا ننتقل خطوة أخرى فنقول إن ترجمة
«المقة» بالإله أو الرب مقة ترجمة غير دقيقة، ويجب أن
تكون «إله أو رب مقة أو مكي»، أي إله المعبد الحرام
الموجود على الأرض ويسمى مكي.
- (٤)
وتأسيسًا على ذلك لا يعد «المقة» اسم علم يطلق على
إله القمر السبئي، إنما تصبح «المقة» تعني «رب البيت»،
ولأن رب البيت أو إله مكي هو القمر، ولأن الرب
المعبود، في عموم دول الجنوب هو القمر، فقد أُلقي في
روع الباحثين أن اللفظ «المقة» الوارد بكثرة في النقوش
السبئية، هو اسم علم أطلقه السبئيون على إلههم
القمري!
- (٥)
ومع هذا الفهم تصبح «تاء التأنيث» في آخر «المقة»
مفهومة، إذا لم يكن «المقة» إلهًا ذكرًا، إنما معبد
يحيطه موضع حرام مقدس للإله على الأرض.
- (٦)
ويدعم رؤيانا هذه أنه جاء في النصوص السبئية أكثر من
إشارة للإله المعبود باسم «ذوي سموي»،
٢٩ أي رب السماء أو صاحب السماء أو الذي في
السماء. وهذا إنما يعني أن رب السماء (وهو هنا إله ذكر
وليس أنثى) هو «إل» أو «إله ن» بالذات وبشكل خاص، أما
«المقة» أو «مكة» فلم تكن سوى حرم معبد هذا الإله على
الأرض، أي يصبح «إل» هو «ذوي سموي» رب السماء ورب
البيت المقدس له على الأرض.
- (٧)
أنه قد ثبت في النقوش: أن زوجة إله القمر وهي الشمس،
قد أطلق عليها اسم «إلات»،
٣٠ ومن هنا يصبح «إل» هو إله القمر؛ لأن
«إلات» الشمس هي مؤنث «إل»، وتتضح التسمية الحسية
تمامًا ﻟ «إل» بأنه «ذوي سموي» أو الرب الذي في
السماء.
- (٨)
أنه كان من عادة ملوك اليمن التسمي بالأسماء
الإلهية، ضمانًا لاكتساب القدسية المسوِّغة للحكم
بالحق الإلهي، ومن هذه الأسماء «إل ذرح» أي الله
المضيء و«إل شرح» أي الله المتلألئ و«إل يسع» أي الله المشع.
٣١
- (٩)
وعليه نصل إلى نتائج هي:
-
أن «مقة أو مكي أو مكة» تشير إلى موضع
الحرم الإلهي على الأرض.
-
أن «المقة» إنما تعني رب البيت.
-
أن رب البيت هو «إل» هو «الفخر تعالى»
هو «ذوي سموي» هو رب السماء هو «إله ن» هو
«الله».
(٥) ثالوث إل
ومع «إل» إله السماء الذكر أو «القمر»، ومع «إلات» إلهة السماء
الأنثى أو «الشمس» جاء الضلع الثالث ممثلًا في الوليد الإلهي «عثتر
سمين» أي عثتر السماء، الذي أشارت إليه النصوص بالاسمين:
«آزيزوس
Azizos» وكان يتقدم
الشمس عند شروقها، و«مونيموس
Monimos» وكان يتبع الشمس حين غروبها،
٣٢ هو كوكب الزهرة؛ لذلك نستنتج أن الزهرة كان إلهًا
ذكرًا، أخذ دور الابن في الثالوث المقدس عند عرب الجنوب وحمل
اللقبين: «العزيز آزيزوس» و«المنعم مونيموس»، ويذهب بعض الباحثين
إلى أنه المقصود بالنجم الثاقب في القرآن الكريم.
٣٣
و«العزيز» ترد في صيغة أخرى هي «عزين»،
٣٤ ونظنها تقابل الصيغة «عزيم» في اللسان العبري، إذا
أخذنا في الحسبان خلط اللسان بين حرفي اﻟ «ن» واﻟ «م»، و«العزيم»
في العبرية ليس سوى الماعز، والتيوس بوجه خاص، وهو ما يعيد إلى
أذهاننا صفة الأب القمر كثور أو خروف أو تيس؛ لذلك حملت لنا اللغة
في حفرياتها ما يؤكد أن الابن قد حمل — بدوره — عن الأب الصفة
نفسها. وأن الإصرار على تصوير الآلهة القمرية في الجنوب بصور
الحيوانات المشهور عنها قدرة الإخصاب الجنسي، وكانت رموزًا لآلهة
الخصب عمومًا، سواء في بلاد الرافدين أم الشام أم مصر، حيث كان
الثور والتيس ممثلين لآلهة الفداء المعروفة بآلهة الخصب، يطرح
علينا تساؤلًا: هل عرفت بلاد اليمن القديمة، في عصور ازدهارها كيمن
سعيد زراعي خصب، عبادة الخصب وما رافقها من طقوس الجنس الجماعي،
ونذر البنات للمعابد كبغايا للإله؟
الحقيقة أننا لم نعثر بهذا الصدد على مؤيدات واضحة، إنما عثرنا
على ما يضع الأمر موضع الترجيح، فقد جاءت لنا النصوص القتبانية
بأسماء نساء دخلن سلك الكهنة وقدمن أنفسهن كمنذورات للمعابد،
٣٥ كما جاءنا نقش من معين يصور إلهة على هيئة امرأة تحمل
سنابل في يدها اليسرى، وتنشر الخير فوق الجميع بيدها الأخرى، وهي
دلالة واضحة على إلهة خصب بلا لبس، وخاصة سنابل الحبوب التي
استخدمت كرمز خصب في كل العبادات الجنسية القديمة، ويمكننا أن نفهم
السر في اعتبار سنابل القمح رمز خصب، إذا أخذنا في اعتبارنا هيئة
حبة القمح المفلوقة، التي كانت في نظر الإنسان القديم فرجًا
صغيرًا، وملاحظة أنها عندما تُروى بالمياه كما يُروى فرج الأنثى
بمياه الذكر، تنفلق الحبة عن حياة جديدة ممثلة في نبتة جديدة، كما
ينفلق فرج الأنثى عن المولود الجديد، هذا إضافة إلى ما أورده
الباحثون أنه كان لدى يمن الجنوب طقس يمارس عند إصابة المنطقة
بجفاف، فيخرجون بالأضاحي إلى العراء، ويرددون أدعية وأناشيد ما
زالت تردد إلى الآن في المناسبات نفسها وفي المنطقة نفسها.
٣٦
أما طقس التضحية الذي عرفناه إبداعًا خاصًّا بالمجتمع الأبوي
الرعوي، والذي استمر بعد تزاوج المجتمعين الأبوي والأمومي، وعبادة
الخصب في هذه المجتمعات، واقتران الأضاحي بطقوس الجنس. فإننا نجد
له ترديدًا واضحًا في القرابين الحيوانية، التي كانت تقدم لآلهة
اليمن، وفي النقش «مختن. ملكن. بمكي» كانت كلمة مختن تعني المذبح،
ومنها الختان الذي هو بديل عن الذبح الكلي للطفل كقربان للإله، وهو
بدوره رمز جنسي واضح، يرجح نوعًا من الطقوس الجنسية في العبادات
اليمنية.
