الملوك الأربعة
(١) المؤمن الأول سليمان
عن «أبي هريرة»، وعن «أبي الدرداء»، وعن «محمد بن سلمة»، عن النبي ﷺ، قال: «إن عفريتًا من الجن تفلت عليَّ البارحة ليقطع صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان، والله لولا دعوة أخي سليمان، لأصبح موثقًا يلعب به ولدان المدينة» (رواه البخاري ومسلم والنسائي).
وأن هذه الدعوة أو الدعاء السليماني، الذي دفع النبي (محمدًا ﷺ) لترك هذا العفريت المنفلت، وحرمان ولدان المدينة — أبناء أنصار رسول الله — من اللعب بهذه اللعبة الفريدة من نوعها، فهو ما تتضمنه الآيات الكريمة: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (ص: ٣٤-٣٥). فكان دعاء «سليمان» إذن لربه هو: هب لي مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، وهو الملك الذي تطالعنا به كتب التراث الإسلامية متسلطًا على الكائنات جميعًا بما فيها العفاريت والجن، ومن ثم أطلق النبي ﷺ عفريته الأسير، حتى لا يتجاوز سليمان، وربما كان هذا الدعاء في تلك الآية الكريمة، وراء المأثور الإسلامي: إن سليمان واحد من بين أربعة ملكوا الأرض كلها ما بين المشرق والمغرب.
وهكذا توقف «ابن كثير» عن التفسير، واقتصر على مجرد التلاوة، لما وجده في التفسيرات من نكارات متلقاة من الإسرائيليات، وربما كانت هذه النكارة تعود بأصلها إلى ما جاء في كتاب العبريين المقدس — أصحاب القصة والمملكة ورعية «سليمان» — حول اختلاف «سليمان» مع أخيه الأكبر «أدونيا» حول العرش، وما قام بينهما من صراع استند فيه «أدونيا» إلى مبدأين شرعيين: الأول هو كونه الابن البكر صاحب الحق في الملك والميراث حسب الشريعة العبرية، والثاني أنه كان يحوز تأييدًا شعبيًّا وجماهيريًّا هائلًا، وتمكن «سليمان» بمعاونة أمه من اغتصاب الحكم من صاحبه الشرعي، ثم جاء الخلاف الذي قطع آخر العرى بين الأخوين، وكان حول امرأة، وانتهى بأن أمر «سليمان» بذبح أخيه الأكبر؛ ومِن ثَمَّ وجب كشف الأستار عن الرواية كما جاءت بكتابها، حتى تكشف لنا النكارة، ثم نتبعها برواية القرآن الكريم، وما جاء في الأثر التراثي الإسلامي، إزالة للبس، ودحضًا للنكارة.
وجلس سليمان على كرسي داود أبيه وتثبت ملكه جدًّا. ثم جاء أدونيا ابن حجيث (أمه) إلى بتشبع أم سليمان. فقالت: أللسلام جئت؟ فقال: للسلام. ثم قال: لي معك كلمة، فقالت: تكلم. فقال: أنت تعلمين أن الملك كان لي، وقد جعل جميع إسرائيل وجوههم نحوي لأملك، فدار الملك وصار لأخي؛ لأنه من قبل الرب صار له. والآن أسألك سؤالًا واحدًا فلا ترديني فيه، فقالت له: تكلم. فقال: قولي لسليمان الملك — لأنه لا يردك — أن يعطيني أبيشج الشونمية امرأة. فقالت بتشبع: حسنًا، أنا أتكلم عنك إلى الملك. فدخلت بتشبع إلى الملك سليمان لتكلمه عن أدونيا … وقالت: إنما أسألك سؤالًا واحدًا صغيرًا لا تردني. فقال لها الملك: اسألي يا أمي لأني لا أردك. فقالت: لتعطِ أبيشج الشونمية لأدونيا أخيك امرأة. فأجاب الملك سليمان وقال لأمه: ولماذا أنت تسألين أبيشج الشونمية لأدونيا، فاسألي له الملك لأنه أخي الأكبر مني … وحلف سليمان الملك بالرب … والآن هو الرب الذي ثبتني وأجلسني على كرسي داود أبي، والذي صنع لي بيتًا، كما تكلم، إنه اليوم يقتل أدونيا. فأرسل الملك سليمان بيد بنايا هو بن يهويا داع، فبطش به، فمات. (ص٢)
الملك والحكمة
ورغم مبالغات السفر المذكور، فإنه بخلاف حديث الملوك الأربعة، لم يخرج بحدود مملكة «سليمان» عن منطقة فلسطين الحالية «وكان سليمان متسلطًا على جميع الممالك، من النهر إلى أرض فلسطين، وإلى تخوم مصر» (ص٤). أما عن حكمته وعظمته، فيقرر الكتاب المقدس أنه أعطيهما بناء على دعائه ربه، وكان رد الرب عليه «هو ذا قد فعلت حسب كلامك، هو ذا أعطيك قلبًا حكيمًا ومميزًا، حتى إنه لم يكن مثلك قبلك، ولا يقوم بعدك نظير … فتعاظم الملك سليمان على كل ملوك الأرض، في الغنى والحكمة … وفاقت حكمة سليمان حكمة كل بني المشرق، وكل حكمة المصريين (لنلاحظ الأثر النفسي لذكرى أيام الاستعباد في مصر، ووجوب تفوق سليمان عليهم) فتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا، وتكلم عن الأشجار من الأرز التي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك، وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان، من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته» (ص٣، ٤، ١٠).
وأول ما نلاحظه حول حدود المملكة، أنه ما كان لها وقد نبتت كدويلة بالأمس، وما كان لملك ناشئ، أن يصل بسلطانها إلى النهر «الفرات» وقت السيادة الآشورية وما أدراك ما الآشوريون، أو أن تتجرأ الدويلة فتتبسط في ممارسة السلطان على تخوم مصر وما أدراك ما الفراعين، وما كان لها أن تطال لبنان. بينما يقول السفر نفسه: إن سليمان كان يدفع لحيرام ملك صور وصيدا إتاوة سنوية «وأعطى سليمان حيرام عشرين ألف كر حنطة، وطعامًا لأهل بيته، وعشرين كر زيت، وهكذا كان سليمان يعطي حيرام سنة فسنة» (ص٥).
والملاحظة الثانية، هي أن حكمة «سليمان» تمثلت في ثلاثة آلاف مثل، وشعر حكمي تضمن حديثًا عن الشجر والطير والسمك والدبيب (أي النمل)، وتحتويه أسفار أخبار الأيام الثاني والأمثال ونشيد الإنشاد، وربما كان في الأصل العبراني للكتاب إصحاحات تحتوي على شيء يشبه كتاب «بيدبا» «كليلة ودمنة»، الذي يحوي أمثلة حكمية وضعها مؤلفها على ألسنة الحيوان والطير والهوام. أما الملحوظة الثالثة، فهي حول الأصل العبراني للكتاب المقدس، الذي كتب بلغة بدائية، بحروف غير صائتة، وساكنة، قبل تصويتها وتحريكها قياسًا على اللغة الآرامية، وهو ما يمكن أن يحدث خلطًا في فهم النصوص، وخاصة في الحروف، مثل حديثه «عن» الأشجار والحيوان والنمل، والتي يمكن في الحال القديمة فهمها أنها حديث «إلى» و«مع».
والكتاب المقدس في حديثه عن مجيء كل ملوك الأرض ليسمعوا من «سليمان» حكمته، نجده على غير عادته في التفصيل والتدقيق والتكرار، لا يذكر لنا سوى خبر عن ملكة منكورة، لا يعلم التاريخ من أمرها شيئًا، يقول فيه: «سمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب، فأتت لتمتحنه بمسائل. فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدًّا، بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدًّا وحجارة كريمة. وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما كان بقلبها. فأخبرها سليمان بكل كلامها … فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان، والبيت الذي بناه، وطعام مائدته، ومجلس عبيده، وموقف خدامه وملابسهم، وسقاته، ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب، لم يبقَ فيها روح بعد، فقالت للملك: صحيحًا كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك، ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي، فهو ذا الصنف الذي لم أخبر به … فانصرفت، وذهبت إلى أرضها» (ص١٠).
وهنا أيضًا نظر وملحوظات
تغنيًا بهذه العظمة، يفاخر سفر الملوك الأول بجيش الملك «سليمان» الهائل، فيقول: «وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته، واثنا عشر ألف فارس … فكان له ألف وأربعمائة مركبة» (ص٤، ١٠)، هذا ناهيك عن منشآته المعمارية، التي تمثلت في بناءين: الأول بيت الرب أو الهيكل (واسمه مأخوذ عن الكلمة الكنعانية هيكال)، والثاني هو القصر الذي خصصه «سليمان» عليه السلام كسكن خاص له، ومقر للحكم، فأما الهيكل فهو «البيت الذي بناه سليمان للرب، وطوله ستون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وسمكه ثلاثون ذراعًا … وجميع الببت غشاه بذهب … وعمل في المحراب كروبين … وغشى الكروبين بذهب (الكروبين مثني كروب، وهو نصب في هيئة نسر مجنح)» (ص٦). أما القصر فكان واضحًا أنه أكثر ضخامة وفخامة من بيت الرب، فقد كان «طوله مائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعًا، وسمكه ثلاثون ذراعًا … كل هذا من أحجار كريمة … وكان مؤسسًا على حجارة كريمة … وعمل البحر مسبوكًا عشرة أذرع (يقصد حوض أسماك زينة)» (ص٧).
أما عرش الملك فقد «غشاه بذهب من إبريز، وللكرسي ست درجات … أسدان واقفان بجانب اليدين … واثنا عشر أسدًا واقفة هنا وهناك على الدرجات الست (يقصد تماثيل) … وجميع آنية شرب الملك من ذهب … وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة» (ص١٠). وحتى تستكمل العظمة، كان محتمًا أن يتمم الملك الأبهة بزوجة تليق به، ونسب يضاهيه جاهًا واقتدارًا، ولما لم يكن وقتها من هو أعظم من فراعنة مصر أبهة وجاهًا واقتدارًا، ورغم العداء المرير الذي تقطر مرارته في كل إصحاح من أسفار الكتاب المقدس، ضد مصر والمصريين، فقد «صاهر سليمان فرعون مصر، وأخذ بنت فرعون» (ص٣)، وقد قدم الفرعون لابنته هدية زفاف عظيمة، «وصعد فرعون ملك مصر، وأخذ جازر وأحرقها بالنار (جازر مدينة ساحلية فلسطينية)، وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان» (ص٩).
وحتى يستكمل الملك بقية مظاهر الأبهة، فقد «أحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون، مؤابيات وعمونيات وآدوميات وصيدونيات وحيثيات … وكانت له سبعمائة من النساء السيدات، وثلاثمائة من السراري» (ص١١)، وكي يطيق الملك وصال هذا الحشد المهول من الأجساد، فقد منحه الله قدرة أكثر هولًا، تمثلت في قول الكتاب: «وكان طعام سليمان لليوم الواحد: ثلاثين كر سميد، وستين كر دقيق، وعشرة ثيران مسمنة وعشرين ثورًا من المراعي، ومائة خروف، ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمن» (ص٤).
