الفصل الخامس
الزلزال
(١) جِداءُ الْجَزِيرَةِ
لَمْ أَكُفَّ عَنِ الْعَمَلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلا فِي فَتَراتٍ قَلِيلَةٍ، كُنْتُ
أَخْرُجُ — فِي أَثْنائِها — مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لَأُرَوِّحَ
عَنْ نَفْسِي مِنْ عَناءِ الْعَمَلِ، أَوْ لِأَصْطادَ بَعْضَ الْحَيَوانِ لِغِذائِي،
أَوْ لِأَرْتادَ أَنْحاءَ الْجَزِيرَةِ الْمَجْهُولَةِ.
وَقَدِ اسْتَرْعَى بَصَرِي — فِي أَوَّلِ يَوْمٍ — ما بالْجَزِيرَةِ مِنْ جِدْيانٍ،
وابْتَهَجْتُ حِينَ رأيْتُها. وَلكِنَّ فَرَحِي لَمْ يَطُلْ؛ لِأَنَّنِي رَأيْتُها
مُتَوَحِّشةً ماكِرَةً سَرِيعَةَ الْعَدْوِ، لا أكادُ أَقْتَرِبُ مِنْها حَتَّى تَفِرَّ
هاربَةً. وَقَدْ حاوَلْتُ أَنْ أَصْطادَ جَدْيًا مِنْ هذِهِ الْجِداءِ، فَلَمْ
أَسْتَطِعْ؛ لِسُرْعَتِها وَخِفَّتِها. وَلكِنَّ الْيَأْسَ لَمْ يَغْلِبْنِي على
أمْرِي، وَظَلِلْتُ أُراقِبُ حَرَكاتِها فِي رَوْحتِها وَجَيْئاتِها؛ فَرَأيْتُها
تَفْزَعُ مِنِّي هارِبَةً، إِذا أقْبَلْتُ عَلَيْها مِنَ الْوادِي وَكانتْ فَوْقَ
الصُّخُورِ. فَإِذا كُنْتُ أَنا فَوْقَ الصُّخُورِ وَكانتْ هِيَ فِي الْوادِي تَرْعَى،
لَمْ تَتَحَرَّكْ، وَلَمْ تَشْعُرْ بِمَقْدَمِي، فَعَلِمْتُ أَنَّ بَصَرَها مُنْصَرِفٌ
إِلى أَسْفَلَ، فَهِيَ لا تَرْفَعُهُ إِلى فَوْق؛ وَثَمَّ لا تَرَى ما فَوْقَها.
وَرَأَيتُ أَنَّ خَيْرَ وَسِيلَةٍ تُمَكِّنُنِي منِ اقْتِناصِها
١ بِسُهُولَةٍ هِيَ أَنْ أُشْرِفَ عَلَيْها مِنْ فَوْقِ تِلْكَ الصُّخُورِ،
وَأُصَوِّبَ رَصاصِي إلَيْها. وَقَدْ نَجَحَتْ هذِهِ الْحِيلَةُ، وَأَصابَتْ أَوَّلُ
طَلْقَةٍ مِنْ بُنْدُقِيَّتِي ماعِزًا فَقَتَلَتْها. وكانَ مَعَها جَدْيٌ صَغِيرٌ؛
فَحَمَلْتُها عَلَى كَتِفِي وَتَبِعَنِي صَغِيرُها حَتَّى وَصَلْتُ إلى مَسْكَنِي.
وَبَذَلْتُ جُهْدِي فِي مُلاطَفَةِ الْجَدْيِ لَعَلَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِي فَلَمْ
أُفْلِحْ. وَقَدْ أَبَى أَنْ يَأْكُلَ ما قَدَّمْتُهُ لَهُ مِن الطَّعامِ؛ فاضْطُرِرْتُ
إِلَىَ ذَبَحَهِ وأكْلِهِ.
(٢) مُذَكِّراتٌ يَوْمِيَّةٌ
وهكَذا اسْتَطعْتُ أَنْ أُنَظِّمَ حَياتِي — مُنْذُ وَطِئَتْ
٢ قَدَمايَ تِلْكَ الْجَزِيرَةَ النَّائِيَةَ الْقَفْرَ
٣ — لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي الْيَوْمِ الْمُتَمِّمِ لِلثَّلاثينَ مِنْ
«سِبْتَمْبِرَ». وكانَ الْوَقْتُ خَريفًا، وحَرارَةُ الشَّمْسِ مُحْتَمَلَةً.
