الفصل الثاني
بَيْنَ الأسرِ وَالحرِّية
(١) رِحْلَةٌ مُوَفَّقَةٌ
كانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ تكُونَ حَياتِي الْقابِلَةُ سِلْسِلَةً مِنَ
الْكَوارِثِ
١ والنَّكَباتِ، فَلا أَخْلُصَ مِنْ مُصِيبَةٍ حَتَّى تُسْلِمَنِي إِلى
أُخْرَى، وَلا أَنْجُوَ مِنْ مَأْزِقٍ
٢ حَتَّى أَقَعَ فِي مَأْزِقٍ شَرٍّ منهُ؛ فَقَدْ أَغْضَبْتُ والِدَيَّ
وأَهْلِي، وأهْمَلْتُ نَصائِحَهُمْ، وخَرَجْتُ مِنْ بَيْتِي بِلا إذْنٍ مِنْهُمْ.
وَثَمَّةَ أَيْقَنْتُ أَنَّ ما حَلَّ بِي مِنَ الْكَوارِثِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا
عِقابًا عادِلًا عَلَى تَمَرُّدِي وعِصْيانِي.
لَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى مُواصَلَةِ السَّفَرِ، بَعْدَ أَنْ عَزَّ عَلَيَّ أَنْ أَعُودَ
إِلى بَيْتِي مُخْفِقًا.
٣ وأَرَدْتُ أَنْ أُصْلِحَ الْخَطَأَ الْأَوَّلَ بِخَطِيئَةٍ أُخْرَى،
أَكْثَرَ شَنَاعَةً مِنْهُ. فَما صاحَبْتُ رُبَّانَ إِحْدَى السُّفُنِ — وكانَ أَوَّلَ
شَخْصٍ لَقِيتُهُ مِنَ الْمَلَّاحِينَ — حَتَّى اعْتَزَمْتُ مُرَافَقَتَهُ فِي
رِحْلَتِهِ. وكانَتْ سَفِينَتُهُ ذاهِبَةً إِلَى شَواطِئِ «غانَةَ» وقَدْ أَخْبَرَنِي
بِما لَقِيَ مِنْ نَجَاحٍ، وَما أَفادَ مِنْ غِنًى وثَرْوَةٍ، فِي رِحْلَتِهِ الْأُولَى
إِلى تِلْكَ الْبِلادِ. وَما تَعَرَّفَ قِصَّتِي حَتَّى شَجَّعَنِي عَلَى مُصاحَبَتِهِ،
وَأَعْفانِي مِنْ نَفَقاتِ الرِّحْلَةِ. واقْتَرَحَ عَلَيَّ أَنْ أَشْتَرِيَ — بِما
مَعِيَ مِنَ النُّقُودِ — بَضائِعَ لِأتَّجِرَ بِها فِي تِلْكَ الْبِلادِ؛ فَفَعَلْتُ
كُلَّ ما أَشارَ بهِ عَلَيَّ.
ونَجَحَتْ هذه الرِّحْلةُ. وقَدْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي تَدْرِيبِي عَلَى الْمِلاحَةِ
والتِّجارَةِ. وعُدْتُ إِلى «لَنْدَن» مُغْتَبِطًا راضِيًا بِما أَصَبْتُهُ مِنْ رِبْحٍ
وتَوْفِيقٍ.
(٢) لُصُوصُ الْبَحْرِ
وبَعْدَ أَيَّامٍ قَليلةٍ تُوُفِّيَ ذلكَ الرُّبَّانُ؛ فَحَزِنْتُ لِمَوْتِهِ حُزْنًا
شَدِيدًا، ومَنَحْتُ أَرْمَلَتَهُ مِائَتَيْ جُنَيْهٍ. وَشَرَيْتُ بَضائِعَ بِمِائَةِ
الْجُنَيْهِ الْباقِيَةِ مَعِي، وأَبْحَرْتُ إِلى «غانَةَ». ولكِنَّ رِحْلَتَنا — فِي
هذهِ الْمَرَّةِ — لَمْ تَكُنْ مُوَفَّقَةً؛ فَقَدِ اعْتَرَضَنا لُصُوصُ الْبَحْرِ فِي
الطَّرِيقِ، فَأَطْلَقْنا لِسَفِينَتِنا الْعِنانَ، وحاوَلْنا النَّجاةَ مِنْهُمْ.
