(١) أَوَّلُ سِبْتَمْبِرَ
سَاقَتْنِي الْمُصادَفاتُ الْعَجِيبَةُ — ذاتَ يَوْمٍ — إِلَى «هَلْ»، ولَمْ أَكُنْ
أُفَكِّرُ — حِيْنَئِذٍ — فِي السَّفَرِ إِلَيْها، ولا خَطَرَ لِي ذلك يَوْمَئِذٍ علَى
بَالٍ.
ولَقِيتُ — فِي طَريقِي — أَحدَ أَصْدِقائِي، فَحَيَّانِي وحَيَّيْتُهُ. ثُمَّ
عَلِمْتُ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ علَى أُهْبَةِ السَّفَرِ
١ إِلى «لَنْدَن». ودَعانِي إِلَى السَّفَرِ مَعَهُ فِي سَفِينَةِ أَبيهِ؛
فَرَأَيْتُها فُرْصَةً نادِرَةً لتَحْقيقِ أُمْنِيَّتِي، دُونَ أَنْ يُكَلِّفَني ذلِكَ
أَجْرًا. وغَلَبَ عَلَيَّ حُبُّ الْبَحْرِ، فَنَسِيتُ كلَّ شَيْءٍ. ولَمْ
أحْفِلْ
٢ بِإِذْنِ والِدَيَّ لِي فِي هذهِ الرِّحْلَةِ، ولَمْ أُقَدِّرْ عَواقِبَ
الْأُمُورِ.
وَهكَذا رَكِبْتُ الْبَحْرَ … وَما أَنْسَ لا أَنْسَ
٣ ذلكَ الْيَوْمَ الَّذِي أَقْدَمْتُ فيهِ عَلَى هذهِ الْمُجازَفَةِ؛ فقَدْ
كانَ أَشْأَمَ يَوْمٍ فِي تاريخِ حَياتِي، إِذْ كانَ فاتِحَةَ عَهْدِ الشَّقَاءِ.
ذلكَ الْيَوْمُ هُوَ أَوَّلُ سبْتَمْبرَ عامَ ١٦٥١م.
(٢) هُبُوبُ الْعاصِفَةِ
وما كادَتِ السَّفِينَةُ تَمْخُرُ
٤ فِي عُرْضِ الْبَحْرِ، حتَّى رَأَيْتُ الْأَمْواجَ تَصْطَخِبُ
٥ وَتَعْنُفُ
٦ وَلَمْ أَكُنْ رَكِبْتُ الْبَحْرَ قَبْلَ هذا الْيَوْمِ؛ فَتَمَلَّكَنِي
الْخَوْفُ والفَزَعُ، وَأَحْسَسْتُ أَنَّ آخِرَتِي قَدْ حانَتْ. وَتَمَثَّلَتْ لِي
نَصائِحُ والِدَيَّ وأهْلي، وَذَكَرْتُ كَلِماتِ أُمِّيَ الَّتِي كانَتْ تَقُوُلُها لِي
وَالدُّمُوعُ مُتَحَدِّرَةٌ مِنْ مَآقِيها.
٧ وَأَيْقَنْتُ أَنَّ هذِهِ الْعاصِفَةَ لَيْسَتْ إِلاَّ عِقابًا عادِلًا
وجَزَاءً وِفاقًا.
واشْتَدَّ هِياجُ الْبَحْرِ واضْطِرابُه. وَرَأَيْتُ الْعاصِفَةَ الْهَوْجَاءَ،
وَهِيَ تُنْذِرُنا بِالْهَلاكِ — بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى — وَقَدْ أَوْشَكَ الْموْجُ
أَنْ يَبْتَلِعَنا جَمِيعًا. وَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ السَّفِينَةَ تَهْبِطُ حَتَّى
تَلْمِسَ قاعَ الْبَحْرِ، فَلَمْ أَرَ مَناصًا
٨ مِنَ الْمَوْتِ. وَنَذَرْتُ للهِ نَذْرًا أَلا أَرْكَبَ الْبَحْرَ ما
حَيِيتُ بَعْدَ هذهِ الْمَرَّةِ، إِذا نَجَوْتُ مِنَ الْهَلاكِ! وَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ
يُنْقِذَنِي، لِأَعُودَ إِلَى أَبَوَيَّ تَائِبًا نادِمًا عَلَى عِصْيانِي
وَمُخالَفَتِي، وَأُعاهِدَهُما
٩ عَلَى أَنْ أُطِيعَهُما فِي كلِّ ما يَأْمُرانِ بِهِ.
•••
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي سَكَنَ الْهَوَاءُ، وهَدَأَ الْبَحْرُ. وَبَدَأْتُ
أَشْعُرُ أَنَّنِي قَدْ تَعَوَّدْتُهُ وأَلِفْتُهُ بَعْضَ الْأُلْفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ
—
حِينَئِذٍ — قَدْ تَمَّ شِفائِي مِنَ الدُّوَارِ.