وهناك أسطورة حبشية تدخل في صلب الاعتقادات الدينية الحبشية
تقول: إن سلسلة أباطرة الحبشة هم نسل الأنثى الشمسية «ماكد»
المعروفة في الأساطير باسم «بلقيس» ملكة اليمن، بعد أن ضاجعها إله
القمر «حكيم»، المعروف في الأساطير باسم «سليمان»
٣٧ مع ملاحظة أنه كان هناك تواصل دائم بين بلاد اليمن
وبلاد الحبشة، نتيجة للتقارب الجغرافي والتبادل التجاري. والأسطورة
تشير بوضوح إلى الاعتقاد في نوع من العبادة الجنسية، ناهيك عن كون
الآلهة اليمنية تشكل ثالوثًا يقوم فيه الجنس بدور رئيسي، حتى تكتمل
أضلاع الثالوث.
ورغم كل هذه الشواهد فإنها لا تضع الاقتراح بوجود عبادة جنسية في
الجنوب اليمني موضع اليقين قدر وضعه موضع الترجيح، فإن لدينا
كثيرًا من الشواهد التي يمكننا بها دعم هذا الاقتراح دعمًا قويًّا،
وسيأتي ذكرها في حينه.
(٦) إلى مكة
من المعروف أنه بعد انهيار مركز اليمن السعيد التجاري، ودمار سد
مأرب الشهير، نزحت القبائل اليمنية نحو الشمال؛ لتستقر في أنحاء من
بلاد العرب، واستقرت أكبرها «خزاعة» في المنطقة التي أصبحت تعرف
باسم مكة.
٣٨ ومن الطبيعي أن تحمل هذه القبائل في رحلها معتقداتها
وآلهتها وطقوسها الدينية، ومن الطبيعي أيضًا أن يرحل «رب البيت» مع
أصحابه ليتقدس له بيت جديد على الأرض في مكة!
وقد لاحظت الباحثة اليمنية «ثريا منقوش» التشابه بين ما اعتقدت
أنه إله قمري لسبأ باسم «المقة» وبين «مكة»، وربطت بين الاثنين في
ضوء ما جاء عند «ابن طيفور المصري» و«القيرواني» عن بعض أهل اليمن
ولَكْنهم القاف كافًا، وما جاء على لسان النبي «محمد»
ﷺ حول
الفقه اليماني والحكمة اليمانية، لتصل من ملاحظاتها إلى أن أهل
اليمن هم أصل التوحيد الذي جاء بعد ذلك في الدين الإسلامي، وأتصور
أنه بعد جهدنا في التعامل مع الاسم «المقة»، يمكن أن تكون ملاحظة
الباحثة حول التشابه بين «المقة» و«مكة» قد تدعمت بشكل كافٍ، كما
أن تعاملنا الآتي مع الطقوس التي صاحبت البيت المكي الحجازي، سيضيف
إلى «منقوش» مزيدًا من الدعم والأسانيد، في احتمالها أن يكون «مكة»
الحجازي هو «المقة» اليمني، وخاصة مع ما جاء عند «المسعودي» عن
البيت الإلهي الحجازي أنه خطط أصلًا لعبادة الكواكب السيارة.
٣٩ وغني عن الذكر أن أبرز الكواكب السيارة المؤلهة هي
القمر الأب والشمس الأم والزهرة الابن، أو الرب «إل» والأم «إلات»
والابن «عثتر».
وفي الروايات الإسلامية أن منطقة الحجاز كانت صحراء بلقعًا، حتى
انفجرت زمزم تحت خد «إسماعيل» طفلًا، فكان أول مَن جاء واستقر
بجوار البئر رَكْب من اليمن.
٤٠ مضافًا إلى ذلك ما جاء عن «عمرو بن لحي الخزاعي» عند
الإخباريين المسلمين، باعتباره أول حاجب للبيت الحجازي الإلهي، وفي
ذلك إشارة واضحة إلى بداية حجابة هذا البيت مع الخزاعيين القادمين
من اليمن، وخاصة إذا علمنا أن هذه الحجابة الأولى للبيت، لا تبعد —
زمانيًّا — عن تاريخ دمار سد مأرب وتشتت القبائل اليمنية بأكثر من
نصف قرن.
٤١ مع لمحة مهمة جاءت في كتب التراث الإسلامي، وتحكي عن
«تُبَّع الثاني» أحد ملوك اليمن، الذي قدم البيت الإلهي الحجازي،
وطاف به، وقام ينحر للناس ويطعمهم، ثم كسا البيت بالبرود اليمنية،
وجعل له مفتاحًا.
٤٢ ذاك المفتاح الذي استلمه الخزاعيون، وأصبح فيما بعد
محل صراع ونزاع انتهى به إلى يد «قصي بن كلاب»، الذي ألف القبائل
«وقرشهم تقريشًا، ومنها قريش» ضد خزاعة، وأخرجهم وانتزع منهم البيت
الإلهي. وسواء أحدثت قصة «تبع الثاني» أم لم تحدث، فهي تعبير عن
ترجيع الذاكرة لصدى أحداث وظروف نشأة البيت وعلاقته بأهل اليمن،
حتى جعلت مفتاحه بين اليمنيين.
ولا يفوتنا هنا ما أكدته الباحثة «منقوش» — على ذمتها — أن
كثيرًا من عادات الحج للبيت الحجازي، كانت على غرار التقاليد
اليمنية القديمة في تأدية فروض العبادة والحج للإله «المقة» وإن
كانت لم تورد مؤيدات واضحة لتأكيدها هذا.
٤٣
(٧) عبادة الجنس
وسُمي الموضع المقدس المحرم الحرام في الحجاز بالاسم «مكة»،
وأطلق على إله هذا الموضع المقدس اسم «رب البيت»، وكان التعبير «رب
البيت» هو التعبير الدارج والمفضل قبل الإسلام على ما نشاهد في كتب
التأريخ الإسلامي. أما رب البيت عند عرب قبل الإسلام، أو ما اصطلح
على تسميتهم بالجاهليين، فقد حمل الاسم «الله». ولعله ليس بخافٍ أن
الله من «إل» و«إله ن»، بعد أن حلت أداة التعريف في العربية
العدنانية «الألف واللام» في أول الكلمة محل أداة التعريف في
العربية القحطانية واليمنية «ن»، إضافة إلى «إلات» الإلهة المقدسة
والزوجة الأم، و«هبل» كبير أصنام الكعبة. ونظنه قام هنا بدور الإله
الابن، إذا أخذنا بالحسبان أن الاسم «هبل» هو في الأصل «ﻫ، بعل» أو
«هبعل». والهاء كانت أداة التعريف في العربية الشمالية وظلت على
حالها، بينما أهملت العين بالتخفيف مع مرور الزمن. أما «بعل» في
«هبعل» فهو اسم إله الخصب في البلاد الكنعانية الشامية المتصلة
جغرافيًّا وتجاريًّا بمنطقة مكة اتصالًا وثيقًا. وقد كان بعل إلهًا
معروفًا ومنتشرًا انتشارًا هائلًا في البلاد الشامية كإله للخصب،
وصاحبته طقوس جنسية تفشت تفشيًا عظيمًا في مختلف تلك المناطق، وقد
كان في الأساطير الأوجاريتية الشامية ابنًا للإله «إل».