وكانَ فِي سَفينَتِنا اثْنا عَشَرَ مِدْفَعًا، وَعِنْدَ أَعْدائِنا ثَمانِيَة عَشَرَ
مِدْفَعًا. وكنَّا أَقَلَّ مِنْهُمْ عَدَدًا، ولكِنَّنا اسْتَبْسَلْنا فِي دِفاعِنا
وقَهَرْناهُمْ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ كَرُّوا عَليْنا — فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ —
فَقَهَرُونا، وحَطَّمُوا قِلاعَنا، وقَتَلوا ثَلاثَةً مِنْ رِجالِنا، وجَرَحُوا
ثَمَانِيَةً؛ فاضْطُرِرْنا إِلَى الْإِذْعانِ لَهُمْ، ووَقَعْنا فِي أَسْرِهِمْ.
(٣) الْعُبُودِيَّةُ
وقَدْ أُعْجِبَ الرُّبَّانُ بِنشاطِي؛ فاتَّخَذَنِي عَبْدًا لَهُ. ولَبِثْتُ فِي
خِدْمَتِهِ عامَيْنِ كامِلَيْنِ، وأَنا أُفَكِّرُ فِي وَسِيْلَةٍ لِلْهَرَبِ فَلا
أُوَفَّقُ. وكان كَثِيرًا ما يَصْحَبُنِي لِأَصْطادَ مَعَهُ، وَقَدْ وَثِقَ بِي فِي
كُلِّ أَعْمالِهِ.
وَفِي أَحَدِ الْأَيَّامِ طَلَبَ مِنِّي الرُّبَّانُ أَنْ أَصْطادُ سَمَكًا
لِيَتَعَشَّى بهِ مَعَ ضُيُوفِهِ؛ فَرَأَيْتُ الْفُرْصَةَ سانِحَةً لِلْهَرَبِ؛ فَقدْ
تَرَكَ لِيَ الرُّبَّانُ سَفِينةَ الصَّيْدِ، ولَمْ يَكُنْ يَصْحَبُني إِلاَّ فَتًى
رَقِيقٌ، ورَجُلٌ مِنْ أَقارِبِ الرُّبَّان، فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: «يَجِبُ أَنْ تُعِدَّ
لَنا زادًا
٤ نَأْكُلُهُ حتَّىَ لا نَشْرَكَ سَيِّدَنا فِي أَكْلِهِ.»
فَأَقَرَّنِي على هذا الرَّأْيِ، وأَحْضَرَ لَنا سَلَّةً منَ الْفَطائِرِ الْيابِسَةِ
والْخُشْكَنانِ،
٥ وثَلاثَ جَرَّاتٍ مَمْلُوءَةً ماءً. وذَهَبْتُ إِلَىَ مَخْزَنِ
الرُّبَّانِ؛ فَأَحْضَرْتُ مَعِي فَأْسًا وقَدُومًا وحِبالًا، وطَلَبتُ مِنَ الرَّجُلِ
أَنْ يُحْضِرَ لَنا بُنْدُقِيَّاتٍ، ورَصاصًا لِنَصْطادَ بِها، فَأَحْضَرَ لِي ما
طَلبْتُ.
وهكَذا أَعْدَدْتُ كلَّ مُعَدَّاتِ الْهَرَبِ.
(٤) الْفِرارُ
لَقَدْ أَزْمَعْتُ الْفِرارَ،
٦ ولَمْ أكُنْ عَلَى ثِقَةٍ منَ النَّجاحِ، وَلكِنَّنِي أَيْقَنْتُ أَنَّ
الْعَزِيمَةَ الصَّادِقَةَ تَتَغَلَّبُ عَلَى كُلِّ عَقَبَةٍ تَعْتَرِضُها، ما دامَ
الْيَأْسُ لا يَعْرِفُ سَبِيلًا إِلَيْها.