١٠
ولَمَّا اقْتَرَبَ اللَّيْلُ وغَرَبَتِ الشَّمْسُ وانْقَشَعَتِ السُّحُبُ،
١١ ظَهرَتْ رَوْعَةُ الْبَحْرِ،
١٢ وجَمَالُ الطَّبِيعَةِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَهَبَّ عَلَيْنا فِي
الْيَوْمِ التَّالِي نَسِيمٌ خَفِيفٌ. وأَصْبَحَ الْبَحْرُ كَالْمِرْآةِ الصَّافِيَةِ،
وَتَجَلَّتِ الطَّبِيعةُ فِي أَبْهَى حُلَلِها.
١٣ ورَأَيتُ مِنْ جَمالِ الْبَحْرِ — فِي ذلِكَ الْيَوْمِ — ما أَنْسانِي
هِياجَهُ واضْطِرابَهُ بِالْأَمْسِ، فَنَسِيتُ ذلِكَ النَّذْرَ الَّذِي نَذَرْتُهُ
للهِ، والْعَهْدَ الَّذِي قَطَعْتُهُ عَلَى نَفْسِي!
•••
وَجاءَ إِلَيَّ صَدِيقِي يُرَبِّتُ كَتِفِي وَيَقولُ: «كَيْفَ تَجِدُكَ الْآنَ؟ شَدَّ
ما رَوَّعَكَ
١٤ الْبَحْرُ يا صَدِيقِي. وَما كانَ أَجْدَرَكَ
١٥ بِالشَّجاعَةِ، فَقَدِ امْتَلَأَتْ نَفْسُكَ خَوْفًا وَرُعْبًا حِينَ
هَبَّتْ علَيْنا نَسَمَةٌ لَطِيفَةٌ مِنَ الْبَحْرِ.»
•••
فَقُلْتُ لَهُ مُتَعَجِّبًا: «كَيْفَ تُسَمِّيها نَسَمَةً، وَهِيَ عاصِفَةٌ هَوْجاءُ
مُرَوِّعَةٌ؟»
فَقالَ لِي: «وَكَيْفَ تُسَمِّيها عاصِفَةً؟ يا لَكَ مِنْ ساذَجٍ! إِنَّهَا نَسَمَةٌ
خَفِيفَةٌ، طالَمَا أَلِفْناها وهَزِئْنا بِها، فَلا تَجْزَعْ مِنْ أَمْثالِها؛
فَأَنْتَ رَجُلٌ، وما أَجْدَرَ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ شُجاعًا!»
(٣) فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ
وَقَدْ أَنْسَانِي هُدُوءُ الْبَحْرِ وَصَفاؤُهُ كُلَّ آلامِي وَأَحْزَانِي.
وَشَغَلَنِيَ التَّأَمُّلُ فِي جَمَالِ الطَّبِيعَةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَلَمْ يَنْقَضِ
عَلَيَّ سَبْعَةُ أَيَّامٍ حَتَّى اطْمَأَنَّتْ نَفْسِي إِلَى حَياةِ الْبَحْرِ، وَلَمْ
أَعُدْ أَذْكُرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِي، وَنسِيتُ كلَّ ما زَوَّدُوني بهِ منْ نَصائِحَ.
وَفِي صَباحِ الْيَوْمِ الثَّامِنِ عَنُفَتِ الرِّيحُ، وَاشْتَدَّتِ اشْتِدادًا لا
مَثِيلَ لَهُ. وَبَدا الْقَلَقُ والِاضْطِرابُ عَلَى أَسارِيرِ
الْمَلَّاحِينَ؛
١٦ فَأَنْزَلُوا أَشْرِعَةَ السَّفِينَةِ، وَتَأَهَّبُوا
١٧ لِمُلاقاةِ الْخَطَرِ وَجْهًا لِوَجْهٍ. وَلَمَّا جاءَ وقْتُ الظُّهْرِ
اشْتَدَّ هِياجُ الْبَحْرِ، ودَبَّ الْيَأْسُ فِي نُفُوسِنا جَمِيعًا. وسَمِعْتُ
رُبَّانَ السَّفِينَةِ — وقَدْ كانَ مِثالَ الشَّجاعَةِ والْحَزْمِ — وهُوَ يُنَاجِي
نَفْسَهُ بِصَوْتٍ خافِتٍ: «رَحْمَةً بِنا يا إِلَهي! فَقَدْ هَلَكْنا جَمِيعًا، ولَمْ
يَبْقَ لَنا مَلْجَأٌ سِواكَ.»