٤٤
ويبدو أن توسط منطقة «مكة» بين بلاد الشام وبلاد اليمن، وما كان
من تواصل مستمر بينها وبين مكة، أدى إلى تداخل بين عقائد المنطقتين
في مكة، فدخل «بعل»، وحل محل «عثتر سمين» كابن للإله أو «إل»،
ويلقي لنا الإخباريون المسلمون بظلال هذا التداخل في الرواية التي
تقول: إن «عمرو بن لحي الخزاعي» سافر من مكة إلى الشام في تجارة،
فرآهم هناك يتعبدون لآلهة الخصب هذه، وكان مما أحضره «هبل وإساف
ونائلة» فوضع هبل في فناء الكعبة، ووضع «إساف» على الصفا ووضع
«نائلة» على المروة.
٤٥
وإذا كان «هبل» في الأصل «بعل» إله الخصب صاحب الطقوس الجنسية،
فهل عرف البيت الإلهي الحجازي هذا النوع من الطقوس؟ إذا كان ذلك
كذلك، فإنه سيدعم احتمالنا الذي سبق أن طرحناه عن ترجيح وجود عبادة
جنسية غابرة في عبادة «المقة» اليمنية.
ولنبدأ محاولة الإجابة مع «إساف» و«نائلة».
تقول كتب التأريخ الإسلامية: إن الصنم «إساف» كان معبودًا ذكرًا
على جبل الصفا، وأن الصنم «نائلة» كان معبودًا أنثى على جبل
المروة، وأنهما كانا شخصين حقيقيين، دخلا فناء الكعبة، وهناك فجر
إساف بنائلة، فمسخهما الله هذين الصنمين!
٤٦
لكن، كيف للعقل أن يستسيغ هذه الرواية الإسلامية عن «إساف»
و«نائلة»، في ضوء حقيقة أن الصفا والمروة كانا مقدسين لدى
الجاهليين، كذلك «إساف» و«نائلة» كانا ربين جديرين بالتبجيل
والتقديس، وكانوا يسعون بينهما سبعة أشواط، ويتمسحون بهما، ويقصون
شعورهم عندهما، في طقس مهم من طقوس الحج.
٤٧ وعندما جاء الإسلام أقر السعي بين الصفا والمروة
أشواطًا سبعة، واعتبرها من شعائر الله في الحج. فهل كان عربي قبل
الإسلام، يقدس ويبجل من ذكرت الرواية الإسلامية أنهما فجرا ومارسا
الفعل الجنسي في فناء الكعبة؟
الحقيقة أنه لا يمكن فهم هذا الأمر إلا إذا كان فعل «إساف»
و«نائلة» بالكعبة في نظر عبادهما ليس فجرًا بل عملًا مقدسًا،
وأنهما كانا يتمثلان عبادة جنسية سادت زمانًا في هذه المنطقة، وأن
السعي بينهما لم يكن في المقاييس الخلقية القديمة أمرًا مشينًا، بل
كان نوعًا من العبادة المقدسة والمقررة في نظر أصحابها، والتي كانت
منتشرة في بقية بقاع المنطقة انتشارًا هائلًا، خاصة في بلاد الشام
والعراق بوجه خاص، وبقية بلاد الهلال الخصيب بأكملها، دونما إحساس
بأنه أمر مخجل أو معيب، وكل ما في الأمر أن الرواة المسلمين عندما
واجهوا هذه المسألة بالمقاييس الأخلاقية الجديدة، لم يستسيغوا
الأمر على هذا الشكل، فسموا الفعل الجنسي المقدس فُجرًا قام به
«إساف» و«نائلة» فمسخا صنمين.
وهذه الحقيقة الأولى، نضعها في رصيد ترجيحنا وجود عبادة جنسية في
المنطقة في أدوارها الأولى.
(٨) وهناك علامات
والعجيب حقًّا أن الروايات الإسلامية عندما أرادت تفسير السر في
استمرار تقديس الصفا والمروة في الإسلام، واستمرار السعي بينهما في
شعائر الحج الإسلامي، استبدلت الذكر «إساف» والأنثى «نائلة»، بذكر
وأنثى مرة أخرى، ممثلين في «آدم» و«حواء» ليقوما بالفعل الجنسي
بدلًا من «إساف» و«نائلة»، إذ أمر الله «جبريل» أن يُنزل «آدم» من
على الصفا، و«حواء» من على المروة إلى خيمة نصبت موضع البيت، وهناك
جمع بينهما في الخيمة، وبني البيت بحجر من الصفا وحجر من المروة،
٤٨ أو بمزيج من الذكر والأنثى؟ بل يقال إن ما لله تعالى
من منسك أحب إليه من موضع المسعى بين الصفا والمروة
٤٩ وهذه حقيقة أخرى نضيفها لرصيد احتمال وجود عبادة جنسية
في البيت الإلهي المكي في عهوده القديمة.
وهناك رواية إسلامية أخرى تقول: إن «آدم» و«حواء» عندما هبطا من
الجنة نزلا مفترقين، وظلا هائمين حتى التقيا، وعرف «آدم» «حواء»
(أي جامعها، والتوراة بشكل خاص تصر على استخدام لفظ عرف بمعنى
جامع) على جبل عرفة؛ لذلك عرف الجبل باسم عرفة؛ لأن «آدم» عرف أو
جامع «حواء» عليه!
٥٠ ومن هنا تقدس الوقوف بعرفة، وكان الوقوف بعرفة من أهم
مناسك الحج الجاهلي، فكانوا يتجهون إلى هناك زرافات ذكورًا
وإناثًا، يبيتون ليلتهم حتى يطلع عليهم النهار. وإن العقل ليتساءل
أمام مشهد ألوف الرجال والنساء يتجهون إلى الجبل ليبيتوا هناك
جميعًا حتى الصباح: ما وجه القدسية في هذا الطقس؟ إن لم يكن من قبل
ذلك تجمعًا لممارسة طقس الجنس الجماعي طلبًا للغيث والخصب، ملاحظة
أن عرفة يطلق عليه الجمع «عرفات»، ولا نعرف جبلًا يجمع اسمه إلا
«عرفات»! فهل الجمع هنا للجبل أم للمجتمعين على الجبل في حالة
جماع، أو عرفات، يماثلون به الفعل الأول الذي قام به «إساف» عندما
عرف «نائلة»، أو «آدم» عندما ضاجع «حواء»، أو إله القمر «إل» عندما
جامع الشمس «إلات»؟ وهذه حقيقة ثالثة نضيفها إلى الرصيد.
ولو عدنا إلى طقوس الحج الجاهلي فسنجد طقسًا عجيبًا ومثيرًا، وهو
أنهم كانوا يطوفون حول البيت الإلهي ذكورًا وإناثًا عراة تمامًا،
٥١ فما الداعي لهذا العري إن لم يكن بغرض يستحق العري؟
وعندما جاء الإسلام جعل للإحرام زيًّا لا يستر إلا العورة، بل وحرم
لبس المخيط وكره لبس الطيلسان المزرر للمحرم.