وَكانتِ الْجَزِيرَةُ الَّتِي حَلَلْتُها واقِعةً عَلَى الدَّرَجَةِ التَّاسِعَةِ
مِنْ
شَمالِ خَطِّ الِاسْتِواءِ تَقْريبًا.
وما مَرَّ عَلَيَّ عَشَرَةُ أَيَّامٍ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَنْسَى تَوارِيخَ
الْأَيَّامِ.
ولَمْ يَكُنْ عِنْدِي كُرَّاسَةٌ ولا وَرَقٌ ولا مِدادٌ، فَلَمْ أَعْرِفْ كَيْفَ
أُدَوِّنُ لِلْأَيَّامِ تارِيخَها. وبَعْدَ افْتِكارٍ طَوِيلٍ أَقَمْتُ عَلَى شاطِئِ
الْبحْرِ جِذْعًا مُرَبَّعًا مِنَ الْخَشَبِ، وحَفَرْتُ فيهِ ما يأْتِي: «حَلَلْتُ
هذِهِ الْجَزِيرَةَ فِي ٣٠ مِنْ سِبْتَمْبِرَ سنةَ ١٦٥٨م.»
ثمَّ أَخَذْتُ عَلَى نَفْسِي أَن أَحْفِرَ خَطًّا صَغيرًا فِي كُلِّ يَوْمٍ. فَإِذا
انْتَهَى الْأُسْبُوعُ حَفَرْتُ خَطًّا مُزْدَوِجًا. فَإِذا انْتَهَى الشَّهْرُ
حَفَرْتُ مُرَبَّعًا صَغيرًا. وقَدْ تَمَكَّنْتُ بِهذِهِ الْوَسِيلَةِ مِنْ تَعَرُّفِ
أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ والشَّهْرِ والسَّنَةِ، وأَمِنْتُ الْخَطَأَ والنِّسْيانَ.
(٣) الْأَصْدِقاءُ الْأَوْفِياءُ
فاتَنِي أَنْ أَذْكُرَ لِلْقارِئِ أَنَّ السَّفِينَةَ — الَّتِي غَرِقَتْ — كانَ بِها
قِطَّانِ وكَلْبٌ. وقَدْ كَتَبَ عَليْها الْقَدَرُ أَنْ تَكُونَ قِصَّتُها مُمْتَزِجَةً
بِقِصَّتِي؛ فَقَدْ أَحْضَرْتُ الْقِطَّيْنِ مَعِي، وقَفَزَ الْكَلْبُ منَ السَّفِينَةِ
إِلى الْبَحْرِ حَتَّى وَصَلَ إِلى الشَّاطِئِ سِباحَةً، ولَحِقَ بي فِي الْيَوْمِ
التَّالِي.
وقَدْ ظَلَّ الْكَلْبُ الْوَفِيُّ الْأَمينُ يَخْدُمُنِي عِدَّةَ سَنَواتٍ.
وكان دَقِيقَ الْمُلاحَظَةِ، حَادَّ الذَّكاءِ، أشْبَهَ بِالْخادِمِ الذَّكِيِّ
الْحاذِقِ.
٤ وكانَ — فِي الْحَقِيقَةِ — خَيْرَ صَديقٍ وخادِمٍ لِي. وقَدْ أُعْجِبْت
بذَكائِهِ وفِطْنَتِهِ ودِقَّةِ مُلاحَظَتِهِ، فَقَدْ رَأيْتُهُ:
فِي كُلِّ شَيْءٍ يُشْبِهُ الْـ
إِنْسانَ إِلَّا فِي الْكَلامْ
(٤) أَثاثُ الْبَيْتِ
ذَكَرْتُ لِلْقارِئِ أَنَّنِي نَقَلْتُ ذَخائِرِي وَزادِي إِلى بَيْتِيَ الْجَديدِ.