والأمر إضافة إلى طرافته، فإن فيه نظرًا وملحوظات: الملحوظة الأولى وتتعلق بهذا الجيش العرمرم من المركبات والفرسان، وهو ما يناله شك كبير، في ضوء نص آخر بالسفر نفسه، يشير إلى استعصاء المدينة الساحلية (جازر) على «سليمان»، حتى إن صهره الفرعون أرسل بضع كتائب احتلتها له، ثم أهدتها إياه كعربون صداق لعرس ابنة الفرعون، لكن حتى هذا الزواج بدوره يشوبه شك أكبر، خاصة مع ما نعلمه من وثائق التاريخ عن سنن الفراعين، الذين لم يدرجوا على زواج بناتهم لغير مصريين، حتى لو كانوا ملوكًا، اتباعًا لسنة سنت حق الملك للإناث من الأسر الحاكمة، وأن العرش كان لا يئول لوليه إلا بزواجه من الأميرة صاحبة الميراث؛ ومِن ثَمَّ سوغوا — ولا غضاضة — زواج الأخت الشقيقة ليتمكن الأمير من شرعية حكمه، وإذا عز وجود ذكر من داخل الأسرة المالكة، فكان لا بد للمرشح للعرش من المرور بطقوس دينية وتطهيرية وارتقائية يطول شرحها، تنتهي أيضًا بشرط زواجه من الأميرة الوارثة، فما بالنا والأمر يتعلق بملك من العبريين؟ أولئك الذين كانوا في نظر المصريين الاعتياديين وليس الملوك، وحسب نص الكتاب المقدس نفسه، رجسًا ونجسًا يجب على المصري تحاشيه واجتنابه، فلا يساكنه (كما يقرر إصحاح ٤٦ من سفر التكوين)، ولا يؤاكله (كما يقرر إصحاح ٤٣ من سفر التكوين).
وفي رأينا أن أبرز الأدلة على تفاقم هذه الأزمة واحتدادها، هو ما جاء في سفر الملوك الأول عن أسلوب سداد «سليمان» لديونه، من أجور البنائين والمهندسين للملك «حيرام»، فيقول: «وبعد نهاية عشرين سنة، بعدما بنى سليمان البيتين: بيت الرب وبيت الملك. وكان حيرام قد ساعف سليمان بخشب أرز وخشب سرو وذهب حسب كل مسرته. أعطى حينئذ الملك سليمان حيرام عشرين مدينة في أرض الجليل» (ص٩)، هذا بينما جعل «حيرام» من مملكة «سليمان» أرضًا مستباحة لجيوشه، ومعبرًا له إلى البحر الأحمر. وهو ما يستنتج من قول الكتاب المقدس: «وعمل الملك سليمان سفنًا في عصيون جابر (ربما العقبة الحالية) التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم. فأرسل حيرام في السفن عبيده النواتي العارفين بالبحر مع عبيد سليمان، فأتوا إلى أوفير (مظنون أنها الصومال حاليًّا) وأخذوا من هناك ذهبًا …» (ص ٩).
ولم يأتِ عام ٩٢٣ق.م. حتى انقسمت مملكة «سليمان» على نفسها، عندما طلبت القبائل الشمالية من «رحبعام بن سليمان» إعفاءها من الضرائب، ورفض «رحبعام»، فكان أن قاموا بثورة انتهت بانفصال نصف المملكة الشمالي، وأسسوها مملكة تحمل اسم إسرائيل، أما الجنوبية فحملت اسم يهوذا.
ثنائيات التأسيس والسقوط
وانقسمت مملكة «سليمان» على نفسها بموته، عام ٩٢٣ق.م.
وفي رأينا أن هذا الانقسام في المملكة الناشئة، والذي انتهى بانهيارها التام واندثارها، هو ناتج طبيعي، وإفراز منطقي، لمجموعة من الصراعات بين مجموعة من النقائض، تتمثل في أكثر من ثنائية داخل المملكة السليمانية.
وثنائية أخرى يمثلها طرفان: الطرف الأول: الأرستقراطية الحاكمة وما ينطوي في داخلها من رجال المؤسسة السياسية وإدارات الدولة، والطرف الثاني أرستقراطية كهنوتية عريقة قامت وتمكنت منذ أيام النبي «موسى»، ومثلها بيت «لاوي» أو «ليفي» من أسباط بني إسرائيل، حتى استطاع «سليمان» وأبوه «داود» ترويضها وتسييسها، بإخضاع الكاهن الأكبر «أبيثار» لسلطان الملك، وبسط حماية الدولة على الدين، وإلحاق بيت «ليفي» بإدارات الدولة، ليس كهيئة قبلية تقوم بأعمال الكهانة، وإنما بإذابتهم كموظفين تابعين في المؤسسة السياسية، لكن ذلك لم يكن يعني عدم استبطان القسمة القبلية الأولى، وتحفز بيت «ليفي» وترقبه الفرص للقفز على كرسي السلطة.
وكان تسييس الكهانة ناتجًا عن تحول العبريين من حالة البداوة إلى حالة الاستقرار، في مناطق زراعية؛ مما حول بعضهم إلى العمل في فلاحة الأرض، والتوحد في كيان مركزي واحد، ربما مهد مع طول الوقت وبالتدرج الطبيعي لنضوج الأوضاع الاجتماعية، إلى تفجير الأطر القبلية، لإقامة المشاريع الكبرى التي تفرضها طبيعة الحياة في بيئة زراعية، لكن مشاريع «سليمان» لم تكن ناتج علاقة طبيعية بالأرض وطبيعتها، ولا ناتج إفراز تلقائي تطوري، كما كان في مصر والرافدين، وهو ما حدث لصالح الاستخدام الأمثل والموحد للطاقات البشرية في تلك الحضارات القديمة؛ لتنظيم الزراعة والسيطرة على المياه وإقامة المشاريع الضخمة، حيث كانت الأنهار الكبرى (النيل، دجلة، الفرات) وما تكوِّنه من شبكات مائية متعددة الروافد والترع والقنوات، يصعب أحيانًا السيطرة عليها وقت الفيضان، بحاجة إلى توحد الشعوب لترويض هذه المياه الهائلة؛ مما أدى لإفراز تلقائي لإمبراطوريات كبرى تتمركز في قوى موحدة ومركزية سياسية، تضم ملايين الرجال للأعمال الكبرى، بينما كانت أرض فلسطين طوال تاريخها على عكس جارتيها تمامًا؛ ولهذا السبب لم تشهد سوى الدويلات، أو المدن الدول أو المدن الممالك، وذلك لاختلاف بيئة فلسطين الطبيعية، عن البيئة في مصر والعراق، واعتمادها في مجال الفلاحة على الأمطار والنهير (قياسًا على أنهار مصر والعراق)، بينما شكَّل الرعي العمل الأساسي إلى جانب التجارة؛ ومِن ثَمَّ كان قيام المملكة السليمانية بتفجير الأطر القبلية، ليس استجابة لحاجات طبيعية وإفرازًا لمسار تاريخي وتطوري طويل، قدر ما كان استجابة لحاجات شخصية وعنصرية، بشكل قسري ومفروض من أعلى، لإقامة مشروعات ليس للناس فيها ناقة ولا جمل، كالقصور الفارهة مباهاة ومضاهاة للفراعين، وملوك آشور وبابل، ولإقامة هيكل ديني خاص بالقبيلة العبرانية؛ ليمثل الشكل الديني للدولة، ويميز القبيلة القابضة على أعنة السلطان.
هذا بالطبع مع ثنائية أخرى أساسية، ثنائية يهودية يهودية، تمثلها قبائل عبرية دخلت مصر وخرجت متأثرة بعبادات المصريين وأنظمتهم وعاداتهم، وقبائل عبرية أخرى ظلت تحتفظ ببداوتها على الحدود السينائية، حيث قام النبي موسى (عليه السلام) بإجراء عملية المزج بينهما في قادش، لكن الواضح أنه لم يكن صهرًا للقبائل أبدًا، قدر ما كان نوعًا من الائتلاف الكونفدرالي، الذي سرعان ما أبرزت تناقضاته مستجدات الأحداث في المملكة السليمانية، وانتهى بانقسام صنفي القبائل ما بين شمال وجنوب، أو بين إسرائيل ويهوذا.
ونتيجة لقيام المملكة السليمانية على أنقاض المدن الممالك، وتفجيرها القسري للأطر القبلية، نشأت ثنائية أخرى لم تكن تعرفها البلدان الفلسطينية وممالكها الصغيرة؛ إذ لم تكن هناك هوة كبرى تفصل أفراد المجتمع عن السلطات، بينما بات واضحًا أن المملكة السليمانية قد أنشأت هوة هائلة بين القبيلة العبرية في جانب، وباقي شعوب المنطقة الأصليين في جانب آخر، والذين تهاوت مدنهم، وأجبروا على الانضواء تحت سلطان الدولة. ثم كانت الأعمال الإنشائية عاملًا آخر سبَّب ثنائية جديدة، مثَّلها على الطرف الأرستقراطي الطبقة الحاكمة وموظفوها وكهانتها الرسمية وإداريوها وملاكها، ومثَّلها على الطرف الآخر العبيد والمعدمون، سواء أكانوا عبرانيين أم كنعانيين مواطنين، حيث جمعهم معًا شقاء تنطق به آيات الكتاب المقدس التي تقول في سفر الملوك الأول: «وسخر سليمان الملك من جميع إسرائيل، وكانت السخر ثلاثين ألف رجل.» و«جميع الشعب الباقين من الأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين … الذين لم يقدر بنو إسرائيل أن يحرموهم (اصطلاح يحرم في التوراة أي يبيد)، جعل عليهم سليمان تسخير عبيد» (ص٥، ٩). وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور طبقة من رجال الدين غير الرسميين، ومثَّلهم الدراويش والأنبياء الشعبيون، الذين أسهموا بما هو أكثر من العون والمساعدة لإسقاط النظام القائم، بل والعمل على تدمير المملكة، واستعداء الإمبراطوريات الكبرى عليها، وهو ما نجده مثلًا عند أنبياء مثل «عاموس» و«ميخا»، ومن بعده بشكل سافر عند «إشعياء» و«دانيال» و«أرميا» في مرحلتي السقوط والأسر.
وهكذا أدت الأوضاع إلى ظهور ثنائية أخرى تمثلت في رجال المؤسسة الدينية العاملة في جهاز الدولة الحاكم في جانب، ورجال الدين الشعبيين الذين شكلوا كوكبة الأنبياء الأساسيين في الكتاب المقدس في جانب آخر؛ مما أدى إلى تكون أيديولوجيتين مختلفتين تمامًا، متصارعتين حتى نهاية الدولة.