٥٢
وهناك رواية إسلامية تقول: إن الحجر الأسود كان أبيض لكنه اسودَّ
من مس الحيض في الجاهلية؟
٥٣ أي إنه كان هناك طقس لدى الجاهليين تؤديه النساء في
الحجر، وهو مس الحجر الأسود بدماء الحيض، ودماء الحيض تحديدًا! وقد
كان دم الحيض عند المرأة في اعتقاد الأقدمين هو سر الميلاد، فمن
المرأة الدم، ومن الرجل المني، ومن الإله الروح. علمًا أن الدورة
الشهرية للمرأة تتوافق مع حركات القمر توافقًا بيِّنًا، وكان «إل»
كما علمنا هو إله القمر!
وطقس عجيب آخر هو الاحتكاك بالحجر الأسود
٥٤ بل إن كلمة حج مأخوذة أصلًا من فعل الاحتكاك، فهي في
أصلها من «ح ك»،
٥٥ مع الأخذ بالاعتبار هيئة الحجر الأسود وشكله.
وفي الروايات الإسلامية أن «جبريل» بعد أن أخذ «آدم» وأراه مناسك
الحج كلها قال له: «إن الله تبارك وتعالى قد غفر لك وقبل توبتك،
وحلت لك زوجتك.»
٥٦ وفي التفسير أن مكة سميت بكة؛ لأنه يبك بها الرجال
والنساء. وأن الحطيم ما بين الحجر الأسود وباب البيت سُمي حطيمًا
لأن الناس يحطم بعضهم بعضًا هناك.
٥٧
وهناك غير ذلك شواهد ودلالات على عبادة الخصب والجنس، فالروايات
الإسلامية تقول: إن «عمرو بن لحي الخزاعي» أحضر «هبل» و«إساف»
و«نائلة» من «هيت» على شاطئ الفرات فوق الأنبار من نواحي بغداد.
٥٨ ومعروف لدى جميع الباحثين أن هذا المكان بالذات كان
مرتعًا تفشت فيه عبادة الخصب وطقوس الجنس بشكل وبائي حاد. وجاء عند
الباحثين أن العرب قدسوا من سموهم بنات الله، وكن بالدرجة الأولى
تمثيلًا للقوى المولودة في الطبيعة
٥٩ وكان لقريش وبعض العرب شجرة خضراء عظيمة يقدسونها
تُسمى «ذات أنواط»،
٦٠ والاسم «ذات أنواط» هو أحد ألقاب الشمس التي عرفناها
بالاسم «إلات» كإلهة أم أنثى، وفي ذلك ما يدعم علاقتها بالخصب
والجنس في نظر العرب، كما كان لمزدلفة كشعيرة حج — في الأصل — إله
يُدعى «قزح»، وهو إله برق ورعد ومطر.
٦١
ثم ما الداعي لطقوس أخرى مثيرة في الحج الجاهلي، ولا معنى لها
إلا في ضوء احتفالات الخصب والجنس، مثل طقس الشرب من زمزم، وحتى
الاسم زمزم وهو من الزمزمة، والزمزمة صوت الرعد
٦٢ الذي يسبق المطر، وما لزوم طقس حلق الشعر — وبالذات
عند المروة — الذي لا يمكن فهمه بالمرة، إلا في ضوء طقوس الخصب
الجنسية القديمة، والذي كان بديلًا عن الجنس الجماعي، خاصة أنهم
كانوا يمزجونه بالدقيق، ويترك للفقراء، يصنعونه فطيرًا على هيئة
القمر، إضافة إلى الذبح كطقس أساسي
٦٣ وصلاة الغيث وإهداء الجواري للكعبة، والذي استمر في
صدر الإسلام.
٦٤ ويذكرنا بالمنذورات للمعابد في ديانات الخصب القديمة،
أو ما جاء في استفسارات غريبة من المسلمين، مثل سؤال «أبي بصير»
لأبي عبد الله عن محرم نظر إلى فرج امرأة في الحج حتى أمنى، فأجاب
بأن عليه الفداء بأن يذبح هديًا.
٦٥
ولدينا أيضًا ما جاء في قول «عمر بن الخطاب» من على المنبر إبان
خلافته: «متعتان كانتا على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهما وأعاقب
عليهما: متعة الحج، ومتعة النساء».
٦٦
إذ كان النبي في حجة الوداع قد قال: ابدءوا بما بدأ الله عز وجل
به، فأتى الصفا فبدأ به، ثم طاف بين الصفا والمروة سبعًا، فلما قضى
طوافه عند المروة قام فخطب في أصحابه وأمرهم أن يحلوا ويجعلوها
عمرة، ويتمتعوا بالحج، والمتعة هنا أي اللذة بإباحة محظورات
الإحرام في المدة المتخللة بين الإحرامين، حتى قال قائل كما أخرجه
«أبو داود» في سننه: أننطلق وذكورنا تقطر؟ فقال النبي: «إذا استمتع
الرجل بالعمرة فقد قضى ما عليه من فريضة المتعة.»
٦٧
أما أهل اليمن، فكان لهم ميزات خاصة بما لهم من سابقة؛ إذ رفع
الإسلام عنهم الذبح والحلق،
٦٨ وجاء عن النبي: «طوفوا بالبيت واستلموا الركن، فإنه
يمين الله في أرضه يصافح بها خلقه»،
٦٩ والركن هو «الركن اليماني»، وذهب وهب إلى أن الركن
اليماني ياقوتة من الجنة أنزلت على الصفا،
٧٠ وكان الحجيج يمسحون — عادة — الحجر الأسود والركن اليماني،
٧١ ولا يزالون.
وظل للقمر دوره واحترامه في الإسلام، بعد أن تحول من «إل» أو
الله إلى آية من آيات الله، فوُضع فوق المآذن مع النجمة رمزًا
للزهرة! وظلت الشهور قمرية، والحج قمريًّا، والصيام قمريًّا
بدويًّا كامل الجوع، بعكس الصيام الزراعي، كما في صيام العذراء
المسيحي، الذي يمنع من تناول الطعام الحيواني، ويقتصر على تناول
النبات، بل ظن أكثر الناس أن العلة في صيام الأيام البيض لأن
لياليها مقمرة، لولا أن الفقهاء لاحظوا ذلك فقالوا: إن العلة
الحقيقية هي أن آدم هبط إلى الأرض مسودًّا من الذنب، فناداه منادٍ
من السماء أن يصوم ثلاثة أيام هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس
عشر من الشهر القمري (وهي الليالي المقمرة تمامًا)، فعاد أبيض.
٧٢
الحقيقة أنه لا يمكن فهم هذا كله إلا في ضوء عبادة الثالوث
القمري، وأن هذه العبادة قد رافقها في أصلها اليمني طقوس جنسية
واضحة، وانتقلت من مكي مع «إل» إلى مكة، وظلت عند الجاهليين، وبقيت
منها بقايا تشير إليها، في كثير من الطقوس، التي ظلت في شعائر الحج
الإسلامية، فيما أبقاه الإسلام من الشعائر الجاهلية، لكن بعد أن
نقَّاها من شوائبها القديمة، وارتقى بها بما يتفق والمقاييس
الخلقية الجديدة.