وَقَدْ وضَعْتُها — أَوَّلَ الْأَمْرِ — عَلَى غَيْرِ تَرْتيبٍ؛ فَشَغَلَتْ مِنْ
بَيْتِي فَراغًا كَبِيرًا، حَتَّى صَعُبَ عَلَيَّ أَنْ أَجِدَ فيه مُتَّسَعًا
لِلْحَرَكَةِ، فَعَمَدْتُ إِلى حَفْرِ الْمَغارَةِ لِتَوْسِيعِها. وقَدْ والَيْتُ
الْعَمَلَ — فِي ذلكَ — أَيَّامًا حَتَّى وُفِّقْتُ إِلى غايَتِي. ثمَّ عَنَّ
٥ لِي أَنْ أَصْنَعَ أَهَمَّ ما أحْتاجُ إِلَيْهِ مِنْ أثاثِ الدَّار؛
فبَدَأْتُ بِصُنْعِ كُرْسِيٍّ ومائِدَةٍ. وقدْ أَكْسَبَنِيَ الْعَمَلُ الْمُتَواصِلُ
مَرانَةً نادِرَةً سَهَّلَتْ عَلَيَّ صُنْعَ كُلِّ ما يُعْوِزُنِي مِنَ
الضَّرُورِيَّاتِ.
وقَدِ اسْتَطعْتُ أَنْ أَصْنَعَ كَثِيرًا مِنَ الْأَثاثِ، دُونَ أَنْ أسْتَعِينَ
عَلَى ذلِكَ بِغَيْرِ قَدُومٍ وَمِسْحَجٍ.
٦ فإِذا عَنَّ لِي أَنْ أَصْنَعَ لَوْحًا، قَطَعْتُ الشَّجَرَةَ
بِالْقَدُومِ، وطَرَحْتُ جِذْعَها عَلَى الْأَرْضِ، ثمَّ هَذَّبْتُهُ مِنْ جانِبَيْهِ
حَتَّى يَصِلَ سَمْكُهُ إِلى الْحَدِّ الَّذِي أُريدُ. فإِذا تَمَّ لِي ذلكَ
صَقَلْتُهُ
٧ بِمِسْحَجِي.
وكانَ الْقَدُومُ والْمِسْحاجُ خَيْرَ مِعْوانٍ
٨ لِي عَلَى إِنْجازِ كَثيرٍ مِنْ أثاثِ الْبَيْتِ. ولَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِي
أَنْ أَصْنَعَ أَكْثَرَ مِنْ لَوْحٍ واحِدٍ مِنْ كلِّ شَجَرَةٍ كامِلَةٍ. عَلَى
أَنَّنِي لَجَأْتُ إِلَى الصَّبْرِ، ولَمْ يَكُنْ لِي مَنْدُوحَةٌ
٩ عَنْهُ. وقَدْ بَدَأْتُ بِعَمَلِ كُرْسِيٍّ وَمائِدَةٍ، ثمَّ صَنَعْتُ
أَلْواحًا كثيرَةً، ثمَّ ثَبَّتُّ فِي الصَّخْرِ مَسامِيرَ لَوْلَبِيَّةً،
١٠ لِأُعَلِّقَ عَليْها بَنادِقِي وَثِيابِي. وبَذَلْتُ جُهْدِي فِي إِنْجازِ
كلِّ ما أَحْتاجُ إِلَيْهِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ.
(٥) شَحْمُ الْجِداءِ
وكانَ يُعْوِزُنِي — وَما أَكْثرَ ما كانَ يُعْوِزُنِي حِينَئِذٍ — الشَّمْعُ. وكانَ
فِقْدانُهُ يَضْطَرُّنِي إِلَى مُلازَمَةِ فِراشِي كلَّما أَقْبَلَ اللَّيْلُ.
وقَدْ فَكَّرْتُ فِي ذلِكَ طَوِيلًا حَتَّى اهْتَدَيْتُ إِلى حَلِّ هذهِ
الْمُشْكِلَةِ؛ فَحَرَصْتُ عَلَى شَحْمِ الْجِداءِ الَّتِي كنْتُ أذْبَحُها، ثمَّ
جَفَّفْتُهُ فِي أَشعَّةَ الشَّمْسِ. ووَضَعتُ فِي وَسَطِ كُلِّ قِطْعَةٍ مِنَ
الشَّحْمِ فَتِيلًا أخْرَجْتُهُ مِنَ الْحِبالِ الَّتِي عِنْدِي؛ حَتَّى إِذا تَمَّ
صُنْعُ الشَّمْعِ ظَفِرْتُ بِالضَّوْءِ لَيْلًا، بَعْدَ أَنْ كُنْتُ أَقْضي لَيالِيَّ
فِي ظَلامٍ حالِكٍ.