وَسِرْنا مَسافَةً طَوِيلَةً وَأنا أُوهِمُ الرَّجُلَ أَنَّنِي جادٌّ فِي تَحْقِيقِ
فِكْرَةِ الرُّبَّانِ. ثُمَّ غافَلْتُهُ وَقَذَفَتُ بِهِ إِلَى الْبَحْرِ — وكانَ
ماهِرًا فِي السِّباحَةِ — وَرَأَيْتُهُ يُوْشِكُ أَنْ يَلْحَقَ بِي، فَصَوَّبْتُ
بُنْدُقِيَّتِي إِلَى رَأْسِهِ، وهَدَّدْتُهُ بِالْقَتْلِ إِذا تَتَبَّعَنِي؛ فاضْطُرَّ
لِلرُّجُوعِ إِلَى الشَّاطِئِ، بَعْدَ أَنْ يَئِسَ مِنَ الظَّفَرِ بِي.
وسَأَلْتُ الْفَتَى: «أَتُعاهِدُنِي عَلَى الْوَفاءِ، أَمْ تَعُودُ أَدْراجَكَ كما
عادَ هذا الرَّجُلُ؟ فَإِنِّي عامِلٌ عَلَى قَتْلِكَ إِذا لاحَ
٧ لِي مِنْكَ الْغَدْرُ.»
فابْتَسَمَ لِي الْفَتَى، وَأَقْسَمَ: إِنَّهُ لَنْ يَتَرَدَّدَ فِي إِطاعَةِ أَمْرِي
والذَّهابِ مَعِي إِلَى حَيْثُ أُرِيدُ. وَظَلِلْنا فِي سَيْرِنا خَمْسَةَ أَيَّامٍ،
والرِّيحُ مُعْتَدِلَةٌ والبَحْرُ هادِئٌ وَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّ الرُّبَّانَ لَنْ
يَسْتَطِيعَ اللِّحَاقَ بِنا بَعْدَ ذلِكَ، فَلَمَّا حانَ الْمَساءُ دَنَوْتُ مِنَ
الشَّاطِئِ، واعْتَزَمْتُ قَضاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ.
(٥) الْوُحُوشُ الْمُفْتَرِسَةُ
ثُمَّ خَطَرَ لِي أَنْ أَخْرُجَ لَيْلًا إِلَى الشَّاطِئِ لِأَتَعَرَّفَ: أَيْن
نَحْنُ؟ وَلكِنَّنا سَمِعْنا أَصْواتًا مُرَوِّعَةً، وَأَحْسَسْنا أَنَّ وُحُوشًا
تَزْأَرُ بِالْقُرْبِ مِنَّا؛ فَأَلَحَّ عَلَيَّ الْفَتَى أَلَّا أُغادِرَ الْمَرْكَبَ
حَتَّى لا نَتَعَرَّضَ لِلْهَلاكِ.
وَقَضَيْنا لَيْلَتَنا ساهِرَيْنِ بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّاطِئِ، وَنَحْنُ
مُتَحَفِّزانِ
٨ لِدَفْعِ غارَةِ هذِهِ الْوُحُوشِ،
٩ إِذا أَقْبَلَتْ نَحْوَنا.
وَرَأَيْتُ سِرْبًا مِنْها يَتَقَدَّمُ إِلَى مَرْكَبِنا؛ فَأَطْلَقْتُ رَصَاصَةً
عَلَى أَحَدِها، فَعادَت الْوُحُوشُ أدْراجَها، وَهِيَ تُزَمْجِرُ،
١٠ وَقَدْ تَمَلَّكَها الذُّعْرُ حِينَ سَمِعَتْ دَوِيَّ الرَّصاصِ، وَلَمْ
يَكُنْ لَهَا بِسَماعِهِ عَهْدٌ.
واشْتَدَّتْ حاجَتُنا إِلَى الْماءِ؛ فَأَرادَنِي الْفَتَى عَلَى أَنْ أبْقَى فِي
السَّفِينَةِ، وَأعْهَدَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْلَأَ الْجَرَّةَ، فَسَأَلْتُهُ: لِماذا
يَتَشَبَّثُ
١١ بِالذَّهابِ؟
فقالَ لِي: «أُريدُ أَنْ أَتَعَرَّضَ لِلْخَطَرِ وَحْدِي، فإذا قُتِلْتُ فِي
الطَّريقِ سَهُلَ عَلَيْكَ أَنْ تَنْجُوَ بِنَفْسِكَ.»