(٩) «إل» العبري
عندما نرحل شمالًا من جزيرة العرب — عبر بادية الشام — نحو
الهلال الخصيب (العراق وسوريا ولبنان وفلسطين القديمة)، نجد «إل»
مرة أخرى أمامنا، يصول ويجول عبر مساحات شاسعة في عقول الأقوام
هناك، لكن مع وضوح الكسر في همزة «إل» وتحولها بالتدريج إلى «ياء»
في نطقه «إيل»، مع زوجته. «إلات» وهو الاسم الجنوبي نفسه. وقد جاء
عند شعوب الساحل الفينيقي (اللبناني) أن زوجة «إيل» هي
Asherat de la mer التي تنطق
عادة في المراجع «عشيرات البحر».
٧٣ بينما من الواضح جدًّا أنها «أثرت»، و«عشيرات» و«أثرت»
هذه قد حملت أيضًا اسم «إلات» مع تحويل الكسر في الهمزة إلى ياء
لتصبح «إيلات»، التي لم يزل اسمها علمًا على خليج البحر الأحمر
الشرقي حتى الآن. أما زوجها «إيل» الذي عرفناه قبلًا إلهًا للقمر،
فقد حظي في تلك الربوع الخضراء بالتمجيد الملائم لعظمته. وأنشئت له
بيوت حرام أصبح ما حولها حرمًا للإله. ولم يزل من هذه البلدان
المحرمة حُرمة البيت المنشأ فيها «بيت إيل» الحالية والواقعة على
بعد ستة كيلومترات شمالي مدينة القدس، بعد أن تحورت مع الأيام إلى «بيتين».
٧٤
أما الرافديون القدماء فقد عرفوه بالاسم «إيلو» مع إضافة حرف
الواو للتفخيم، فهو اسم جمع ونوع من جمع الجلالة،
٧٥ ولكن الآراميين عرفوه بالاسم «إله»، كذلك العبريون
عرفوه بالاسمين «إيل، والله».
٧٦ وقد حمل الصفات نفسها التي صبغه بها اليمنيون، صفات
الأب الحنون الرحيم الذي فدى أبناءه في سالف الأزمان، فنجده في
الأدب الأوجاريتي «الكنعاني» هو «أبو الآلهة» وهو «إل. د. ف اد» أي
إله الرحمة والشفقة؛ لأن لفظة «ف ا د» يقابلها في العربية
«الفؤاد». أما حرف الدال فهو للإضافة، وهو «ب ن ي. ب ن وت»
ويترجمها د. فريحة «خالق الخلائق» ولها لدينا ترجمة أخرى هي «أبو
أبنائه» وتعني تأكيد معنى الأبوة. وفي تلك التسمية دعم آخر لمذهبنا
في كون الإله هو الأب البدائي الذي اعتبرناه رحيمًا فاديًا، وليس
مرعبًا قاسيًا كما ذهب آتكسون وروبرتسون سميث وفرويد. ومن ألقابه
أيضًا «م ل ك. أب. ش ن م» أي الملك الأب السامي؛ لأن «ش ن م» تعني
السمو والعلو، وهو أيضًا «ل ط ف ن» أي لطفان أي كثير اللطف، وهو
أيضًا «ث ر إل» أي الإله الثور، وهي صفة لا تحتاج تعليقًا، وهو
«أب. آدم» أي أبو البشر.
٧٧ وهي صفة أخرى تؤكد مذهبنا في بداية التأليه. إلا أن
الغريب في كل هذا أن نجد هذا الإله معروفًا في التوراة (الكتاب
المقدس، العهد القديم)، والأغرب أن يقول لنا العلامة موسكاتي إن
زوجته «أثرت» قد عرفت بدورها طريقها للتسجيل بين أسفار الكتاب
بالاسم «أشيرا»،
٧٨ وهو يشبه بوضوح التسمية الفينيقية الكنعانية «عشيرات».
ووجه الغرابة تعارض ذلك مع ما ظل يردده اليهود أنهم شعب موحد، نزه
الخالق عن طبيعة المخلوقات، لكننا عندما نتناول الكتاب المقدس
لنطالعه سنجده يقرر دون تردد أن ديانة العبريين — على الأقل في
مراحلها الأولى — كانت ديانة تثليث، وهو ما سنحاول إيضاحه الآن مما
قرأناه في ذلك الكتاب.
مع بداية الكتاب المقدس سنجد سفر التكوين — وطوال مرحلة طويلة من
بداية الخلق وحتى خروج «موسى» بنبوته — يعطينا للمعبود العبري
الاسم «إيل»، ويقرر دون مواربة أن «إيل إله إسرائيل»،
٧٩ وأنه هو «إله بيت إيل»،
٨٠ ذلك الاسم الذي عرفناه إلهًا للقمر في الجنوب العربي،
وضلعًا أكبر في ثالوث يتكون من أب وأم وابن.
(١٠) الثالوث العبري
من سرد الكتاب المقدس لقصة خلق أبوي البشر «آدم وحواء»،
وارتكابهما الخطيئة بأكل الثمرة المحرمة بإيعاز من الحية الخبيثة،
وخروجهما من الجنة، نقتطع المقاطع التالية:
وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة.
٨١
فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟
٨٢
فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟
٨٣
فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت.
٨٤
وإن التعبير «الرب الإله» يوحي أن هناك أكثر من
رب، رب إله، وأرباب ربما أقل شأنًا، ويعضد هذا الفهم أن النص يقول
بعد أكل آدم لثمرة المعرفة:
وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا
عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من
شجرة الحياة أيضًا، ويحيا إلى الأبد.
٨٥
وناهيك عن الفهم الفج لمسألة الخلود، وعن خشية الرب من استغلال
«آدم» لغفلته واحتمال أكله من شجرة الخلود فيخلد كالآلهة، فإن
التعبير «كواحد منا» يوحي أن الرب الإله هنا لا يتحدث عن نفسه فقط،
بل يتحدث عن نفسه وعن آخرين مثله، وأن هذا الحديث موجه إلى هؤلاء
الآخرين، وهو ما يؤكد الفهم بأن الرب الإله، إله ضمن مجمع من
الآلهة، ويدعم هذا الفهم أكثر وأكثر نص آخر يتحدث عن بناء البشر
لبرج عالٍ، ذلك البرج المشهور في الأساطير ببرج بابل، فيقول النص:
فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم
يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد، ولسان
واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع
عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك
ألسنتهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم
الرب من هناك على وجه كل الأرض.
٨٦
ومرة أخرى يشعر الرب بالخوف من ذكاء مخلوقاته،
وأنهم قد يتمكنون من الوصول ببرجهم إلى السماء وإقلاق راحته،
فيتدخل بأن يحول لغتهم الواحدة إلى لغات متعددة حتى لا يفهم بعضهم
بعضًا؛ ومِن ثَمَّ لا يتحدون مستقبلًا في عمل يزعجه، إلا أن الأهم
من هذا وما يعنينا، هو أن الصياغة الدالة على المعبود هنا أضحت
«الرب» فقط وليست «الرب الإله»، وأن هذا «الرب» إنما هو فرد ضمن
مجمع إلهي، متضمنًا في قول النص «هلم ننزل ونبلبل ألسنتهم».