(٦) سَنابِلُ الشَّعِيرِ
وَفِي ذاتِ يَوْمٍ كُنْتُ دائِبًا
١١ على الْعَمَلِ؛ فاسْتَرْعَى انْتِباهِي كِيسُ الْحُبُوبِ الَّذِي
أَحْضَرْتُهُ مَعِي مِنَ السَّفِينَةِ المُحَطَّمةِ، فَرَأَيْتُ الْفَأْرَةَ قَدِ
التَهَمَتْهُ حَتَّى لَمْ تَكَدْ تُبْقِي منهُ إِلا الْقُشُورَ. فَأَفْرَغْتُ الْكِيسَ
مِنها عِنْدَ سَفْحِ الصَّخْرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ كَهْفِي، لِأَنْتَفِعَ بِالْكِيسِ
فِي قَضاءِ مَآرِبَ
١٢ أُخَرَ. وبعْدَ قَليلٍ هَطَلَتِ الْأَمْطارُ، وَرَوَّتِ الْأَرْضَ، ثمَّ
نَسِيتُ كُلَّ ما حَدَثَ بَعْدَ ذلكَ.
وما مَرَّ عَلَيَّ شَهْرٌ واحدٌ تَقْرِيبًا حَتَّى أَدْهَشَنِي ما رَأَيْتُهُ —
عِنْدَ سَفْحِ الصَّخْرَةِ — مِنَ السُّوقِ النَّامِيَةِ فِي الْأَرْضِ.
وَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُها — أَوَّلَ الْأَمْرِ — نَباتاتٍ مَجْهولَةً. ثُمَّ ظَهَرَ
لِي خَطَأُ هذا الظَّنِّ — بَعْدَ زَمَنٍ قَليلٍ — حينَ رَأيتُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
سُنْبُلَةً مِنَ الشَّعِيرِ الْأَخْضَرِ.
وَقَدِ اشْتَدَّتْ دَهْشَتِي — حِينَئِذٍ — ولَمْ أُقَصِّرْ فِي تَعَهُّدِها
بِالْعِنايَةِ، وحَصْدِها فِي مَوْسِمِ الْحَصادِ، وهُوَ آخِرُ شَهْرِ «يُنْيَةَ».
وقَدْ جَنَيْتُها بِعِنايَةٍ نادِرَةٍ؛ فَلَمْ أُهْمِلْ مِنْها حَبَّةً واحِدَةً،
ثمَّ بَذَرْتُها — بَعْدَ ذلكَ — فِي مَوْسِمِ الْبَذْرِ. وَلاحَ لِي أمَلٌ كَبيرٌ فِي
الْحُصُولِ عَلَى الْخُبْزِ بَعْدَ زَمَنٍ قَليلٍ.
وَما مَرَّتْ عَلَيَّ أَرْبَعُ سَنَواتٍ حَتَّى أَصْبَحَ عِنْدِي — مِنَ الشَّعِيرِ
—
ما يَكْفِي لِغِذَائِي وزَرْعِ حَقْلِيَ الْجَديدِ.
(٧) زِلْزالُ الْجَزِيرَةِ
وَما أنْسَ لا أنْسَ الْيَوْمَ السَّابِعَ مِنْ «أَبْرِيلَ» عامَ سِتِّينَ
وسِتِّمِائَةٍ وَأَلْفٍ: فَقدْ كانَ يَوْمًا هائِلَ النَّبَإِ، مُرَوِّعَ الْخَبَرِ،
وقَدْ أَيْقَنْتُ فِي ذلك الْيَوْمِ أَنَّ آخِرَتِي دَنَتْ، وأَنَّ مَصْرَعِي
وَشِيكٌ.
١٣ ورَأَيتُ كلَّ ما أتْمَمْتُهُ — مِنْ عَمَلٍ — يَكادُ يَنْهارُ
١٤ أَمامِي فِي لَحْظَةٍ واحدةٍ.
كُنْتُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ مُنْهَمِكًا
١٥ فِي أَعْمالِي، داخِلَ خَيْمَتِي. وإِنِّي لَكَذلِكَ إِذْ وجَدْتُ الْأَرْضَ
تَهْبِطُ وتَصْعَدُ. وشَعَرْتُ بِاضْطِرابِ الصُّخُورِ الَّتِي تَكْتَنِفُنِي
١٦ وسَمِعْتُ فَرْقَعةً وجَلْجَلَةً شَدِيدَتَيْنِ، ولَمْ أَعْرِفْ مَصْدرَ
هذهِ الْكَوارِثِ. وتَمَلَّكنِي الذُّعْرُ، وخَشِيتُ أَنْ أُدْفَنَ حَيًّا؛ فَصَعِدْتُ
السُّلمَ، وخَرَجْتُ مِنْ خَيْمَتِي مُسْرِعًا، وَأَنا لا أَكادُ أُصَدِّقُ
بِالنَّجاةِ؛ فَرَأَيْتُ أَرْضَ الْجَزِيرَةِ تَهْتَزُّ اهْتِزَازًا عَنِيفًا،
فَعَرَفتُ أَنَّهُ الزِّلْزالُ.
وقَدِ اهْتَزَّتِ الْأَرْضُ تَحْتَ قَدَمَيَّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مُتَعاقِبَةً،
١٧ وكانَ بَيْنَ كُلِّ مَرَّةٍ مِنْها ثَمَانِي دَقائِقَ.
وكانَتْ تِلْكَ الْهِزَّاتُ قَوِيَّةً عَنيفَةً إِلى حَدِّ أَنْ هَوَتْ إِحْدَى
الصُّخُورِ الْقَرِيبَةِ مِنِّي، ولَمْ أَكُنْ أَبْعُدُ عَنْها أَكْثَرَ مِنْ مِتْرٍ
ونِصْفِ مِتْرٍ، وَسَمِعْتُ لِسُقُوطِها صَوْتًا هُوَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالرَّعْدِ.
وثَمَّةَ
١٨ عَقَدَ الْخَوْفُ لِسانِي، وكادَ يَجْمُدُ الدَّمُ فِي عُرُوقِي، مِنْ
شِدَّةِ الْفَزَعِ.
وكانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّي أَنَّ الْأَرْضَ هدَأَتْ، وسَكَنَ اضْطِرابُها بَعْدَ تِلْكَ
الْهِزَّاتِ الثَّلاثِ؛ فاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي قَليلًا، وَلكِنَّنِي لَمْ أَجْرُؤْ
عَلَى دُخُولِ خَيْمَتِي؛ فَجَلَسْتُ عَلَى الْأَرْضِ، وأَنا لا أَعْرِفُ كَيْفَ
أَصْنَعُ.
(٨) بَعْدَ الزِّلْزالِ
واكْفَهَرَّتِ السَّماءُ
١٩ وَتَلَبَّدَتْ فَجْأَةً بِالْغُيُومِ الْقاتِمَةِ. وهَبَّتِ الرِّيحُ
عَاصِفَةً هَوْجاءَ، واصْطَخَبَ الْبَحْرُ، واصْطَفَقَتْ أَمْواجُهُ اصْطِفاقًا
شَدِيدًا، وكانَتْ تَصِلُ فِي ارْتِفاعِها إِلى مِثْلِ ارْتِفاعِ الْجِبالِ. وَظَلَّتِ
الْعاصِفَةُ ثائِرَةً مُفْزِعَةً ثَلاثَ ساعاتٍ، ثُمَّ أَعْقَبَها السُّكُونُ،
وَهَطَلَتِ الْأَمْطارُ الْغزِيرَةُ؛ فَحَسِبْتُها سُيُولًا تَهمِي مِنَ السُّحُبِ
الْمُتَكاثِفَةِ. وَظَلَّتِ السَّماءُ تُمْطِرُنا طُولَ اللَّيْلِ وَطَرَفًا مِنْ
نَهَارِ الْيَوْمِ التَّالِي. وَكانَ شُغْلِي الشَّاغِلُ — حِينَئِذٍ — التَّفْكِيرَ
فِي تَغْيِيرِ هذا الْمَنْزِلِ، بَعْدَ حُدُوثِ الزِّلْزالِ. فَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِي
أَنْ أَطْمَئِنَّ إِلى الْبَقاءِ، بَعْدَ أَنْ كِدْتُ أُدْفَنُ فِيهِ حَيًّا. وقُلْتُ
لنَفْسِي: «ما دامَتِ الْجَزِيرَةُ عُرْضَةً لَأِخْطارِ الزِّلْزالِ، فَلَيْسَ مِنَ
الْحَزْمِ
٢٠ أَنْ أَتَّخِذَ هذِهِ الْمَغارَةَ مَسْكنًا لِي، وَما أَجْدرني أَنْ
أَتَخَيَّر مَكانًا صالِحًا فِي الْعَراءِ،
٢١ لِأَبْنِيَ فِيهِ مَسْكَنِي، بَعْدَ أَنْ أُسَوِّرَهُ بِسِياجٍ
أَمِينٍ.»