وساعد على تفاقم الصراع بين الأيديولوجيتين ثنائية صراعية، نتجت عن طبيعة البنية الاجتماعية التي شكلها هجين من شعوب زراعية أساسًا، وشعب بدوي يمثله العبرانيون، مع بعض القبائل الرعوية الأخرى في المنطقة، وهي الثنائية المرتبطة أساسًا بطبيعة أسلوب الإنتاج الزراعي لشعوب المنطقة، الذين اعتمدوا نوعًا من الحرية المطلقة على المستوى الديني، بحيث تعددت الأرباب تعددًا هائلًا، وهو ما استدعاه نظام الفلاحة ومواسمه المتعددة. فكان هناك «بعل» رب المطر، و«عنات» ربة الأرض، و«مولك» رب الخصب، و«موت» رب الجفاف، و«إيل» أبو الأرباب، مع عدد كبير من الآلهة المتعلقة بالزرع والخصب كإله الفأس وإلهة الماشية وإله الحنطة … إلخ، ويرتبط هذا التعدد بتباين التكوين الاجتماعي؛ مما أدى دومًا للسماح بهذه الحريات السماوية وطقوسها المرتبطة بمواسم الزرع، بينما ظلت البداوة على الجانب الآخر تستبطن قبيلتها ومعبودها القبلي الواحد، ممثلًا في سلف القبيلة وسيدها، وما يتضمنه ذلك من أن أنفة البدوي من الانقياد لدولة موحدة، ورفضه أن يُحكم من خارج قبيلته ونسبه؛ ومِن ثَمَّ، وحتى يتم قهر الحريات الأرضية، سمح بالحريات السماوية، فقرر الكتاب المقدس في السفر المذكور: «وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتورت إلهة الصيدونيين، وملكوم رجس العمونيين … بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين … ولمولك رجس بني عمون … فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل» (ص١١).
هذا بينما على الطرف الآخر، تمسك الأنبياء الشعبيون بروح القبيلة الانفصالية المتفردة والثائرة والمتمسكة برب إسرائيل وحده، وبتحقيق الحرية على الأرض وفق شرائع البدو.
وإعمالًا لكل ذلك، فقد كان كافيًا أن يؤدي صراع النقائض الداخلي بين هذه الثنائيات دوره الأساسي والرئيسي؛ ليعجل بالنهاية المحتومة، والتي ساعد على حتمها عناصر التناقض الثانوي أو الخارجي، والمتمثل في علاقة غير متوازنة بين مملكتي إسرائيل ويهوذا، وبين الإمبراطوريتين اللتين كانتا تتنازعان سيادة العالم (مصر وآشور)، إضافة إلى القوة الكلدانية الطالعة، التي أحدثت اختلالًا في موازين القوى، واضطراب العلاقات العبرية بينها وبين القوى الكبرى المصرية والآشورية. فكان أن انقض «شيشنق» أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم ونهبها بعد أن أثخن فيها، ولم يلبث سرجون الثاني العاهل الآشوري أن انحدر بدوره، ليقضي على مملكة إسرائيل نهائيًّا عام ٧٢١ق.م. ليتبعه «نبوخذ نصر» الكلداني (المعروف في التراث الإسلامي باسم بخت نصر) فينهي الوجود العبراني، بالقضاء التام على مملكة يهوذا عام ٥٨٦ق.م.
وفي الأسر الآشوري، والأسر البابلي، ثم في الشتات، تحولت الدويلة، المملكة السالفة، إلى حلم عظيم وضخم، وخيال هائل، يتفق إيقاع هوله مع هول الوقعة والسقوط.
هذا ما كان عن نكارة الإسرائيليات — بتعبير «ابن كثير» — وموقفنا التحليلي منها، وهو موقف تأسس على مناقشة النص وليس على افتراض وقوع الحدث؛ لأن المشكلة الرئيسية التي يمكن أن تواجه أي باحث بشأن هذه المملكة السليمانية، هو أنه لا توجد أية معطيات آثارية أو وثائقية بشأن هذه المملكة، سواء في وثائق بابل أم آشور أم كلديا أم مصر أم فينيقيا، على كثرة ما اكتشف فيها من وثائق، كما لا توجد في أي مكان إشارة صريحة إلى سليمان أو أبيه داود، رغم ما أخبر به الكتاب المقدس عن عظمة هذه المملكة واتساع سطوتها وهيبتها، فسليمان وداود اسمان لا تعرفهما وثائق التاريخ، لا في نص ولا في نقش ولا حتى في بقايا آثارية يمكن تأويلها أو يُشتَمُّ منها أو يستنتج ما يشير إلى داود وولده عليهما السلام، بينما نجد في الوقت نفسه المزعوم للمملكة المزعومة في نصوص مصر، تقارير تذكر أمورًا مفصلة ودقيقة عن كافة أحوال المنطقة، والحدود السينائية، كنقل موظف، أو تحرك بعض الكتائب العسكرية، أو انتجاع قبيلة بدوية، وحتى الحفريات التي جرت في فلسطين، فإنها حتى الآن لم تفد بأي دليل مادي بوجود «سليمان» أو أبيه «داود»، ومن المشكوك فيه أن يطالعنا المستقبل القريب بمثل هذه الكشوف.
مملكة العجائب
لأننا قد شرحنا مواقف الكتاب المقدس، وصورة الملك «سليمان» في مرآته، وعقبنا بما في مكنتنا من ملحوظات، فقد وجب الآن أن نعرض لصورة «سليمان» الملك العبري، ولكن في الإسلام، كما وردت في القرآن الكريم والحديث، إضافة إلى بعض ما جاء في كتب الأخبار الإسلامية والسير والأثر، وهو ما يفصل في الأمر بيقين الوحي والتنزيل المبين، لدى الصورة النقية لسليمان كنبي كريم، مقارنة بنكارات الإسرائيليين، دونما تعقيب، فقط ربما أضفنا عبارة تحمل ملحوظة من جانبنا، أو إشارة لأمر يؤدي إغفاله إلى سوء الفهم، ونمهد فقط لتوضيح هو من واجبات المصداقية مع الوحي الكريم وأسباب التنزيل، فمن المعلوم أن أهم تفاصيل رواية القرآن الكريم ودقائقها، حول نبوة «سليمان» عليه السلام، وملكه، قد جاءت في سورتين بالتحديد، هما سورة النمل وسورة ص. ومعلوم أيضًا أن كلتا السورتين من السور المكية، وفي المرحلة الزمنية السابقة على هجرة نبي الإسلام (محمد ﷺ)، من أم القرى مكة إلى يثرب أو المدينة، حيث كان لليهود فيها مكان ومكانة، وكان طبيعيًّا أن تسبق الرسول ﷺ إلى المدينة، تلك الآيات العظيمة، التي تحكي قصة المملكة اليهودية الغابرة، وموقف الإسلام ونبيه منها، والرأي الواضح بشأنها، ومع «سليمان» عليه السلام في الإسلام، نجدنا بإزاء أكبر حشد من الخوارق والمعجزات، ونعيش جوًّا سحريًّا في مملكة للعجائب، تمتلئ بالمردة والعفاريت والجن والشياطين، وهو أمر تضيق بالحديث التفصيلي فيه صفحات موضوع قصير كهذا، ومن هنا سنعمد مضطرين إلى الإيجاز، بادئين بقوله تعالى: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (ص: ٣٥–٣٧)، وهي آيات توضح لنا إلى أي مدى بلغ مُلك «سليمان» وعظمته كملك نبي.
أما أشهر أحاديث النبي «سليمان» وأخطرها شأنًا وأكثرها أهمية، فهو الذي كان بينه وبين الهدهد، ولهذه الأهمية، وللعلاقة الحميمة بين النبي «سليمان» عليه السلام، وبين الهدهد، فقد قال النبي محمد ﷺ: «أنهاكم عن قتل الهدهد، فإنه كان دليل سليمان على الماء.» ويحكي القرآن الكريم وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (النمل: ٢٠).
وفي الحديث عن «عائشة» رضي الله عنها قالت: «قدم رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت الريح فكشفت ناحية من الستر عن بنات لعائشة تلعب (أي إماء صغيرات) فقال: ما هذا يا عائشة، فقالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع (أي وضعوا له أجنحة مصنوعة ليلعبوا به)، فقال: ما هذا الذي أرى في وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما الذي عليه هذا؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟»
(٢) المؤمن الثاني ذو القرنين
من هو؟
ولما كنا نعلم أن التبابعة سلسلة من ملوك اليمن القديم حملوا الاسم «تُبَّع»، فيبدو أن ذلك قد سوَّغ للرواة احتساب «ذي القرنين» ثمينًا؛ ومِن ثَمَّ سعوا إلى اكتشاف اسم يمني له، خاصة مع وجود اللازمة «ذو» في اسم «ذي القرنين» وهي طابع ملازم للأسماء اليمنية، قياسًا على «ذي نواس» و«ذي يزن» … إلخ، مثلما ورد عند «ابن كثير» في قوله: إنه «مصعب بن عبد الله بن قنان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عود بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان. وقد جاء في حديث أنه كان من حمير وأمه رومية، وأنه كان يقال له ابن الفيلسوف لعقله، وقد أنشد بعض الحميريين في ذلك شعرًا يفتخر بكونه أحد أجداده فقال:
إذن؛ اختلف الرواة والمفسرون وأصحاب السير والأخبار في اسم «ذي القرنين» اختلافًا كبيرًا، ويمكن إجمال توجهاتهم في مذهبين: الأول يذهب إلى أن «ذا القرنين» كان عربيًّا قحطانيًّا من اليمن، بينما ذهب آخرون بالمطابقة بين رواية القرآن الكريم وبين أحداث التاريخ، إلى أن «ذا القرنين» هو «الإسكندر بن فيليب» المقدوني اليوناني. وقد اعترض على أصحاب هذا المذهب الثاني عدد من المفسرين، منهم «ابن كثير» و«ابن تيمية» «سُنة» و«الجزائري» «شيعي». وكانت الإشكالية تكمن في أن «الإسكندر» كان تلميذًا للفيلسوف اليوناني «أرسطوطاليس»؛ مما يوجب القطع بكفر «الإسكندر» لتتلمذه على يد فيلسوف، وعليه فلا يمكن أن يكون هو «ذا القرنين» المذكور في كتاب الله العزيز.
- والملحوظة الأولى: هي حول قوله إن «ذا القرنين» كان مسلمًا، وكان مقدمًا على «أرسطو» بمدة عظيمة، فإسلام «ذي القرنين» هنا، يعني أنه قد آمن بدعوة «محمد» رسول الله ﷺ قبل أن يدعو بها بأكثر من ألف عام إذا كان هو المقدوني، وإذا لم يكن المقدوني، وكان مقدمًا على «أرسطو» بمدة عظيمة، فإن ذلك يلقي بنا ألفًا أخرى إلى الوراء، أو يزيد، كما أن إسلامه يعني وفق المنطق الإسلامي أن يكون «ذو القرنين» نبيًّا، إذ ينسحق الزمان بكل آناته في لحظة، ويستدير التاريخ عكس حركته الطبيعية ليصبح كل من سلف من أنبياء — على اختلافهم واختلاف ظروفهم واختلاف مجتمعاتهم وبنياتها، واختلاف قضية كل منهم ومنهجه وطريقته — مجرد لحظة في الزمن المحمدي، وباستدارة التاريخ دورة كاملة، تبدأ ثم تنتهي عند نبي الإسلام ﷺ، يصبح جميع الأنبياء أتباعًا له مؤمنين بدعوته، ويبيت هو البدء والمنتهى في عالم النبوة، كما أصبح الإله تعالى هو الأول والآخر في عالم الربوبية، وعليه فإن «ابن تيمية» يعني بذلك أن «ذا القرنين» كان واحدًا من الأنبياء الكرام، عليهم جميعًا الصلاة والسلام، ومثلهم فهو من أتباع نبي الإسلام ﷺ، الذي سبق الجميع وكان غرة من نور في جبين «آدم»، حملتها أصلاب الطاهرين، ومن أجله، وتمهيدًا لدعوته، كانت نبوات ورسالات جميع السالفين!