وهذا الرب يأتينا بشكل أوضح في لقاءات متكررة مع النبي
«إبراهيم»، في نصوص مطولة نجتزئ منها النصوص التالية:
وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطِ هذه الأرض، فبنى هناك
مذبحًا للرب الذي ظهر له.
٨٧
والنص هنا بين جلي، يميز ربًّا من أرباب أخرى، بأنه الرب الذي
ظهر لإبراهيم، ثم نجد صيغة أخرى للدلالة على الإله في قصة هروب
«هاجر» جارية «سارة» زوجة «إبراهيم» التي تقول:
فقال إبرام لساراي: هو ذا جاريتك في يدك، افعلي
بها ما يحسن في عينيك، فأذلتها ساراي، فهربت من
وجهها، فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية،
… فقال لها ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتك واخضعي
لها، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى، فتلدين
ابنًا وتدعين اسمه: إسماعيل؛ لأن الرب قد سمع
لمذلتك، فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: أنت إيل
رئي؛ لأنها قالت: أههنا رأيت بعد روية؟
٨٨
والنص هنا يحدثنا عن ظهور من دعاه «ملاك الرب»
لهاجر، لكنه يعود ليقول: إن هاجر عرفت فيه شخص الإله «إيل»، وإن
«إيل» إنما هو فرد ضمن مجمع إلهي، وهو ما يعبر عنه النص بقوله:
«الرب الذي تكلم معها».
ولكن كيف يمكن فهم هذا التضارب ما بين «ملاك الرب» وبين «الرب»؟
علينا هنا العودة إلى وقت وأسلوب كتابة الكتاب المقدس نفسه لحل هذا
التضارب.
من المعروف أن مواد الكتاب المقدس كانت في البداية روايات شفهية،
وربما يضاف إليها كتابات متناثرة متداولة جيلًا بعد جيل، وما يُسمى
التوراة من أسفار هذا الكتاب هي الأسفار الخمسة الأولى
Cenesis وتشتمل على
سفر التكوين
Pentateu وهو
معتمدنا حتى الآن في البحث، وهو السفر الذي قرر أن «إيل» هو إله
العبريين أو اليهود أو بني إسرائيل، وسفر الخروج
Exodus وسفر
اللاويين
Leviticus وسفر
العدد
Nummbers وسفر
التثنية
Deuteronomy. وهناك تصنيف آخر يضيف لهذه الأسفار سفر
يشوع ليجعل التوراة ستة أسفار، المسماة
Hexatuch. ويختلف الباحثون حول
الموعد الأقرب للدقة لبداية كتابة أسفار الكتاب المقدس، فهناك من
يعيدها إلى حوالي ٤٤٠ق.م. وهو التوقيت المرجح، وأن الأسفار الأولى
«التوراة» كتبت خلال مدة زمنية تصل إلى ثلاثة قرون، وهناك من يرى
أنها دونت بعد النبي «موسى» بعدة قرون مصنفة من مصادر مختلفة. وهذا
رأي مدرسة «فلهاوزن». وهم يعيدون أبعد مصدر للتأليف إلى عام
٨٥٠ق.م. وهناك من يرتد بكتابتها إلى حوالي القرن العاشر قبل
الميلاد وهو أبعد تقدير حتى الآن، وأن هذا إنما يعني وجود مسافة
زمنية طويلة تفصل بين بدء هذا التراث وبين وقت تدوينه، إضافة إلى
أنه كتب بأيدٍ مختلفة وعقليات مختلفة؛ مما أدى إلى ظهور نوع من
التضارب والتناقض، حتى إن مدرسة «فلهاوزن» بنت توقيتها على أسباب
مهمة وخطيرة، هي اختلاف أسماء الإله بين الأسفار، وتكرار بعض القصص
بأساليب مختلفة تشير إلى اختلاف الكُتَّاب. دليل ذلك وجود فروق
بينة وعميقة في اللغة والأسلوب.
٨٩
وفي ذلك ما يفسر لنا قضيتنا: هل الذي رأته هاجر «ملاك الرب» أو
الرب «إيل» نفسه، والتفسير ببساطة هو وجود روايات، وربما نصوص من
عصور قديمة بيد الكاتب الذي عاش جيلًا آخر بعد قرون طويلة من
التطور الفكري والديني. إذ أخذت الآلهة المتعددة القديمة تتحول
تدريجيًّا إلى جم غفير من الملائكة؛ نتيجة لاتجاه العقل نحو
التوحيد، إلا أن الملائكة ظلت تحمل الطابع الإلهي في أسمائها مثل:
«جبرايل، ميكائيل، إسرافيل، عزرائيل … إلخ». ومن هنا نستطيع أن
نلمس حيرة الكاتب بين ما بيديه من نتف وروايات قديمة، وبين ما
يمليه عليه عقله، ومنطق عصره، والتطور الديني الذي وصل إليه الفكر
الديني، مع محاولته الحرص على القديم في الوقت نفسه؛ لذلك ورغم
محاولاته الارتقاء بربه عن التجلي والكلام مع البشر، كالبشر،
فيتصرف في الصياغة وينسب ذلك إلى ما يسميه «ملاك الرب»، إلا أنه لم
يستطع على ما يبدو إلغاء الفقرة الأخيرة «دعت اسم الرب الذي تكلم
معها إيل»؛ لأنها على ما يبدو كانت ضمن نصوص مكتوبة ولها قدسيتها،
أو ربما لأنه كان مضطرًّا للحفاظ على جزء مهم في الرواية الأصلية.
وهي ظاهرة يمكن ملاحظتها في كثير من النصوص، ظاهرة تعامل كاتب حديث
مع نصوص قديمة. ومثالًا لذلك نطالع نصًّا آخر يحكي لنا قصة القرار
الإلهي بتدمير مدينة لوط «سدوم» التي تفشَّى فيها داء الشذوذ
الجنسي. وتبدأ القصة بظهور الرب لإبراهيم، تبشره بغلام بعد أن بلغ
وزوجته من العمر عتيًّا، فتقول:
وظهر له الرب عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار.
فرفع عينيه ونظر، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب
الخيمة، وسجد إلى الأرض.
وقال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في
والرب هنا يظهر بوضوح لا يقبل لبسًا في هيئة ثلاثة رجال يناديهم
إبراهيم «الثلاثة» في صيغة المنادي الواحد: يا سيد، عينيك، لا
تتجاوز عبدك، ثم يعود لمناداة ربه بصيغة الجمع، فيقول:
ليؤخذ قليل من ماء، واغسلوا أرجلكم، واتكئوا تحت الشجرة،
فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون؛ لأنكم قد مررتم
على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت … وإذ كان هو
واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا. قالوا له: أين سارة
امرأتك؟ فقال: ها ها في الخيمة. فقال «أي الرب» إني أرجع
إليك نحو زمان الحياة، ويكون لسارة امرأتك ابن، فضحكت سارة
في باطنها … فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة:
أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ … ثم
قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم. وكان إبراهيم ماشيًا
معهم ليشيِّعهم، فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا
فاعله؟ … وانصرف الرجال من هناك وذهبوا نحو سدوم. وأما
إبراهيم فكان لم يزل قائمًا أمام الرب.