فَأَكْبَرْتُ
١٢ إِخْلاصَهُ، وَأَبَيْتُ إِلَّا الذَّهابَ مَعَهُ. وَرَسَوْنا بِالْقُرْبِ
مِن الشَّاطِئِ؛ وابْتَعَدَ الْفَتَى عَنِّي قَلِيلًا، ثُمَّ عادَ مُسْرِعًا وَقَدِ
اصْطادَ أَرْنَبًا، واهْتَدَى إِلَى مَكانِ الْماءِ. وَثَمَّ
١٣ أَكَلْنا الْأَرْنَبَ مَسْرُورَيْنِ واسْتَأَنَفْنا السَّيْرَ بِالْقُرْبِ
مِنَ الشَّاطِئِ.
(٦) صَيْدُ الْأَسَدِ
والْتَفَتَ إِلَيَّ الْفَتَى فَجْأَةً يَحْتَثُّنِي
١٤ عَلَى أَنْ أَبْعُدَ عَنِ الشَّاطِئِ، وَكانَ بَصَرُهُ حَدِيدًا؛
١٥ فَلَمَحْتُ أَسَدًا جاثِمًا مِنْ بَعِيدٍ، وكانَ ضَخْمَ الْجِسْمِ.
وَقَدِ اشْتَدَّ ذُعْرُ الْفَتَى مِنْهُ؛ فَطَلَبْتُ إِلَيْهِ أَنْ يَسْكُنَ حَتَّى
لا يُنَبِّهَ الْأَسَدَ. ثُمَّ حَشَوْتُ بُنْدُقِيَّاتِيَ الثَّلاثَ رَصاصًا،
وَصَوَّبْتُ الْأُولَى إِلَى رأْسِهِ، وَهُوَ نَائِمٌ. وَكانَ الْأَسَدُ واضِعًا
إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى فِيهِ؛
١٦ فَأَصابَتِ الرَّصاصَةُ ساقَهُ، فَحَطَّمَتْ عَظْمَها، فَوَقَفَ مَذْعُورًا
عَلَى سُوقِهِ الثَّلاثِ، واشْتَدَّ زَئِيرُهُ؛ فَأَطْلَقْتُ عَلَيْهِ رَصاصَةً
ثانِيَةً، فَخَرَّ
١٧ صَرِيعًا مُجَدَّلًا
١٨ يَتَشَحَّطُ
١٩ فِي دَمِهِ. وَأَسْرَعَ الْفَتَى إِلَى الْأَسَدِ، فَأَفْرَغَ رَصاصَةً فِي
أُذُنِهِ؛ فَهَمَدَ الْأَسَدُ مِنْ ساعَتِهِ.
وَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى ما فَعَلْتُ؛ فَقَدْ أَضَعْتُ ثَلاثَ رَصاصاتٍ فِي قَتْلَةِ
الْأَسَدِ، وَلَيْسَ لنا فِي لَحْمِهِ غِذاءٌ.
وَأَسْرَعَ الْفَتَى إِلى الْأَسَدِ، وَحَاوَلَ أَنْ يَقْطَعَ رَأْسَهُ بِفَأْسِهِ،
فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فاكْتَفَى بِقَطْع إِحْدَى يَدَيْهِ، وَحَمَلَها إِلَيَّ. ثُمَّ
تَعاوَنَّا عَلَى سَلْخِهِ فِي مَدَى يَوْمٍ كامِلٍ، وَجَفَّفَتْهُ الشَّمْسُ فِي مَدَى
يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَبْحَرْنا عَشَرَةَ أَيَّامٍ — صَوْبَ الْجَنُوبِ — وَقَدْ أَوْشَكَ
زادُنا أَنْ يَنْتَهِيَ. ثُمَّ سِرْنا عَشَرَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَنَحْنُ نَدْعُو
اللهَ أَنْ نَلْتَقِيَ بِإِحْدَى الْسُّفُنِ الذَّاهِبَةِ مِنْ «أُورُبَّةَ» إِلَى
«غانَةَ» أَوِ الْآتِيَةِ مِنْ «غانَةَ» إِلَىَ «أُورُبَّةَ». وَلَمْ يَكُنْ
يُعَزِّينا
٢٠ فِي رِحْلَتِنا شَيْءٌ سِوَى هذا الْأَمَلِ، فَإِذا أَخْفَقَ فَلَيْسَ
أَمامَنا إِلا الْهَلاكُ.