- والملحوظة الثانية: تتمثل في أمرين مؤكدين عند شيخ فقهاء السنة «ابن تيمية»: الأمر الأول أن «ذا القرنين» هو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج، والثاني هو أن «الإسكندر» لم يصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج، ويقدم على ذلك براهين، أهمها: أنه لم يرد في الوثائق التاريخية عن «الإسكندر المقدوني» ما يفيد بوصوله إلى مكان أو سد أو أمة تحمل هذا الاسم، لكن أن يكون هناك سد أو مكان أو قوم بهذا الاسم وأن «ذا القرنين» وصلهما، فهو عند «ابن تيمية» من المسلمات التي لا ينالها شك؛ لثبوته بالدليل النقلي في كتاب الله الكريم.
- أما الملحوظة الثالثة: فهي أنه — حتى اليوم — لم يُعرف بعد ماذا قصد القرآن الكريم بأمة يأجوج ومأجوج، ولا أين موضعهم، ولا أين ذلك السد على الكوكب الأرضي، والآراء في ذلك بها خلف كبير، لكن «ابن تيمية» الذي أفحم كل المناطقة بمنطقه، يجزم — اعتقادًا — بكونها مواضع موجودة بل ومعلومة يقينًا، لكنها معلومة في الوحي الذي يعرفها جيدًا ويعرف أن «ذا القرنين» وصلها. كما أنه معلوم في علم التاريخ القاصر، الذي يجهل هذه المواضع، أن «الإسكندر المقدوني» لم يصل تلك المواضع التي يعلمها الله الذي هو فوق العالمين، لكن الذي لا يماري فيه مكابر، أن «ابن تيمية» نفسه لم يكن لديه أدنى علم بموقع هذه الأمة وسدها. واكتفى بأن يعلمها الله، وآمن بوجودها كما قرر القرآن الكريم، وأن هذه الأمة وسدها مقرونان بذي القرنين في القرآن، لكنها غير مقرونة بالمقدوني؛ لأنه لو كان وصلها لعرفها علم الجغرافيا وعلم التاريخ وكُشف عن أمرها، وهو أمر يحمل دلالة قصور علم الإنسان الغر المفتون؛ ومِن ثَمَّ فلا مناص — حسب منطق الرد على المنطقيين — من الاعتراف بتواضع، أن «الإسكندر المقدوني» «لم يصل لهذا ولا وصل إلى السد»، وهذا دليل كافٍ على محدودية رحلته ومحدودية علمه بالذات، ذلك العلم الذي تلقاه عن «أرسطو» الفيلسوف، إذا ما قارناه بعلم «ذي القرنين» الذي علمه الله وآتاه الأسباب، وأرشده إلى أماكن لا تعرفها الإنسانية على كوكبها حتى اليوم، وربما لن تعرفها أبدًا وفق منطق الرد على المنطقيين.
ولكن الطريف والذي لا يغيب على فطن، أن من سلكوا «ذا القرنين» ضمن العرب اليمنية، قد استبطن حديثهم زلات تشير إلى يقين داخلي بأمر آخر، فهو وإن كان عند «ابن كثير» من أزد اليمن واسمه عربي قح «مصعب»، فإن هذا من جهة الأب؛ لأن أمه كانت رومية! ثم فلتة تأتي على خجل واستحياء في قوله: «وكان يقال له ابن الفيلسوف لعقله.» (وهل ثمة فيلسوف هنا غير أرسطو؟) أما السهيلي الذي أصر على اسم الصعب واستمات دونه، ووقف يتلكأ عند بيت منسوب للأعشى ورد عند «ابن هشام»، يقول: إن «الصعب ذا القرنين» مات ودفن في «حنو قراقر» بالعراق، فيبدو أن «السهيلي» لم يكن يعلم أن ذلك الموقع بالتحديد كان الموضع الذي قضى فيه «الإسكندر المقدوني» نحبه، وقت كانت العراق وإيران إمبراطورية فارسية مهزومة. أما «ابن تيمية» و«الجزائري» فقد كانا على يقين أن «ذا القرنين» ليس هو القائد اليوناني الأشهر، لكنهما أصرَّا على منحه ذلك الاسم الغريب على اللسان العربي، «إسكندر»!
عن النبوة والعروبة
هذا ما جاء عن اسمه، ولقبه، أما عن نبوته من عدمها، فهي قضية أثارتها الآيات الكريمة: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (الكهف: ٨٣–٨٦). ويفسر وجدي: «ويسألونك يا محمد عن ذي القرنين، وقيل: سأله اليهود امتحانًا له، وقيل: سأله مشركو مكة، فأجابه الله للتساؤل: قل سأتلو عليكم منه ذكرًا.»
وهنا، يمكن تقرير ضعف احتمال أن يكون السؤال قد وجهه اليهود للرسول ﷺ لأسباب: أولها تقرير كتب الأخبار أن السائلين هما «النضر بن الحارث»، و«عقبة ابن أبي معيط»، وقد لقيا الجزاء الوفاق، بعد تمكن الإسلام من قوته، فقتل أحدهما في نخلة، وقتل الآخر في الروحاء بعد أسرهما في وقعة بدر الكبرى. وثانيها أن الحديث كان قبل هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة، حيث اليهود، باعتبار سورة الكهف مكية لا مدنية، كما أن الحرب الجدالية بين النبي ﷺ وبين بهود المدينة لم تكن قد بدأت بعد. وثالثها أنه ليس في المأثور اليهودي أية قصة تشير إلى نبي أو بطل باسم «ذي القرنين»، وعليه يكون المقبول هو ما أوردناه في صدر هذه الدراسة، عن تساؤل مثقفي مكة، وما جاءت به كتب الأخبار، حيث كان النبي يحدث أهل مكة بأمور وجدوا لها صدًى فيما سبق أن علموه، في رحلاتهم التجارية، أو بعثات بعضهم الدراسية، لكن التساؤل هذه المرة كان عن «ذي القرنين»، هل كان ملكًا صالحًا، أم نبيًّا مرسلًا، أم مجرد شخصية تاريخية فحسب؟
أما من ذهبوا إلى كونه نبيًّا، فقد استندوا إلى ما ورد بالآيات عن تمكين الله له في الأرض ومنحه الأسباب، والكلام معه «قلنا: يا ذا القرنين …» وكله لا يجوز إلا مع نبي.
ومع القول الفصل للنبي محمد ﷺ يجد الباحث لنفسه مساحة واسعة من الاجتهاد، وخاصة مع كثرة ما أسلفناه من آراء، وكانت نوعًا من الاجتهاد، رغم أننا قد أوجزنا بالقدر الذي لا يُخل، وأوفينا بما لا يُمل، وراعينا الكثير من الحساسيات التي تفرضها الظروف، فتخطينا الكثير، وأبقينا الأهم من القليل، وبلونا أنفسنا بمشقة البحث فيا يستأهله الغرض ونبل المبتغى، والعقل من وراء القصد.
وهنا، يمكننا أن نقرر باطمئنان أن «ذا القرنين» لا يمكن — كما جاء عند الإخباريين — أن يكون أحد العبابيس، ولا الضحاكين، ولا ذوي الكرب، ولا الهمالين، ولا صعبًا ومصعبًا … إلخ، لاعتبارات أشدها حسمًا، هو أنه لم يرد في التاريخ المدون ذكر لفاتح عظيم، طاف بين الخافقين، يحمل واحدًا من هذه الأسماء، ولا جاء في التاريخ ذكر ليمني أو حميري، أو لقائد فزاري أو إيادي أو أزدي، جرد الجيوش والكتائب، واجتاح قلاع الدنيا وحصونها، كما ورد في قصة «ذي القرنين» القرآنية.
كما لا يمكن قبول ما قد يقال: إنه ربما كان أحد هؤلاء هو الفاتح «ذو القرنين»، وأن التاريخ المدون أهمله غفلة؛ لأنه كان سابقًا على التدوين واكتشاف الكتابة؛ لأن هذا المذهب سيصطدم مباشرة مع أبسط المبادئ التي نعرفها في علوم الاجتماع والعمران، وتشكل ردًّا بدهيًّا يقول: وهل كان قبل التاريخ المدون دول ووحدات سياسية كبرى، يحتاج احتلالها إلى جيوش وقادة؟ خاصة مع المعلوم الثاني والبدهي بدوره، وهو أن الكتابة لم تبدأ إلا مع الاستقرار الاجتماعي، في وحدات سياسية مركزية إدارية كبرى، بعد قيام المجتمع المنظم، وقبلها لم يكن للإنسان شأن يزيد عن بقية الكائنات الابتدائية، وحتى بعض بسائط خبرات وأساطير البشر الأولى، وجدت طريقها إلى التدوين، بعد أن كانت تتوارث شفاهة من جيل إلى جيل، وليس فيها حسبما نعلم من علوم الميثولوجيا أي ذكر لملك أظل عرشه الأرض يحمل اسم الضحاك أو العباس، كما لا يمكننا في الوقت نفسه أن نأخذ مأخذ الجد العلمي، الحالة الوحيدة التي وقعت بأيدينا، وحاولت الكشف — بروح إيمانية عالية — عن «ذي القرنين»، في الملحمة الرافدية القديمة عن الملك الإله «جلجامش»، والتي دوَّنها السومريون والبابليون من بعدهم، وعالج الباحث «محمد نجيب البهبيتي» في محاولته تلك، مصداقية القرآن الكريم، متناغمة بالتبادل مع الأحداث الأسطورية لملحمة «جلجامش»، بحسبانه «ذا القرنين»، وأنه فتح بلاد الدنيا، واكتشف أمريكا وأستراليا، ودار حول العالم، مع إرجاعه إلى أصول يمنية، وذلك في مجلدين يتسمان بالضخامة والجزالة والجهد، بعنوان «المعلقة العربية الأولى».
ولعل موقفنا — من الأستاذ الباحث رغم جهده الواضح حقًّا — نابع من إصرارنا على التزام البحث لأصول المنهج العلمي، بعيدًا عن التلاعب بالألفاظ والابتسار، والقفز فوق الأحداث، والانتقائية، والتفسير على الهوى للتيسير في الوصول، والتعصب غير العلمي للعنصر، فجاء جهد المؤلف المشكور كالعهن المنفوش، ولأن هذا أمر يحتاج إلى قول آخر ربما في موضع آخر غير مقامنا هذا، فقد آثرنا الإشارة إليه للتنويه، حتى لا يحيلنا قارئ مجتهد إليه ويحسبنا عنه غافلين، وربما غفلنا عن القول الآخر في الموضع الآخر إن آثر المؤلف السلامة وجنبنا الملامة. وإن المعتاد على التعامل مع كتبنا التراثية، لن يرى في تنسيب «ذي القرنين» عربيًّا أية غرابة، حيث اعتاد كتَّابنا — السالفون عافاهم الله — تعريب كل ما يصادفهم، وإرجاعه عنصريًّا للعنصر العربي، وإن لم يتمكنوا من ذلك، ومع مبدأ أضعف الإيمان، يرجعونه طائفيًّا إلى عقيدة الإسلام؛ فيحال البطل إلى أي ولد من أبناء نوح حلًّا للإشكال، وفي ذلك ضمان ولو بعيد لإدراجه ضمن المسلمين عبر إسلام نوح عليه السلام.