٩١
واضح إذن أن الرب قد ظهر لإبراهيم في هيئة ثلاثة شخوص، والأكثر
وضوحًا هو حيرة الكاتب مع ما بين يديه من متناثرات قديمة، وبين
اعتقاده في إله واحد، فتضارب النص بين يديه ما بين الإفراد والجمع،
ولكن تبقى في الآية الأخيرة مسألة غير مفهومة، وهي أن «الرجال»
الدالة على الرب المثلث، قد ذهبوا إلى سدوم، بينما ظل «إبراهيم» مع
الرب، لكنها تصبح مفهومة عندما نستمر مع النص فنجده يقول:
فجاء الملاكان إلى سدوم مساءً، وكان لوط جالسًا
في باب سدوم، فلا رآهما لوط قام لاستقبالهما،
وسجد بوجهه إلى الأرض، وقال: يا سيدي ميلا
إلى بيت عبدكما، واغسلا أرجلكما …
٩٢
وهنا انتقالة مفاجئة إلى من يسميهما النص «الملاكان»، لكن سلوك
«لوط» يوحي أنه أمام اثنين من الأرباب، سواء في سجوده أم في وصف
نفسه بأنه عبد لسادة، ومرة أخرى نجدنا مضطرين إلى اللجوء إلى تضارب
الكتاب بين ما لديه من تراث وبين ما يعتقد، ويصبح التفسير ببساطة
أن الإله الممثل في ثلاثة، ذهب منهما اثنان إلى سدوم، وبقي واحد —
ويبدو أنه كبيرهم — مع «إبراهيم»، ويدعم ذلك أن هذين الاثنين أخبرا
«لوطًا» بقرار تدمير سدوم وبالرغبة الإلهية في إنقاذه مع زوجته
وابنته، في النص:
ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته
ويد ابنته، لشفقة الرب عليه، وأخرجاه،
ووضعاه خارج المدينة …
فقال لهما لوط: لا يا سيد.
هوذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك، وعظَّمتَ لطفك
وحيرة الكاتب بادية ما بين كون الاثنين ملاكين أم رجلين أم إلهين
أم ربًّا واحدًا «أمسك الرجلان، لشفقة الرب عليك، لا يا سيد،
عينيك».
وتأسيسًا على هذه النصوص يمكننا أن نقول بدون تردد إن النصوص
الأصلية، سواء أكانت شفاهية أم على هيئة كتابات متناثرة، كانت
تتحدث عن ثالوث إلهي، وأن الضلع الأكبر في هذا الثالوث كان «إيل»
الذي عرفناه قبلًا إلهًا للقمر.
(١١) يهوه القمري
بظهور النبي «موسى» يتوقف ذكر «إيل» في الكتاب المقدس؛ ليظهر إله
جديد يحمل اسمًا جديدًا يختلف في تنغيمه ما بين «ياو، ياه، ياهو،
إهيه» أما اسمه الأشهر فهو «يهوه»، غداة التقاه «موسى» وهو يرعى
الغنم في مديان على هيئة نار في عليقة، وقال له: «هكذا تقول لبني
إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم … هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه أرسلني
إليكم، هذا اسمي إلى الأبد.»
٩٤ وهو الإله الذي جاء ذكره في مزامير النبي الملك «داود»
بالاسم «ياه» في قول الكتاب المقدس: «غنوا لله، رنموا لاسمه أعدوا
طريقًا لراكب القفار، باسمه ياه، واهتفوا أمامه.»
٩٥
ورغم أن قانون الإيمان اليهودي بالإله «يهوه» يقول: «لويهي لك
إلوهيم أحريم»،
٩٦ ويعني محرم عليك الإيمان بغيري، أو على الأصح لا إله
إلا الله، فإن ما يجب التأكيد عليه أن هذا الإله، بهذا الاسم، كان
معروفًا قبل نبوة «موسى» بقرون طويلة. كإله وثني، عبدته شعوب
مختلفة بصفته مشاركًا مع آلهة أخرى، فعبد في صحراء مصر الشرقية
وسيناء، كما عبده اللحيانيون والأنباط والثموديون.
٩٧ كما ثبت بما لا يدع مجالًا للشك بأنه عُبد لدى
الكنعانيين بعد العثور على الاسمين «ياه وياهو» منقوشين على قطع
خزفية من عصر البرونز عام ١٩٣١م، وعلى ألواح ضمن مكتشفات مدينة
أوجاريت (تل شمرا).
٩٨ كما اكتشف الآثاري «برستد» أن أهل مديان كانوا يدينون
بعبادة إله وثني يحمل هذا الاسم،
٩٩ والملاحظ للاسم «ياوه، ياهو، ياه، إهيه، يهوه» يشعر
فيها بزمجرات الطبيعة وأصوات الريح والوحوش، خاصة مع وجوب النطق
السليم ليهوه بفتح فسجول طويلة.
١٠٠ ويرى «شتادة
Stade»
١٠١ أن معناه هو المسقط أي الذي يسقط البروق على الأعداء،
ولأن هوى بمعنى سقط، بينما يذهب «فلهاوزن
Wellhausen» إلى أن الاسم «يهوه» من هوى في العربية
يعني الهواء، فمعناه يهب أي إنه إله العاصفة.
١٠٢ ونظن «فلهاوزن» أقرب إلى الصحة، إذ إن يهوه في نصوص
الكتاب المقدس كان لا يظهر إلا بين العواصف والغيوم والرياح، ومن
الرياح «يرح» أحد أساء إله القمر! في المنطقة الكنعانية، وسبق
وأنشئ لإله القمر «يرح» معبد عظيم سميت به البلدة التي أنشئ فيها
بكاملها فسميت «أريحا»
١٠٣ إضافة إلى أن القمر كان في نظر الأقدمين جرمًا كبيرًا
كالشمس، لكنه غير مستقر الأحوال، فسلوكه «هوائي» — وحتى اليوم نقول
عن الشخص المتقلب إنه شخص هوائي — ومن هنا نلمح في «يهوه» الصفات
القمرية. وقد قدم «ديتلف نيلسن» عددًا من البراهين على قمرية الإله
الموسوي «يهوه»، نوجز أهمها في الآتي:
- (١)
أنه كان يُرسم في صورة ثور ويقدس. وسبق أن عرفنا
الثور والشياه رموزًا للقمر في هيئة الهلال. وبحثًا
وراء نيلسن نجد في النصوص:
فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل
وصنعه
عجلًا مسبوكًا فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل.
١٠٤
فاستشار الملك وعمل عجلي ذهب وقال لهم …
هوذا
آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر،
ووضع
واحدًا في بيت إيل، وجعل الآخر في دان.
١٠٥
ويستنتج النتيجة نفسها «د. يعقوب السيد بكر» من صور
زخارف معبد «سليمان» التي رسمت الثور مقدسًا.
١٠٦
- (٢)
أن الليل كان الوقت المقدس لتجلي «يهوه» لعبَّاده،
ووقت أعياده.
- (٣)
أنه كان لدى اليهود احتفالات خاصة بالبدر
والهلال.
- (٤)
أن يوم السبت والأعياد الأسبوعية الأخرى ترتبط عند
العرب واليهود بأيام المحاق الثلاثة، وترتبط كل شهرين
بمواقع القمر.