٢٢
وقَدْ تَأَلَّمْتُ لِمُغادَرَةِ هذا الْكَهْفِ الَّذِي لَمْ آلُ جُهْدًا
٢٣ فِي حَفْرِهِ وَإِصْلاحِهِ وَتَنْظيمِ أَمْتِعَتِي فِيهِ، حَتَّى أَصْبَحَ
بَيْتًا وَحِصْنًا مَنِيعًا
٢٤ يَقِينِي غاراتِ الْأَعْداءِ.
(٩) أثَرُ الزِّلْزالِ
وَفِي صَباِح أَوَّلِ «مايُو» وَقَفْتُ أَتَأَمَّلُ الْبَحْرَ، وَأُجِيلُ
لِحاظِيَ فِي أَرْجَائِهِ.
٢٥ فَرَأَيْتُ بَقايا مُتَناثِرَةً مِنْ حُطامِ السَّفِينَةِ وَمنْ
أَلْواحِها، قَذَفَها الْمَدُّ إِلَى الشَّاطِئِ. فَصَبَرْتُ عَلَيْها حَتَّى
يَنْحَسِرَ
٢٦ عَنْها الْماءُ، وَقْتَ الْجَزْرِ.
٢٧ وَقَد دَهِشْتُ أَوَّلَ الْأَمْرِ مِمَّا رَأَيْتُ. وَعَلِمْتُ أَنَّ هذا
مِنْ أَثَر الزِّلْزالِ الَّذِي حَطَّمَ السَّفِيْنَةَ تَحْطِيمًا، ثُمَّ قَذَفَتِ
الْأَمْواجُ بِأَلْواحِها إِلى الشَّاطئِ. وَرَأَيْتُنِي جَدِيرًا بِانْتِهازِ هذِهِ
الْفُرْصَةِ قَبْلَ أَنْ أَشْغَلَ نَفْسِي بِبناءِ الْمَسْكَنِ الْجَدِيدِ. وَعَمِلْتُ
عَلَى تَجْزِئَةِ مَا بَقِيَ مِنَ السَّفِينَةِ إِلى قِطَعٍ، وَأَنا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ
حاجتى إِلى هذِهِ الْبَقايا الْمُحَطَّمَةِ. وَقَدْ وَاصَلْتُ الْعَمَلَ فِي تَحْقِيقِ
هذا الْعَزْمِ حَتَّى مُنْتَصَفِ شَهْرِ «يُنْيَةَ»، وَظَفِرْتُ بِكَثِيٍر مِنَ
الْأَلْواحِ، كَما ظَفِرْتُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَي رَطْلٍ مِنَ الْحَدِيدِ. وَهكَذا
أَصْبَحَ في مَقْدُورِي أَنْ أَبْنِيَ لي زَوْرَقًا كامِلَ الْمُعِدَّاتِ. وَصَنَعْتُ
—
بَعْدَ ذلك — شَبَكَةً أَصْطادُ بِها السَّمَكَ. وَكُنْتُ أُجَفِّفُ ما يَزِيدُ عَلَى
حاجَتِي مِنْهُ في ضَوْءِ الشَّمْسِ وَحَرارَتِها، ثُمَّ آكُلهُ في أَوْقاتٍ أُخْرَى.