(٧) عَلَى الشَّاطِئ
وَرَأَيْنا جَماعَةً مِنَ الرِّجالِ بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّاطِئِ وَهُمْ عُرَاةٌ.
وَقَدْ أَرَدْتُ الذَّهابَ إِلَيْهِمْ، فَحَوَّلَنِي الْفَتى عَنْ هذا الْعَزْمِ.
وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَسْلِحَةٌ، ما عَدا رَجُلًا مِنْهُمْ كان يَحْمِلُ عَصًا
صَغِيرَةً. فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ أَنَّنِي جائِعٌ، فَطَلَبُوا مِنِّي أَنْ أَرْسُوَ
قَرِيبًا. وَأَسْرَعَ اثْنانِ مِنْهُمْ فَأَحْضَرا إِلَيَّ خُبْزًا وَقِطْعَتَيْنِ مِنَ
اللَّحْمِ بَعْدَ نِصْفِ ساعَةٍ.
وَكُنَّا خائِفَيْنِ مِنْهُمْ، كَما كانوا خائِفِينَ مِنَّا؛ فَما وَضَعَ الرَّجُلانِ
ما أَحْضَراهُ لَنا عَلَى الشَّاطِئِ حَتَّىَ تَقَهْقَرا رَجاءَ أَنْ يَأْمَنا شَرَّنا.
فَلَمَّا أَخَذْنا الزَّادَ وَرَجَعْنا إِلى السَّفِينَةِ، عادا إِلى الشَّاطِئِ عِنْدَ
إِخْوانِهِما. وَلَمْ يَكُنْ مَعَنا ما نُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، فاكْتَفَيْنا
بِشُكْرِهِمْ.
وَإِنَّنا لَكَذلِكَ، إِذْ أَقْبَلَ وَحْشانِ هائِلانِ، أَحَدُهُمَا يَجْرِي خَلْفَ
الْآَخَرِ مِنَ الْجَبَلِ إِلى الْبَحْرِ. فَفَرَّ الرِّجالُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ
إِلَّا حامِلُ الْعَصا. ثُمَّ هَوَى الْوَحْشانِ إِلى الْبَحْرِ يَسْبَحانِ
وَيَلْهُوانِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَحَدُهُما إِلى مَرْكَبِنا حَتَّى كادَ يُدانِينا.
فَأَطْلَقْتُ رَصاصَةً عَلَى رَأْسِهِ؛ فَصَرَعَتْهُ مِنْ فَوْرِهِ.
٢١ وظَلَّ يَهْوِي إِلى الْقاعِ مَرَّةً، ويَطْفُو
٢٢ عَلَى سَطْحِ الْماءِ مَرَّةً أُخْرَى، وهُوَ يَعْدُو
٢٣ نَحْوَ الشَّاطِئِ. ولكِنَّهُ ماتَ فِي مُنْتَصَفِ الْطَّرِيقِ، وهَرَبَ
الْحَيَوانُ الْآخَرُ إِلَىَ الْجَبَلِ. وَضَجَّ الرِّجالُ إِعْجابًا بِنا، وَدَهْشَةً
مِنَّا. عَلَى أَنَّهُمْ قَدِ اشْتَدَّ رُعْبُهُمْ، وَسَقَطَ بَعْضُهُمْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ الذُّعْرِ، فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ لِأُطَمْئِنَهُمْ حَتَّىَ
زالَ خَوْفُهُمْ، وَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ.
•••
ثُمَّ تَعاوَنُوا عَلَى سَلْخِ ذلِكَ الْحَيَوَانِ، وقَدَّمُوا إِلَيَّ جُزْءًا مِنْ
لَحْمِهِ لِآكُلَهُ؛ فَلَمْ أَقْبَلْهُ، وشَكَرْتُ لَهُمْ ذلِكَ، واكْتَفَيْتُ بِجِلْدِ
الْحَيَوَانِ، فَأَعْطَوْنِيهِ وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ زادِهِمْ.