وسنرى لاحقًا إلى أي حد تأثرت كتب التراث بالمأثورات الجاهلية، لكن ما نظنه لم يعد خافيًا على قارئنا، أننا نذهب تمامًا إلى كون «ذي القرنين»، الذي سأل عنه «النضر بن الحارث» و«عقبة بن أبي معيط»، والذي أجابهما عنه التنزيل الحكيم، ليس شخصًا آخر غير «الإسكندر» المقدوني، القائد اليوناني. وهو ما سنحاول إقامة الدليل عليه، رغم ما يثيره الشيعي «الجزائري»، والسني «ابن تيمية» من غبار، مع تغاضينا بالطبع عن وصف «ابن كثير» لمثل موقفنا بالغباء وعدم معرفة حقائق الأمور.
واستبعادًا لصفة الغباء، وحتى لا يدخل جهدنا ضمن ما وصفه ابن كثير بأنه «خطأ كبير، وفساد عريض طويل»، فسنتابع الأمر مع الوحي الرباني الصادق صدق رب العالمين، وما عقب به أهل السلف والصحابة وأصحاب السير والأخبار، فيما بقي عن المؤمن الثاني «ذي القرنين» من أخبار.
من المغرب إلى المشرق
ويفصِّل «الثعلبي» و«الجزائري» فيما موجزه، أنه كان لذي القرنين خليل من الملائكة يدعى «رفائيل» (واضح هنا اختلاط الاسم لقراءة الكتابة غير المنقوطة في الاسمين: رنقائيل، ورفائيل) ينزل إليه من السماء يسليه بالحديث ويناجيه، وقال له يومًا: يا ذا القرنين إن لله في هذه الأرض عينًا تدعى عين الحياة، من شرب منها لا يموت حتى يطلب الموت، ولما علم «ذو القرنين» أن هذه العين تقع بالظلمات الواقعة خلف مطلع الشمس (طبيعي عندهما أن يكون وجه الشمس هو المضيء، وأن يكون لها وراء، وطبيعي أيضًا أن يكون قفاها مظلمًا)، جمع جيوشه يخوض البحار ويقطع الجبال اثنتي عشرة سنة، حتى وصل إلى بداية أو طرف الظلمة، وهناك انتخب لقيادة الجيش شخصية تراثية شهيرة أخرى هي «الخضر»، المعروف بالحي الغائب، وخاض بهم فيما وراء الشمس، في الظلمة، وهناك دعا ثلاثمائة وستين من رجاله بينهم «الخضر»، ودفع إلى كل منهم سمكة، وقال لهم: اذهبوا في الظلمة فهناك ثلاثمائة وستون عينًا، وليغسل كل منكم سمكته في عين منها، فذهبوا، لكن سمكة «الخضر» انزلقت منه، فسبح وراءها وعب من الماء، ولما عاد أعلم «ذا القرنين» بما حدث فقال له: كنت أنت صاحب عين الحياة، وهذا هو السبب أن «الخضر» حتى اليوم حي، لكنه غائب لأنه شرب من عين الحياة الخالدة، ولم يصلها «ذو القرنين» ليشرب، ومات صغيرًا (وربما حسيرًا).
ويحدد «الطبرسي» مكان هذا السد بكل دقة، فيقول: «إنه وراء در بندر وخزر من ناحية أمرينية وأذربيجان»! أما «النيسابوري» فلا يفوته الإدلاء بالقول الأدق مع تحديد المسافة بعناية، فيقول: إن موضع السد وراء زخرد بقرب مشرق الأرض، بينه وبين الخزر مسيرة اثنين وسبعين يومًا، وإمعانًا في التدقيق يضيف: «وإن مطلع الشمس قريب جدًّا هناك، إلى حدِّ أن الناس هناك يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس مباشرة، فينضج.»
الجذور
وبعد استعراضنا للمادة التراثية حول «ذي القرنين»، يبقى علينا البرهنة على زعمنا، الذي لم نرشح فيه «الإسكندر المقدوني» ليكون «ذا القرنين» القرآني فقط، بل واحتسبناه هو محور كل حديث التراث، بداية من سؤال المكيين الاختباري، والذي أضمر المقدوني، وأسفر عن ملمح من طرف الخيط إمعانًا في الإلغاز، لاستكشاف مصداقية علم النبي محمد ﷺ اللدني، ومرورًا بالرد القرآني الكريم على المتسائلين بالجواب المفحم، وانتهاء بروايات المحدثين والمفسرين وأصحاب السير والأخبار من رجالات تراثنا الأفاضل، ولكن موقفنا — في ضوء حجج «الجزائري» و«ابن تيمية» و«ابن كثير» — بحاجة إلى ما هو أكثر من التبرير، وربما كان مطلوبًا منا — على الأقل — عدد من القرائن يرقى في مجمله إلى مرقى الدليل. وقد يبدو أننا في مأزق شديد، حيث لا دليل نقليًّا على ما زعمنا، وليس ثمة شخصية تاريخية — في المقابل — تحمل اسم «ذي القرنين»، وجلي أن المادة المتوافرة لدينا حتى الآن هي من القرآن الكريم، وما لحق آياته من شروح وتفاصيل، وهي — وإن مال بعض المفسرين لرأينا — لا يبدو أنها ستساعد في تقديم القرائن المطلوبة لترجيح مذهبنا، ناهيك عن القطع في الأمر.
لكن؛ ربما كان مناسبًا هنا طرح نموذج لمنهجنا الذي سبق أن ساعفنا في دراسات عديدة منشورة. وفي إشكاليات لا تقل تعقيدًا، واهتدينا بسننه سبيلًا أقوم فيما عرض لنا من مشكلات، وبه كنا نجد — دومًا — لآخر الحلقات، ارتباطاتها المتعشقة بأصولها على التوالي، في خط تطوري لا جدال فيه، وهو ما سنحاوله هنا أيضًا، فإن أصبنا فلنا مثابة الأجر المضاعف، وإن أخطأنا فلنا إثابة الأجر الواحد، وهو يكفينا تمامًا، فما تجشمنا إلا مشقة البحث عن الجذور، وترتيب الأمر حسب الأصول، وهي مشقة لها من يقدرونها، وبهم نحن في غنًى وكفاية، أما مثابة الأجر الواحد فهي تغنينا عن العالمين، لاتفاقها التناسبي مع كرم رب العالمين.
وحتى نسلك طريقنا إلى الجذور، فلا بأس من تنبيه للقارئ الكريم إلى أنه، إذا كان قد وجد فيما أسلفنا حتى الآن لذاذة المعرفة مع طرافة النادر في الأخبار، فربما وجد الآن بعض العناء والوعثاء، فالدرب معقد شائك، ورغم ذلك فقد احتملنا مشقته عن القارئ، فهذبنا المتشابكات، وأعدنا شواذ الفروع والأغصان إلى مسلكها الصحيح، وقدر الإمكان غلفناه بالشائق، لكن للعلم صرامته رغم تطوع الباحث من أجل تطويع موضوعه يسرًا للقارئ؛ ومِن ثَمَّ فربما جاء هذا الجزء من الدراسة نافرًا بعض الشيء عن باقي العمل، وربما ارتأى فيه نشوزًا بلا معنًى، وربما رآه منقطع الصلة بموضوعنا؛ لذلك نطلب من القارئ الكريم إمهالنا شيئًا يسيرًا؛ ليتكشف له من الأمر كثير، فصبرًا قليلًا، وسيجد أن لكل معلومة ترد هنا مكانها، بل سيجد أن هذه الحلقة هي سدة الموضوع كله ولحمته، والله المستعان.
وأول ما يلاحظه الباحث هنا أن الملكين يحملان اسمين لهما علاقة وطيدة بالقمر في حالة الهلال، فالاسم «نرام سين» اسم ملصق من مقطعين، والمقطع الثاني منه «سين»، هو أحد الأسماء في اللغات السامية الدالة على القمر، أما الاسم «آشور بانيبال» فهو في النطق الأصدق «آشور باني بعل» ويعني «آشور خالق بعل»، وبعل بدوره كان إلهًا للخصب وعلامة على القمر، فكلا الاسمين يشير إلى ارتباط المملكتين، بالمعبود القديم للساميين الإله القمر، والقمر في حالة الهلال ليس في تصور الأقدمين سوى قرنين، وكان يمكن لإنسان تلك العهود أن يرسم في خياله صورة لأي حيوان ذي قرنين تحت الهلال، مثلما رسم للأفلاك «دب أكبر، حوت، جدي … إلخ»، وربما كان أقرب التخيلات الكبش والثور، وعليه فلا شك أن هناك ارتباطًا بين القمر وبين الخصوبة والحمل والميلاد، سواء في ولادة البشر أم الحيوان، أم ولادة الأرض للزرع.
وربما كان مفهومًا أن تقترن الشمس بالزرع والخصب لدورها الواضح في حياة الزرع ونضجه، وارتباط دورتها السنوية بدورة الزرع ما بين الخصب والجدب، أو بين الشتاء والصيف، لكن ربما لم يكن مفهومًا لدينا دور القمر صاحب القرنين صاحبي الدور الأساسي في المعتقدات حول الخصب، لكن هذا الدور كان واضحًا تمامًا لدى إنسان تلك العهود، الذي قدس الأرض كمفرز ومنتج للزرع واحتسبها أمًّا كبرى لكل الأشياء، وقدَّس تبعًا لذلك معنى الأمومة، مع ما ورثه من سيادة قديمة للأنثى في النظام الاجتماعي الأمومي، مع انبهاره الشديد أمام ظاهرة الولادة، وهو يرى الحياة تخرج من بطن الأنثى؛ لذلك، وإن انقطعت سيادة الأنثى على الأرض بالسيادة الذكرية، فإنها ظلت شوطًا طويلًا من الزمن تسود بين المعبودات الكبرى في كافة المجتمعات وبخاصة الزراعية، ومن أشهر سيدات السماء «إيزيس» أو «إيسة» المصرية، و«عشتار» الرافدية، و«عنات» الكنعانية، و«سيبل» الفريجية، و«استارته» الفينيقية، و«مريم» المسيحية … إلخ. وربما لاحظنا تلك الحفرية التي احتفظت بها اللغة العربية للارتباط القديم بين القرنين والحياة والأنثى، فوصلت بين القرن والحياة في الكلمتين: قرن وقران، وما يستدعيه الميلاد من قران بين ذكر وأنثى، وبين تسمية الأنثى حواء، وتشارك الاسم مع الكلمة حياة، ثم لا ننسى حيا الأنثى أو فرجها مفرز الحياة.