- (٥)
أن التعبيرات التي استخدمها الكتاب المقدس عند ظهور
«يهوه» اصطلاحات فلكية قمرية.
- (٦)
أن الديانة الإسرائيلية قبل السبي كانت توصف بأنها
ديانة قمر وشمس وكواكب كما في سفر «أرميا».
١٠٧
- (٧)
عبور اليهود البحر من مصر عبر خليج السويس وقت
الجزر، والقمر هو الذي يسبب المد والجزر، أو كما جاء
في سفر الخروج «وهو الذي يجفف قاع البحر في الصحراء».
١٠٨
- (٨)
ظهوره في سيناء لليهود يرتبط بوقت ظهور القمر في
اليوم الثالث من الشهر، كما أن أول الشهر القمري
ومنتصفه يومان مقدسان، كما أن الأعياد الكبرى ترتبط
بليلة تجلي القمر.
- (٩)
إن التضحية ارتبطت بمواطن القمر، فكان عدد الأضاحي
بعدد أيام الشهر، حتى اليوم الخامس عشر تذبح خمس عشرة ذبيحة.
١٠٩
وهكذا نجد «نيلسن» يدفعنا إلى تقرير قمرية الإله اليهودي الموسوي
الجديد «يهوه»، كما كان «إيل» من قبل إلهًا للقمر، وهنا نطرح رأيًا
جديدًا نستنتجه من اكتشاف في مصر الفرعونية، حيث اكتشفت أنه قد
أقامت قديمًا في جزيرة فيلة بصعيد مصر جماعة من اليهود كانوا
يعبدون هناك إلهًا باسم «ياهو»، مع إلهين آخرين. واحد منهما أنثى
يدعى «إناث ياهو»
١١٠ أي «الأنثى ياهو»؛ مما يعطى انطباعات أهمها:
-
إن هذه الجماعة تابعة للديانة الموسوية صاحبة الإله
ياهو، الذي لم يظهر كإله لليهود إلا مع النبي «موسى»،
وكانوا قبلها يعبدون الإله «إيل».
-
إن هذه الجماعة التي عبدت الثالوث اليهودي جماعة من
الأتباع الأوائل لموسى، بدليل أنها لم تعرف التطور
التوحيدي الذي حدث لديانة «يهوه» بعد ذلك في البلاد
الفلسطينية؛ نتيجة انعزالها في جزيرة فيلة بأسوان
بمصر.
-
إن التطور التوحيدي حدث لعبادة «يهوه» بعد «موسى»،
بدليل أن العباد الأوائل قد عبدوه ضمن ثالوث إلهي،
وهذا يدعم «فرويد» فيما يسميه مصالحة قادش بعد موت
«موسى».
-
إن هذه الديانة اليهودية التثليثية قامت فيها «إناث
ياهو» أو الأنثى ياهو بدور الزوجة، ويبدو لنا أن
«ياهو» نفسه أو «يهوه» قد قام بدور الإله الابن،
ونستند في ذلك إلى نقش جاء ضمن مكتشفات مدينة أوجاريت
يقول فيه الإله الأعظم إيل: «اسم ابني ياو.»
١١١
كما جاء فيها نصوص تشير إلى أن الإله «إيل» في الأدب الأوجاريتي
قد ظهر بصورة أب طاعن في السن، عاجز عن إدارة شئون مملكته، وكان
تواقًا إلى أن يأخذ ابنه وظائفه! وقرر أكثر من مرة تعيين خليفة له،
١١٢ وهكذا يمكن القول: إن هذا الثالوث اليهودي الوثني الذي
توارثه اليهود، كان يتكون من «إيل» في دور الإله الأب العجوز،
و«إناث ياهو» أو الأنثى ياهو في دور الإلهة الأم، و«يهوه» في دور
الإله الابن، الذي اضطلع مع «موسى» بالدور الرئيسي، وقام بدلًا من
أبيه إيل ضلعًا أكبر في الثالوث.
والعجيب حقًّا أننا إذا عدنا إلى ديانة اليمن في الجنوب العربي،
فسنجد القمر الإله يحمل لقب «كهلان» أي الإله الكهل،
١١٣ كما سنجد الاسم «يهوه» موجودًا قبل هذا الزمان. وقد
ورد ممزوجًا بأسماء قتبانية، جاءت في قائمة «إلبرايت»، ومنها «شهر
هلل يهو بن الملك يدع أب ذبيان يهو نعم»، كما تسمى به الثموديون في
أسماء مثل «أو سريهو، وعزريهو». أما آخر الأدلة لدينا — الآن على
الأقل — على أن ديانة «يهوه» كانت ديانة تثليث، أن إلهة الخصب في
البلاد الكنعانية التي استوطنها الإسرائيليون، كانت تدعى «إناث».
١١٤ كما أن في الكتاب المقدس سفرًا لا يتسم بأية صفة
دينية، هو نشيد الإنشاد للنبي الملك «سليمان»، وهو مجموعة غزليات
جنسية بحت تشير إلى نوع من طقوس الجنس المقدسة، التي عرفناها في
عبادة الثالوث. كما أكد «ديورانت» أن العهر المقدس ونظام المنذورات
كان طقسًا يمارس في هيكل بني إسرائيل.
١١٥ وكان ضمن المنذورات تلك الفتاة اليهودية، التي أخذت في
المسيحية بعد ذلك دور الأم، وعرفت باسم الإلهة «مريم» في الديانة
المسيحية، والتي أنجبت الإله الابن «يسوع» المسيح.
وهنا يفيدنا «روبرتسون سميث» بأن الكلمة «يسوع
Jesous» هي صيغة يونانية للأصل
العبري «يشوع
Jehoshua»،
١١٦ وإذا حللنا بدورنا الاسم «يشوع» فسنجده يتركب من
مقطعين هما «ياه» ذاك الذي عرفناه إلهًا ابنًا أخذ عن أبيه سلطانه،
و«شوع» أي المخلص أو الناصر أو الحامي.
ولو عدنا مرة أخرى إلى ديانة عرب الجنوب، فسنجد بين الآلهة
الثمودية ذاك الذي حمل اسم «يثع» بمعنى الناصر أو الحامي،
١١٧ الاسم الذي دخل في مركب مقدس ورد في القرآن الكريم
باسم «اليسع»،
١١٨ وهو من الصيغة العبرية «اليشع»، وهو اسم يتركب من
مقطعين: الأول منهما هو «إﻟ» الذي عرفناه إلهًا للقمر و«يشع» أو
يثع أي المخلص أو الناصر أو الحامي، وهو في الوقت نفسه صفة للقمر
الذي «يشع»!
ومنه يمكن القول عن اسم المسيح «يشوع» إنه «ياه المشع» أو الإله
المشع، وهو تركيب بالغ الدلالة على الدور الذي أخذه إله القمر
الابن عن الأب، الذي سبق، ونصر، وخلص، وحمى، وفدى أبناءه في غابر
الأزمان؛ ليصبح صاحب الدور الأخطر والضلع الأكبر في الثالوث
المسيحي، وليصبح هو الفادي الأعظم الذي ضحى بنفسه على الصليب؛ لأنه
«أبانا الذي في السموات»، أو القمر الذي في السموات، والذي يحتاج
وحده بحثًا آخر، وجهدًا آخر.