فَقَبِلْتُ هَدِيَّتَهُمْ شاكِرًا مَسْرُورًا، ثُمَّ أَشَرْتُ إِلَيْهِمْ أَنَّنِي
فِي حاجَةٍ إِلَى الْماءِ، وَأَعْطَيْتُهُمُ الْجَرَّةَ فارِغَةً. ففَهِمُوا ما
طَلَبْتُ، وَمَلَئُوها لِي مِنْ فَوْرِهِمْ ثُمَّ حَيَّيْتُهُمْ وانْصَرَفْتُ
مُسْتَأْنِفًا
٢٤ سَيْرِي نَحْوَ الْجَنُوبِ. وما زِلْتُ كَذلِكَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.
(٨) الْأَمَلُ بَعْدَ الْيَأْسِ
وَكانَ مَرْكبِي يَسِيرُ فِي الْبَحْرِ مُعْتَسِفًا،
٢٥ وَقدْ كِدْتُ أَفْقِدُ الْأَمَلَ فِي النَّجاةِ. وَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي
إِلَى أَيِّ مَكَانٍ أَذْهَبُ؟ وأَيَّ غايةٍ أُيَمِّمُ
٢٦؟ واشْتَدَّ ارْتِباكِي، وَزادَ نَدَمِي عَلَى ما أَسْلَفْتُ مِنْ عِصْيانِ
وَالِدَيَّ. وَذَكَرْتُ ما جَرَّنِي إِلَيْهِ الْغُرُورُ والْحَمَاقَةُ؛ فاسْتَغْفَرْتُ
اللهَ نادِمًا عَلَى ما فَرَطَ مِنِّي، وَدَعَوْتُهُ أَنْ يُيَسِّرَ لِيَ طَرِيقَ
الْخَلاصِ.
وَإِنِّي لَغَارِقٌ فِي هذِهِ التَّأَمُّلاتِ إِذْ أَقْبَلَ الْفَتَى عَلَيَّ وَهُوَ
يَصِيحُ، وَقَدْ كادَ الْخَوْفُ يَعْقِدُ لِسانَهُ: «انْظُرْ هذِهِ السَّفِينَةَ
الْكَبِيرَةَ يا سَيِّدِي، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ سَفِينَةَ
الرُّبَّانِ.»
أَمَّا أَنا فَقَدْ كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ الرُّبَّانَ لَنْ يَهْتَدِيَ
إِلَيْنا.
وَما رَأَيْتُ السَّفِينَةَ حَتَّى عَرَفْتُ، عَلَى بُعْدِ الْمَسافَةِ، أَنَّهَا
بُرْتُغالِيَّةٌ.
•••
وَبَذَلْتُ جُهْدِي فِي الدُّنُوِّ
٢٧ مِنَ السَّفِينَةِ لِأتَعَرَّفَ راكِبِيها فلَمْ أُفْلِحْ؛ فَيَئِسْتُ مِنَ
اللِّحاقِ بِهِمْ. ولكِنَّ أَحَدَهُمْ رَآنِي بِمِجْهَرِهِ
٢٨ وقَدْ أَطْلَقْتُ بُنْدُقِيَّتِي، لِأُشْعِرَهُمْ أَنَّنِي فِي خَطَرٍ.
وقد اسْتَطَعْتُ بَعْدَ جُهْدٍ كَبيرٍ أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بَعْدَ ثَلاثِ ساعاتٍ.
وَما عَرَفُوا قِصَّتِي، حَتَّىَ أَكْرَمُوا وفادَتِي؛
٢٩ فَأَهْدَيْتُ إِلَى رُبَّانِ السَّفِينَةِ كُلَّ ما مَعِي، فَلَمْ يَقْبَلْ شَيْئًا
جَزاءً لهُ عَلَى
صُنْعِهِ.
وقَدْ فاضَ قَلْبِي سُرُورًا بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ أَمَلي فِي النَّجاةِ.