ثم لا تفوتنا البقرة ذات القرنين، ودورها المهم في دفن الحبوب في الحقل وتقليب التربة وحرثها، وروثها كمخصب طبيعي، والبقرة بالقلب اللغوي أو «الميتاتيز» هي «بركة» ومواليد ووفرة. أما الخروف أو «الحَمَل» — فلا شك — له في اللغة علاقة بالحَمْل والميلاد. أما دورة القمر الشهرية وتحولاته ما بين الظهور والاختفاء، فقد فطن القدماء إلى تناغم إيقاعها مع إيقاعات الدورة الشهرية للمرأة. وكان دم الحيض في ظنهم هو مصدر تكوين الجنين لاختفائه مع الحمل، فهو مصدر الحياة.
وهكذا تراكمت في الأساطير القديمة محصلة معرفية لخبرات الإنسان وتجاربه إبان صراعه مع الطبيعة، تحولت مع الزمن إلى رموز ومفاهيم يعنينا منها هنا ارتباط الخصب والخضرة والزرع والحياة عمومًا بالماء، وبالقمر والقرنين بحسبانهما الهلال، وبالخروف والثور وذوات القرون عمومًا، وبالمرأة والحية، ولعل مشهدية القمر الهائلة والجليلة، كمصدر خوف ومصدر خير، في الليالي المطيرة المرعدة المبرقة، والخير في المطر. وخوف هذا التجلي المبرق المرعد، جعل الإنسان يربط هذه الرموز أيضًا بالنار، وقتما كانت الصواعق المصدر الوحيد للنار. كذلك اشتملت الصاعقة وربها ثنائية نقيضة، فالصاعقة ماء ونار أو جنة ونار. مع ملاحظة أن اكتشاف النار بقدح الزناد، وقدح الزناد عصا «ذكر» تدور في ملفاف «أنثى»، كان بداية الطريق الذي انتهى بتحول المجتمع البشري إلى التحضر ثم اكتشاف الكتابة. وبحلولها انتهى عصر سيادة الأم وساد الأب.
وحتى اليوم لم تزل في موطن الباحث (مدينة الواسطى بصعيد مصر) بقايا قائمة لتلك العبادات الزراعية، تحول أصحابها بما يلائم سيادة الدين الإسلامي ليصبحوا من الأولياء الصالحين، فمنهم «الشيخ زارع» «لاحظ الاسم وعلاقته بالزرع»، والشيخ «عويس القرني»، أو «عويس» ذو القرنين، وكلاهما مزار لأعداد هائلة وغفيرة تعود الضريحين مع بداية الربيع أو عودة الدورة النباتية. كذلك الشيخة «خضرة» في طريق مدينة الفيوم. وليست شيئًا سوى شجرة فقط يجاورها مسجد تم بناؤه على شرفها عندما نزفت دمًا حسب سيناريو الرواية الشعبية، وعليها علَّق الأهلون قرنين عظيمين!
ويتميز الشيخ «القرني» بوجه خاص بسعي النساء العواقر إليه طلبًا للحمل، وعلى ضريجه لا يزال القرنان معلقين، أما الذبائح المستحبة تقربًا إليه فهي ذوات القرون، وكل حسب قدراته، وحبذا لو كان كبشًا، أو ثورًا لمن استطاع إليه سبيلًا، أما الكلمة «عويس» فهي اسم شعبي واسع الانتشار في مصر. لكنه في معارف باحث مهموم بالميثولوجي ليس سوى صيغة مقلوبة من اسم تراثي ميثولوجي عريق، هو «يسوع» أو «يشوع» أو «عيسى» ويعني المنقذ أو المخلص، ويعني أيضًا المبعوث والمبروك. وقد تخلف الاسم «يشوع»، و«يشع»، في العبادات العبرية بعد ذلك. فأصبح هو الإله «يهوه» المعروف أيضًا في الكتاب المقدس باسم «ياه» وباسم «إهيه»، والاسم «يوشع» أو «يشع» أو «يشوع» ملصق من كلمتين هما: «ياه» + «شا»، التي أصبحت بالإدغام «ياهوه» رب القبيلة الإسرائيلية، والملصق يحمل المعنى الذي ذهبنا إليه. فالشطر «ياه» من الهواء، والشطر «شا» من كلمة شاة التي تعني في اللغات السامية كل ذوات القرون، والملصقان يعينان في النهاية الشاة الهوائية أو الشاة الطائرة، وهو أبلغ تعبير عن المعبود القمري.
وحول الأمر تفاصيل هائلة اكتفينا منها بما يعني موضوعنا ولصيق الصلة به؛ لوضع صورة سريعة لما وصل إليه الإنسان من معارف، بناها على علاقته بالطبيعة من حوله، وتحولت إلى معارف مقدسة في الحضارات القديمة بالمنطقة، وقتما كان «الإسكندر المقدوني» يطمئن على حدوة حصانه، ويركب فرسه ليسافر طوَّافًا أو فاتحًا لتلك البلدان، وهي المعارف أو المقدسات التي ستضيء لنا مساحة أوسع حول لغز «ذي القرنين».
الأصول
والآن؛ من هو «الإسكندر المقدوني»، ولماذا احتسبناه هو ذا القرنين نفسه القرآني؟ بعد أن زرعنا البذار عبر الصفحات السالفة، وحان وقت القطاف، خاصة مع ما أوردنا من مادة علمية بعنوان «الجذور» تبدو منبتة الصلة بما قبلها، كما لو كانت إيقاعًا نشازًا، أو قولًا في غير مقامه.
«الإسكندر» هو «الإسكندر الأكبر بن فيليب الثاني» من أمه «أوليمبيا أو أوليمباس»، وهو ربيب الفيلسوف اليوناني الأنشر «أرسطوطاليس» وتلميذه، وهو القائد اليوناني الفذ الذي توجهت فتوحاته — ضمن خطته لضرب الإمبراطورية الفارسية التي أسسها «قورش» صاحب تاج القرنين — نحو أرض الفراعنة، بغية الاستيلاء على بوابة الشرق القديم، وقتما كانت تدين بديانة «آمون» الخروف رب الدولة (لا يظن مشتبه أننا نقلل من شأن آمون، فالمسيح في الأناجيل أيضًا كان خروفًا، بل كان الخروف الأعظم)، و«آمون» في الاعتقاد هو الروح لأوزيريس صاحب العائلة المقدسة، وهي عقيدة تثليث تعبد إلهًا أبًا هو «أوزير» وإلهة أم هي «إيسة» وإلهًا ابن هو «حور»، والابن «حور» يعد أصل السلالة الملكية الحاكمة وجدها البعيد، بالضبط كما كان الابن الإلهي «تموز» في العراق القديم؛ لذلك كان الفرعون يعد ابنًا للإله يجري في عروقه الدم السماوي الشرعي، الذي يكتسب بموجبه شرعية الحكم. وفي حالات نادرة كان يستولي على عرش البلاد قهرًا بعض الطامحين، لكن كان على من يطيق ذلك أن يرضي الكهان بالمال والأراضي والمناصب؛ ليعترفوا به ابنًا للإله الأعظم «آمون»، وأنه أيضًا حفيده عبر «حور» الابن الإلهي، وذلك قبل أن يتزوج الأميرة الوريثة ويصبح حكمه مشروعًا.
ويؤكد «ﻫ. آيدرس بل» أن الاحتلال الفارسي لمصر كان قاسيًا، ولم يعامل عقائد المصريين بالاحترام الواجب، بعكس تلميذ «أرسطو»، «الإسكندر» المقدوني الذي لم يتبع في فتح أعظم بلاد الشرق سياسة البطش الفارسية، إنما استثمر ما تلقاه عن أستاذه من حكمة، واستخدم الدبلوماسية في استغلال الدين لتثبيت حكمه، فما أن وضع جنوده أقدامهم على البر المصري، حيث قرية كانوب الساحلية (وهي التي حولها إلى حاضرة كبرى هي الإسكندرية)، وبعد أن استسلم له الوالي الفارسي، حتى أعلن «الإسكندر بن فيليب الثاني» ولاءه لآلهة مصر الوطنية وخضوعه لها، كما أشاع بين الناس أنه ما قدم من بلاده إلى مصر، إلا لينقذ آلهتها من الامتهان الفارسي، ويقدم لها فروض الولاء والطاعة.
وبالمقارنة يمكن ملاحظة أوجه شبه كثيرة بين واقع الحقيقة التاريخية عن «الإسكندر المقدوني»، وبين ما ورد في كتبنا التراثية، وبين ما نعلمه عن ميثولوجيا المنطقة وتراثها القديم، فالإسكندر تاريخيًّا هو باني الإسكندرية، لكنه مع الوقت تحول في كتاب «إكمال الدين» إلى رجل من أهل الإسكندرية يقال له «إسكندر»، وخُلط نتيجة ذلك بين كونه مصريًّا أو يونانيًّا. أما «الرازي» ومن ضرب في دربه، فكانوا أكثر الرواة قربًا من الواقع، عندما أكدوا أن «ذا القرنين» هو باني الإسكندرية، وأن اسمه «إسكندر ابن قليقوس، أو فليقوس، أو فيليش كما عند النيسابوري».
ومسألة تلقيبه بذي القرنين لأنه أمسك بقرني الشمس، فتذكرنا بالشمس المصرية ذات القرنين، وما سجلته كتب الأخبار عن كونه حمل اسم «هرمز»، فلعلنا لم ننسَ بعد أن «هرمز» كان إله الخير في الديانة الزرادشتية، وأنه كان يلبس تاجًا ذا قرنين، ومسألة تسخير السحاب له يحمله حيث شاء، فلا شك أنها تستدعي فورًا آلهة الخصب «حداد» و«بعل» و«أدونيس» راكبي الغيوم أو السحب، والإشارة التراثية إلى أن أبا ذي القرنين كان ملاكًا وأمه آدمية، تذكرنا بالقصة التي نسجها كهان مصر، ليتيسر للإسكندر مشروعية حكمها، والتي تقول: إن الإله «آمون» قد خالط أمه «أوليمباس» وأنجب منها «إسكندر»، الذي كان في الحقيقة ابن «آمون» وليس ابن «فيليب»، وربما كان ذلك بدوره عاملًا أكد مصريته.
وبالمطابقة نجد لبس «الإسكندر» لتاج الملوكية الشرقي «ذي القرنين»، واحدًا من التعليلات التراثية للقبه، وهو ما حدث في الواقع التاريخي، كما نجد لما جاء في الرواية التراثية عن حج «ذي القرنين» ماشيًا إلى الكعبة المكية، حيث تلقاه «إبراهيم عليه السلام»، صدًى في حج «الإسكندر» إلى كعبة «آمون» حيث تلقاه كبير الكهنة، والفارق الزمني بين عهد النبي «إبراهيم» وعهد «الإسكندر»، يضع الرواية التراثية موضع الروايات التلفيقية، والإسرائيليات فيها أوضح من الحاجة لبيان، فما أرجع زمان «ذي القرنين» أو «الإسكندر» إلى زمن النبي «إبراهيم»، إلا ليحكم في بئر سبع، في الرواية التوراتية المشهورة عن خلاف إبراهيم (عليه السلام) مع «أبيمالك» الفلسطيني، وكيف انتهى الأمر إلى تمكين «إبراهيم» وذريته من بئر سبع. وهو الأمر الذي يضعه الصهاينة ضمن حيثياتهم لامتلاك أرض فلسطين. وجاء إخباريونا عافاهم الله ليرجعوا بذي القرنين إلى عهد «إبراهيم عليه السلام» ليحكم للنسل العبراني بالحق في الأرض الفلسطينية.