•••
وامْتَلَأَتْ نَفْسِي رُعْبًا؛ إِذْ رَأَيْتُ الْأَمْوَاجَ تَرْتَفِعُ كالْجِبالِ،
وتَنْقَضُّ
١٨ عَلَيْنا فِي كلِّ لَحْظَةٍ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْنا أَنَّهَا قَدِ
ابْتَلَعَتْنا. ورَأَيْنا السُّفُنَ الْقَرِيبَةَ تُعانِي مِثْلَ ما نُعانِيهِ، وقَدْ
غَرِقَتْ سَفينَةٌ كبِيرَةٌ بِالْقُرْبِ مِنَّا. وما انْتَصَفَ اللَّيْلُ حتَّى صَاحَ
أَحَدُ الْمَلَّاحِينَ يَطْلُبُ مِنْ رِفاقِهِ النَّجْدَةَ والْغَوْثَ؛ فَقَدْ ثُقِبَتِ
السَّفِينَةُ! وَأَسْرَعْنا إِلَيْهِ، فَرَأَيْنا ثُغْرَةً
١٩ يَتَدَفَّقُ مِنْها الْمَاءُ. وتَعاونَّا جَمِيعًا عَلَى إِخْراجِ الْمَاءِ
مِنَ السَّفِينَةِ. وأَطلَقَتْ إِحْدَى السُّفُنِ الْقَرِيبَةِ مِنَّا مِدْفَعًا،
إِنْذَارًا بِالْخَطَرِ، وطَلَبًا لِلنَّجْدَةِ. وقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ مِنْ شِدَّةِ
الْخَوْفِ.
وَلَمْ أُفِقْ مِنْ غَشْيَتِي إِلا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ. وَأَطْلَقَ رُبَّانُنا
مِدْفَعًا، الْتِماسًا لِلنَّجْدَةِ، فَدَنَتْ مِنَّا سفِينَةٌ صَغِيرَةٌ لِإِنْقاذِنا،
وحَمَلَتْنا إِلَى باخِرَةٍ قَرِيبَةٍ. ولَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَصِلَ إِلَيْها إِلَّا
بَعْدَ عَناءٍ
٢٠ شَدِيدٍ.
•••
وبَعْدَ دَقائِقَ قَلِيلَةٍ رَأَيْنا سَفِينَتَنا وهِيَ تَغْرَقُ. ومَضَى عَلَيْنا
زَمَنٌ طَوِيلٌ ونَحْنُ مُسْتَهْدِفُونَ
٢١ لِلْخَطَرِ بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى. ولَمْ نَبْلُغِ الشَّاطِئَ إِلا
بَعْدَ أَنْ خَارَتْ
٢٢ قُوانا ويَئِسْنا منَ النَّجاةِ.
(٤) بَعْدَ النَّجَاةِ مِنَ الْغَرَقِ
ولَقدْ كانَ جَديرًا بِي — بَعْدَ أَنْ مَنَّ اللهُ عَليَّ بالسَّلاَمَةِ مِنَ
الْغَرَقِ — أَنْ أَفِيَ بِنَذْرِي، وَأَعُودَ إِلَى أَهْلِي تائِبًا نادِمًا عَلَى ما
فَرَط
٢٣ مِنِّي. ولكِنَّ غُرورَ الشَّبابِ
٢٤ حالَ بَيْنِي وَبَيْنَ تَحْقِيقِ هذِهِ الفِكْرَةِ النَّبِيلَةِ، فَقَدْ
تَمَثَّلَتْ لِي شَمَاتَةُ النَّاسِ بِي، وسُخْرِيَتُهُمْ مِنِّي؛ لِما لَحِقَنِي مِنَ
النَّكَباتِ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ الْمَشْئُومَةِ. وَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنِي إِذا
عُدْتُ إِلى أَهْلِي أَصْبَحْتُ سُخْرِيَةَ النَّاسِ. وَعَزَّ عَلَى نَفْسِي أَنْ
أَعْتَرِفَ بِخَطَئِي.
وَقَدْ كَلَّفَنِي هذا الْغُرُورُ ثَمَنًا غاليًا جِدًّا؛ فَقَدْ دَفَعَنِيَ الْعِنادُ
إِلَى اقْتِحامِ الْأَخْطارِ ورُكُوبِ الْبِحارِ، ولَقِيتُ مِنَ الْمَصائِبِ ما لَمْ
يَخْطُرْ لِي عَلَى بالٍ.
فَعَزَمْتُ — بَعْدَ أَنْ سَافَرْتُ إِلى «لَنْدَن» — عَلى مُرافَقَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمَلَّاحِينَ فِي رِحْلَتهِمْ إِلى شَواطِئِ إفْرِيقيَّةَ. ولَمْ أَعْلَمْ ما يَخْبَؤُهُ
لِي الْقَدَرُ مِنَ الْمَتَاعِبِ والْآلامِ.