(٩) فِي الطَّرِيقِ إِلَى «الْبَرَازِيلِ»
وكانَتِ السَّفِينَةُ ذاهِبَةً إِلى «الْبَرَازِيلِ». وقَدْ حَظَرَ الرُّبَّانُ عَلَى
الْمَلَّاحِينَ أَنْ يَمَسُّوا شَيْئًا مِنْ مَتاعيِ. وقَدِ اشْتَرَى مَرْكَبِي
بِثَمانِينَ جُنَيْهًا، واشْتَرَى الْفَتى مِنِّي بِسِتِّينَ جُنَيهًا. ولَمْ يَكُنْ
بَيْعُ الْفَتَى الْمِسْكِينِ بِمَحْضِ رَغْبَتِي،
٣٠ وما كانَ لِيُرْضِيَنِي أَنْ أَتْرُكَهُ رَقِيقًا،
٣١ ولكِنَّ الرُّبَّانَ وَعَدَنِي بِإِطْلاقِ سَراحِهِ
٣٢ بَعْدَ عَشْرِ سَنَواتٍ، فَقَبِلتُ ذلكَ مُرْغَمًا.
وكانَتْ رِحْلةً سَعِيدةً مُرِيحَةً مُوَفَّقَةً. وقَدْ وصَلْنا إِلَى «الْبَرازِيلِ»
بَعْدَ اثنَيْنِ وعِشْرِينَ يَوْمًا.
(١٠) فِي «الْبَرازِيلِ»
وقَدْ عَرَّفَنِي الرُّبَّانُ بِأَحَدِ أَعْيانِ «الْبَرازِيلِ» — وكانَ يَمْلِكُ
مَزْرَعَةً لِلْقَصَبِ ومَصْنَعًا لِلسُّكَّرِ — وأَوْصاهُ بِي خَيْرًا؛ فَشَكَرْتُ
لِلرُّبَّانِ عِنايَتَهُ بِي وفَضْلَهُ عَلَيَّ.
وَنَفَعَتْنِي صُحْبَةُ هذا الزَّارِع الْكَرِيمِ؛ فَقَدْ عَلَّمَني كَيْفَ أَزْرَعُ
الْقَصبَ، وكَيْفَ أَصْنَعُ مِنْهُ الْسُّكَّرَ. وما مَرَّتْ عَلَيَّ أَرْبَعَةُ
أَعْوامٍ حَتى نَجَحَتْ أَعْمالِي كُلُّها، وأَصْبَحْتُ فِي رَغَدٍ مِنَ الْعَيْشِ.
وكُنْتُ كُلَّما ذَكَرْتُ وَطَنِي تَأَلَّمْتُ لِفِراقِهِ، واشْتَدَّ حَنِينِي
إِلَيْهِ، ونَدَمِي عَلَى تَرْكِهِ.
•••
وتَعَرَّفْتُ — فِي أَثْناءِ إِقامَتِي — بِكَثِيرٍ مِنَ الزَّارِعِينَ فِي تِلْكَ
الْبِلاَدِ. فَكُنَّا نَسْمُرُ
٣٣ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وكُنْتُ أَذْكُرُ لَهُمْ ما وَقَعَ لِي فِي
أَثْناءِ رِحْلَتِي إِلَى «غَانَةَ»؛ وكيْفَ ظَفِرْتُ بِأَمْوالٍ طائِلَةٍ مِنَ
الْاتِّجَارِ بِأَشْياءَ تافِهَةٍ كالْمِقَصَّاتِ والْمُدَى
٣٤ والْمَرايَا وَما إِلَىَ ذلكَ، فاشْتَدَّتْ رَغْبتُهُمْ فِي السَّفَرِ
إِلَى «غَانَةَ»، وأَعَدُّوا سَفِينَةً كَبِيرَةً، وطَلَبُوا إِلَيَّ أَنْ أُرافِقَهُمْ
فِي هذِهِ الرِّحْلَةِ؛ فَعاوَدَنِي الْحَنِينُ إِلَى الْبَحْرِ، وعَهِدْتُ إِلَى
بَعْضِ أَصْحابِي أَنْ يُعْنَى بِمَزْرَعَتِي ومَصْنَعِي فِي أَثْناءِ غِيابِي.
ثُمَّ أَبْحَرَتْ بِنا السَّفِينَةُ فِي أَوَّلِ سِبْتَمْبَر/أيلول ١٦٥٩م، وهُوَ
نَظِيْرُ الْيَوْمِ الَّذِي غادَرْتُ فِيهِ وَطَنِي واسْتَقْبَلْتُ بهِ عَهْدَ
الشَّقاءِ، مُنْذُ ثَمانِيَةِ أَعْوامٍ.