ومن جهة أخرى نجد للأصل التاريخي أثره في الرواية التراثية، فكما ذهب «الإسكندر» إلى ما كان يعتقده المصريون مغربًا للشمس، ذهب «ذو القرنين» في الرواية التراثية إلى مغرب الشمس، حيث وجدها تغرب في عين حمئة، وهو اعتقاد المصري القديم نفسه، بل إن المصورات الباقية لمركب الشمس هابطًا نحو المغرب، يكاد يشبه الرواية التراثية في أن الشمس تجرها الملائكة كالمركب نحو المغرب.
ومسألة القرون أو تاج آلهة الصواعق الزراعية، قد تخلفت بدورها في الرواية التراثية، حيث قالت: إنه كان يزأر كالأسد المغضب، فتنبعث من قرنيه رعود وبروق وصواعق، ولا ننسى أن لقب الإله حين يرسل رعوده هو «رمان» أي يزأر. كذلك مسألة عين الحياة لها في الواقع جذور، حيث وصل «الإسكندر» إلى بحيرة «آمون»، بل إن مسألة الثلاثمائة وستين عينًا التي طلب «ذو القرنين» من أصحابه غسل أسماكهم فيها، ليست سوى صدى للتقسيم المصري القديم لأيام السنة إلى ثلاثمائة وستين يومًا، إضافة إلى خمسة أيام للنسيء سميت بأسماء أعضاء أسرة «أوزير» رب الخلود.
ولا ننسى أن الحية ظلت في المقدسات وراء سلب الخلود من الإنسان، وهي أيضًا رمز الحياة والنبات، فهي تحمل قيمة ثنائية كالمرأة، فهي في التوراة التي أوعزت لأبوي البشر في عالم الخلد ليأكلا من نبتة المعرفة، فخسرا الخلود وطردهما الرب من جنة عدن. كذلك فإن «إبليس» في التراث الإسلامي عندما أراد إغواء أبوي البشر بالثمرة المحرمة في عالم الخلد، تلبس هيئة الحية. وانتهى الأمر هنا أيضًا بخسران الخلد.
(٣) الكافران النمروذ بن كنعان وبخت نصر
الآن، وبعد وقت قضيناه مع الملكين المؤمنين: «سليمان بن داود»، و«ذي القرنين»، ومع ما جاء بشأنهما من كلم جليل بالقرآن الكريم، وما لحق الكلم من كلام الأحاديث والتفسير والأخبار والسير في تراثنا الثري بالراسب الثقافي للأمة، إضافة إلى ما عمدنا إليه — وفي العمد قصد — من سرد ما جاء بمقدسات أهل الكتاب حول الملك «سليمان» — ولم يأتِ فيها خبر عن «ذي القرنين» — بغرض معاينة أخبار الكتاب المقدس المعاينة النافية للجهالة، وبهدف الكشف عما بخبرهم من نكارة، وبغية هتك نكاراتهم التي لبست أردية إسلامية وتزاحمت بها مصادرنا التراثية وعجت؛ ومِن ثَمَّ فلا بأس هنا، ونحن على موعد مع كافرَين من العتاة، أن نستمر على دربنا واثقين، ونلتزم منهجنا غير هيَّابين، ولكن، لأن للنفس صبواتها الإيمانية، ولأنها تعاف الكفر، ومنه تنفر وتأف، فلا جناح إذن علينا إن قدمنا أمر الكافرين في عجالة نوجز فيها القول، وربما كان ثمة سبب آخر للإيجاز، يدفع إليه قسرًا ندرة ما جاء بشأنهما في المصادر. مما جعل الاستفاضة إنشاء لم نعتده مع قارئنا، لكن ما يُعزينا أنه ربما حسمنا بشأنهما أمرًا، أو أفدنا القارئ من قصتهما خبرًا، استجلاء لما في الخبر من عبر.
والكافر الأول «النمروذ بن كنعان» وإن تكبر وتجبر، فلا بأس في ضوء مركزيات الأمم السوالف، وفي ظل المنطق التراثي، لكن النكاية في خبر النمروذ أنه لما ملك الأرض كلها اغتر، وظن أنه لا ند له يدانيه، فتأله وادعى من الأمر ما لا يملك، وربما عذر الرجل عاذر، وهو يراه جالسًا على عرش الكوكب الأرضي، ويلبس تاجًا لا ينافسه آخر ولا يطاوله، لكن لو لم تأته البينة لكان العذر مقبولًا، فقد أرسل إليه رب العالمين يعلمه بأمره، وبأن ملك الله أعظم، وأن النمروذ ليس في ملك الله إلا مخلوقًا ضعيفًا، وقد حمل الله تلك الرسالة لصفيه وخليله «إبراهيم عليه السلام»؛ ليعرف النمروذ أن هناك من هو أعظم، وأن يعترف له، بأن ينسحب من ميدان الألوهية ويسحب ادعاءه، وإلا أثبت له أيهما هو الرب حقًّا، وتروي آيات كتاب الله كيف واجه نبي الله «إبراهيم» ذلك الدعي وألزمه الحجة، وأفحمه بالبرهان المبين، بشجاعة تليق بخليل رب العالمين، وذلك في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة: ٢٥٨).
بعض المنطق
والمتمعن في كلام الله — ومطلوب من المؤمن أن يتمعن — يدهشه ذلك الموقف بين رجلين: أحدهما جبار يملك ما بين الخافقين، والآخر يافع تجاوزت به صبوات الروح إلى الطموح لأمر عظيم، والآيات تضع أمامنا صورة خليقة بكليهما، وهي رغم إغفالها التعريف بالملك، مع الإهمال والاستهانة «ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم؟» فإنها توضح موقف «إبراهيم» الحازم الصارم، فإن كان الملك يستند إلى وحدانيته في ملك الأرض، فإن «إبراهيم» يستند إلى يقين بوحدانية ملك الأرض والسماء، لكن منبع الغرابة هنا، هو أن يسمح الملك المنعوت بالجبار — في تراثنا — لشاب في سن «إبراهيم» عليه السلام أن يطاوله، وأن يسمح لذاته في الوقت نفسه بالتبسط معه كل هذا التبسط، مع ما ذهب إليه «إبراهيم» في المحاجة من مدًى، إذ تجرأ على ذات الملك وما لها من جلال وقداسة في تلك العصور، بل وتفهمنا الآيات الكريمة بصدق التنزيل أن «إبراهيم» كان هو صاحب الكلمة من البداية إلى النهاية، فهو الذي ابتدر الملك بالسؤال المتحدي، وهو الذي أغلق الجدل، وما بين البدء والمنتهى قام بتسفيه الملك ومركزه، بعد أن صرح له «إبراهيم عليه السلام» أنه لا يعترف بسيادته لأنه إنما يدين بالولاء لملك آخر أعظم شأنًا، يمكنه أن يأتي من الأعاجيب ما لا يستطيعه النمروذ، وكان طبيعيًّا أن يعجب «النمروذ» وهو يعلم أنه لا ملك سواه على عرش المعمورة، لكن طبيعي أيضًا أن نتعجب بدورنا للنمروذ وهو يسمح بتلك المناقشة أصلًا، ويفتح أبواب قصره للمتحدي، ويعطيه من الوقت والأناة والصبر ليعبر عما يريد بلاغه. وما تخبرنا به الآيات يسمح لنا بتصور ما جبل عليه الملك من طباع، وتوضح بلا لبس شكل النظام السياسي والمدى المسموح به من حريات، في ظل دولة موصوفة بالتجبر والبطش، والديكتاتورية التي تجمع السلطان الروحي مع الزمني في مركزية صارمة. ومن جانب، فإن رواية القرآن الكريم عن «النمروذ»، وعدم استنكافها الحديث عن الرجل وموقفه من الحريات، أمر — لا مشاحة — يعبر عن النزاهة المطلقة بالتنزيل المبين، ومصداقية الكلم الكريم مع الحدث وواقعه دون تزويق.
ولا يخفى أن مثل هذه المطارحة الجدلية التي سمح بها الملك النمروذ، كانت كفيلة بزلزلة الحكم الدكتاتوري من أسسه؛ لأنه انتقص البند الأول في الدكتاتورية، وهو ما حدث بالفعل — حسبما يخبرنا الإخباريون — فانهارت المملكة وتشتت أهل الأرض وانقسموا شيعًا وشعوبًا متنافرة، بعد الحدث الهائل وانهيار برج بابل وتبلبل الألسن بعد أن كانت لسانًا واحدًا وعقيدة واحدة وحكومة واحدة، كما انتهى الملك «النمروذ» نفسه نهاية مزرية ولكن بعد عذاب أليم، حتى تطيب أنفس المؤمنين، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، لكن مشيئته قدرت غير ذلك، وما شاء قدر.
وللقصة تفاصيل، تحتاج إلى مزيد من التدقيق.
أما في الكتاب المقدس، فمن الواضح أنه ليس ثمة علاقة البتة ما بين «نمروذ» وبين برج بابل وبين النبي «إبراهيم»، وهو ما سنفصل فيه القول، لكن ما لا يجب أن يفوتنا، الإشارة إليه أن قصة برج بابل في هذا الكتاب قد حدثت في فجر الإنسانية على الأرض. أما «النمروذ» فبعد ذلك بزمن بعيد يعود إلى زمن أبناء «نوح»، ويبدو أن ثمة كاتبَين لهذا الجزء من سفر التكوين، والذي يتحدث عن اختلاف لغات البشر، ويبدو أيضًا أن الكاتبَين لم يلتقيا ليصفيا ما بينهما من خلافات في التفاصيل، ربما لبعد الزمان بينهما، وأن الرواية تم جمعها بعد ذلك مع ما جمع من الكتاب في وقت متأخر، فالكاتب الأول يقول: «وهذه مواليد بني نوح: سام وحام ويافث … من هؤلاء تفرقت جزائر الأمم بأراضيها، كل إنسان كلسانه حسب قبائلهم وأممهم.» وهو بذلك يرجع تفرق الألسن لزمن متأخر عن وقته بداية الخلق، إلى عهد أبناء «نوح»، ثم هو أقرب لمنطق الواقع في إرجاعه اختلاف الألسن لتفرق الأمم بين قبائل «شعوب» وجزائر «أي مواضع بيئية مختلفة».
أما الكاتب الثاني فيقول: «وكانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة، وحدث في ارتحالهم شرقًا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك، وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع لبنًا ونشويه شيًّا، فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحمر مكان الطين، وقالوا: هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نبدد من على وجه الأرض، فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة؛ لذلك دعا اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض» (التكوين، ١١).
أما من جهتنا، فإن كاتب هذا الجزء من التوراة، يبدو من الكتاب المتأخرين بعض الشيء، الذين عاشوا في كنف الدولة المركزية، وربما الأسر البابلي على الأرجح، بينما كان يتوق لحياة البداوة الأصيلة في العبرانيين، التي تنفر من المركزية والاستقرار، وربما رأى أن دولة «سليمان» لم تجنِ للعبرانيين سوى الخراب والأسر وانعدام الحريات، فالمركزية تعني حكمًا واحدًا بيد ملك واحد، يتمكن من إنجاز المشاريع الضخمة ومواجهات الطوارئ الملحة، وفيها يتم تقسيم العمل بالعمل الأفضل للإنجازات الكبرى، وهو ما يتضح في كلام الكاتب التوراتي «هو ذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم العمل.» بينما كان الكاتب يحتفظ في ذاكرته بالأيام الأولى إبان البداوة ومشتركاتها البدائية، ومجالس الحكم الديمقراطية فيها، التي تسع أكثر من حاكم لأكثر من قبيلة، وكما كان لمجالس الأرض شيخ زعيم، كان لمجالس السماء رب زعيم، فكان في السماء كما كان في الأرض مجلس، يمثله اعتقاد الكاتب الحازم وهو يتحدث بلسان الرب الزعيم لأعضاء مشتركة: «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم»!
عن ابن كنعان
في بدء المنتهى لدراستنا التي طال سردها، وإن قصرت عن بلوغ كل المبتغى لإيفاء الملوك الأربعة حقهم من البحث والدرس، يحسن بنا أن نقرر للقارئ معلومة لها أهميتها حول الملك الذي لم يزل قيد بحثنا «النمروذ بن كنعان»، وهو أن «نمروذ» الكتاب المقدس يختلف إلى حدٍّ بعيد عنه في تراثنا الإسلامي، فلم يرد بشأنه في التوراة سوى نص صغير لا يقارن بما جاء حوله من زيادات ومتراكمات في كتب الأخبار الإسلامية، والنص في كلماته المعدودة بلا زيادة ولا نقصان يقول: «وكوش «ابن حام بن نوح» ولد نمروذ الذي ابتدأ يكون جبارًا في الأرض، الذي كان جبار صيد أمام الرب؛ لذلك يقال: كنمرود جبار صيد أمام الرب. وكان ابتداء مملكته بابل وأورك وكلنه في أرض شنعار» (التكوين، ١٠)، ولا شيء آخر عن «نمرود» بطول الكتاب وعرضه، رغم ميل الكتاب للإطناب والإسهاب والتكرار إلى حد الإملال؛ مما قد يشير إلى أنه ليس ثمة علاقة بالمرة بين هذا «النمرود» وبين «نمروذنا» الفضائي الذي ملك العالم وقتلته بعوضة! لكن إخباريينا لا يتركون لنا فرصة هذا الاحتمال بإصرارهم المتواتر على إفهامنا أنه «النمرود» التوراتي نفسه.
ابن كنعان؟!
وضمن ذلك التقرير — وحتى نستوفيه — لا مندوحة من إحاطة قارئنا علمًا أنه ليس هناك علاقة البتة بين «نمرود» التوراة وبين برج بابل، كما أنه لا علاقة له البتة بالنبي «إبراهيم عليه السلام»، فرواية الكتاب المقدس تذهب بزمن برج بابل إلى عصر يبعد أجيالًا عديدة عن عصر النبي «إبراهيم»، فتبلبل الألسن بعد انهيار برج باب إيل أو باب الإله، أمر حدث في فجر الإنسانية، وليس فيه أي دور يؤديه «النمرود» كبطل يمثل دور الشرير، وليس فيه دور للنبي «إبراهيم عليه السلام» كرمز للخير، وحسب شجرة النسب والسلسال الإبراهيمية الواردة بسفر التكوين، التي وافق عليها الرواة المسلمون ونسخوها بحرفيتها، نجد أنه بين عهد «نمرود بن كوش» حسب النسب التوراتي، وبين عهد خليل الله، عشرة أجيال كاملة، فإبراهيم هو ابن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن أرفكشارد بن سام بن نوح، وسام هو عم كنعان؛ لأنه أخو أبيه حام، وكنعان في الإسلاميات هو والد النمرود، فأين هذا من ذاك؟ حتى إذا افترضنا جدلًا صدق ذلك التنسيب، وهو افتراض غير علمي، ثم افترضنا أن كلًّا من هؤلاء النفر في السلسال النبوي قد أنجب ولده وله من العمر عشرون عامًا، فإننا نحتاج إلى قرنين من الزمان لنصل من «نمرود» إلى «إبراهيم».
وتبقى تساؤلات تنبني على مناقشة النص، وأول ما يرد منها على الذهن هو: لماذا عقد التراث الإسلامي تلك الصلة بين «النمروذ بن كنعان» رغم أنه في التوراة ابن كوش، وبين النبي «إبراهيم عليه السلام»، رغم أن الآيات الكريمة لم تذكر أبدًا اسم الملك الذي حاج «إبراهيم»؟
السؤال مهم، لكن إجابته خطيرة ونتائجها أخطر، خاصة إذا أضفنا إليه التساؤل الآخر وهو: لماذا الإشارة الدائمة للنمروذ بأنه «ابن كنعان» خاصة وبالذات؟ ذلك تأكيد المقدس العبري على أنه «ابن كوش»، ولا شك أن إخباريينا الأفاضل قد طالعوه وعاينوه تمامًا، بدليل ما نسخوه من الكتاب المقدس نسخًا، وهذا الإصرار على أن «نمروذ بن كنعان» يلحقه فورًا تساؤل آخر وربما ليس أخيرًا هو: لماذا احتسب رواتنا أن صاحب برج بابل هو «ابن كنعان» بالتحديد، رغم عدم النص عليه قرآنيًّا، ورغم أن مصدرهم الإسرائيلي بدوره لم يقل ذلك؟ الإجابة تضيف للرصيد مزيدًا من الاعتوار، فهل كان الأمر مجرد خلط لحابل بنابل في قراءة الكتاب المقدس؟ أم كان هناك قصد؟ وإذا كان ثمة قصد فإلامَ كان؟ سبق لنا في الدراسات المتقدمة أن أشرنا للإجابة، ولا بأس هنا من الإيضاح مرة أخرى.
«ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته.» وصاحب هذا الدعاء اللعان هو النبي «نوح عليه السلام» بالتوراة، وإذا أخذنا مؤقتًا بالسبب الظاهر وراء هذه اللعنة، فإننا نجده فيما حكاه الكتاب المقدس عن نوح وأولاده بعد هبوطهم من السفينة، إذ يقول: «وابتدأ نوح يكون فلاحًا، وغرس كرمًا وشرب من الخمر، فسكر وتعرَّى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجًا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتفها ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيها، فلما استيقظ نوح من خمره علم بما فعل به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدًا لهم» (التكوين، ٩).
والعجيب في أمر هذا المقدس العبري، أن النبي يسكر ويتعرَّى ثم يلقي باللائمة على من شدهته أحواله. أما الأعجب فهو أن الذي أبصر عورته هو ولده «حام»، ومع ذلك قام يصب اللعنة فوق رأس حفيده الصغير «كنعان بن حام»، الذي لم يحضر المشاهدة، ولم يعاين الأمر كما عاينه أبوه، وربما كان أوانها طفلًا لا يدرك ما يرى حتى لو رأى، وينتهز المقدس العبري الفرصة المواتية لهول الأمر وعظمته، فيصب البركات بلسان النبي «نوح» على رأس ولده «سام» أبي العبرانيين ليعدل في القسمة، فذاك نال اللعنات، وهذا نال البركات، والعدل بقدر ومقدار.
هذا ما قدر الله قوله للحجة الشيعي، فماذا عن الحجة السني؟
والاتفاق السني الشيعي لا شك مطلوب، لكن لماذا الاتفاق على لعن «كنعان»؟ وهو ما يوافق الكتاب المقدس نصًّا وروحًا، ويوافق الهوى الصهيوني تمام الموافقة؛ لأن «كنعان» في التوراة والإسلاميات هو أبو الكنعانيين، سكان فلسطين الأقدمين، قبل أن يستوطنها العبرانيون، وقبل أن تستعمر استيطانيًّا باسم التراث القديم اليوم. أما «سام» فهو أبو كل العربان وأبو العبرانيين، أو كما أشار ابن كثير أنه أبو «العرب»، قاصدًا كل من كان من أصل بدوي، ولا نغفل عن كون الكلمة عربي هي بالقلب «الميتاتيز» عبري. أما القبط بقية أبناء المغضوب عليه «حام» فاصطلاح معلول يدل على المصريين، وأرضهم أيضًا مطلوبة ضمن الوعد الإلهي للنبي إبراهيم: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (التكوين، ٥: ١٨).
وعليه نفهم لماذا أصر التراث وأهله على احتساب النمروذ ابنًا لكنعان رغم المفارقة التاريخية الواضحة، يقصد الزيادة في التنفير من «كنعان» ونسبة كل الرذائل إليه، حتى لا يكون وحده ملعونًا، إنما ذريته التي مثَّلها كأسوأ ما تكون شخص «النمروذ» أو الكافر الأول، والمقارنة التاريخية التي نقصدها تتعلق بعلم التاريخ، إنما تتعلق بما أرَّخه الكتاب المقدس والتراث الإسلامي، وتضارب أوله مع آخره في تلك المسألة، وفي غيرها كثير؛ لأننا قمنا بمسح شامل لما بين أيدينا من مصادر تاريخ العراق القديم، فلم نجد ملكًا حكم الدنيا، ولا حكم حتى في بابل، ولا حتى في أية مدينة عراقية يحمل اسم «نمروذ»، كما لم تدونه جداول الملوك الواردة بثبتهم في المدونات المسمارية، وعليه فإن التاريخ كعلم لا يعلم شيئًا عن شخص باسم النمروذ، كما كان لا يعلم شيئًا عن شخص باسم «سليمان» أو باسم «ذي القرنين»، فقط وجدنا موقعًا جرت فيه حفائر آثارية باسم «نمرود»، ويبدو أنه من وضع مسلمين متأخرين شاهدوا في بابل موقعًا أثريًّا به تماثيل احتسبوها أصنامًا، ولم يجدوا من ينسبونها إليه تراثيًّا، وفي تلك المنطقة، سوى «النمروذ بن كنعان» المواطن البابلي الذي حكم ما بين المشرق والمغرب، وقتلته بعوضة.
الكافر الثاني
أما «بخت نصر» في التاريخ كعلم، فهو «نبوخذ نصر الثاني» الملك الكلداني المظفر، الذي دخلت شخصيته التاريخ من الباب الخلفي ومن أسوأ المداخل، عبر أسفار الكتاب المقدس، بعد حملتين جردهما على مملكة يهوذا، وحملهم في الثانية أسرى إلى بابل عام ٥٨٦ق.م. وظلوا هناك عمالة رخيصة إلى أن فتحوا لقورش أبواب بابل، فأعادهم إلى فلسطين مع قيام الإمبراطورية الفارسية. والواضح تمامًا أن كل الروايات القدسية حول «نبوخذ نصر» إنما تعتمد على الأصول التوراتية التي دشنها كره أحبار يهود، مع سقوط الإمبراطورية الكلدانية عام ٥٩٣ق.م. وأمر «نبوخذ نصر» ليس بحاجة لمزيد من الإفاضة، فالتأريخ التوراتي له أسبابه ودوافعه، والمسيرة التراثية الإسلامية تعمل بحديث المصطفى ﷺ: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.» خاصة إذا كان في الحديث عبر.
هذا ما كان من شأن الملوك الأربعة، وما خرجنا به من درس وبحث شأنهم بغرض إزالة النكارات، واللهم إنا قد حاولنا، اللهم فاشهد.