(١٠) بَيْن بَراثنِ الْحُمَّى
وَفِي الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ «يُنْيَةَ» رَأَيْتُ سُلَحْفاةً
كَبِيرَةً تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وكانَتْ هذِهِ أَوَّلَ سُلَحْفَاةٍ أَراها في
الْجَزِيرَةِ. عَلَى أَنَّنِي رَأَيْتُ — فِي الْأَيَّامِ التَّالِيَةِ —
أسْرَابًا
٢٨ كَثِيرَةً مِنَ السَّلاحِفِ في النّاحِيَةِ الْأُخْرَى مِنْها.
وَذَبَحْتُ تِلْكَ السُّلَحْفاةَ؛ فَرَأيْتُ فِيها سِتِّيَن بَيْضَةً. وكانَ لَحْمُها
— حِينَئِذٍ شَهِيًّا لَذِيذًا؛ حَتَّى خُيِّلَ إِليَّ أَنَّهُ أشْهَى طَعامٍ
تَذَوَّقْتُهُ في حَياتِي.
وفِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ «يُنْيَةَ» هَطَلَتِ الْأَمْطارُ
غَزيرَةً، وبَرَدَ الْجَوُّ فَجْأَةً، فَأَصابَتْنِي الْحُمَّى عَشَرَةَ أَيَّامٍ
كامِلَةٍ. وكانت حَرارَتِي تَخْتَلِفُ بَيْن ارْتِفاعٍ وانْخِفاضٍ، وقَدِ اشْتَدَّ بِيَ
الظَّمَأُ وأعْجَزنِي الضَّعْفُ عَنِ السَّيْرِ إِلى مَكانِ الْماءِ لِأُرْوِي ظَمَئِي.
وما تَماثَلْتُ،
٢٩ حتَّى انْصَرَفَ هَمِّي إِلى مَلْءِ زُجاجَةٍ كَبِيرَةٍ ماءً، وَوَضَعْتُها
عَلَى الْمائِدَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ سرِيرِي.
ولَقَدْ نَهِكَتِ الْحُمَّى قِوَايَ؛
٣٠ فَبَقِيتُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أُخْرَى وأنا عاجِزٌ عَنْ أداءِ أيِّ عَمَلٍ.
فَقَضَيْتُ دَوْرَ النَّقَهِ
٣١ فِي رَاحَةٍ تَامَّةٍ، تَتَخَلَّلُها نُزُهاتٌ قَصِيرَةٌ، حتَّى
اسْتَرْدَدْتُ صِحَّتي كامِلَةً في الْيَوْمِ الْخامِس عَشَرَ مِنْ «يُلْيَةَ».
(١١) ارْتِيادُ الْجَزِيرَةِ
ورَأَيْتُنِي جَدِيرًا أَنْ أرْتادَ الْجَزِيرَةِ، وأَتَعَرَّفَ كلَّ ما فِيها.
فَذَهَبْتُ إِلى الْخَلِيجِ الصَّغِيِر — وهُوَ أَوَّلُ مَكانٍ حَلَلْتُهُ في هذهِ
الْجَزِيْرَةِ — وسِرْتُ عَلَى شَاطِئِ الْغَدِيرِ الَّذِي يَصُبُّ فيهِ، وقَطعْتُ
نَحْوَ مِيلَيْنِ في أرْضٍ مُرْتَفِعَةٍ. وقَدْ أُعْجِبْتُ بِالْمُرُوجِ الْخُضر
الْجَمِيلَةِ الْمُنْبَسِطَةِ الَّتِي يَخْتَرِقُها الْغَدِيرُ. ورَأَيْتُ في الْمُروجِ
الْمُرْتَفِعَةِ كثيرًا مِن التَبْغِ الْأَخْضَرِ نامِيًا عَلَى سُوقٍ مُرْتَفِعَةٍ،
كما رَأَيتُ عِيدانَ قَصَبِ السُّكَّرِ عَلَى غَيْرِ ما يُرامُ، فقَدْ أُهْمِلَتْ ولمْ
يَتَعَهَّدْها أَحَدٌ بِعِنايَتِهِ.
وفي الْيَوْمِ التَّالِي — أَي في السَّادِسَ عشَرَ مِن ذلكَ الشَّهْرِ — سِرتُ في
الطَّريقِ الَّتي قَطَعْتُها بِالْأَمْسِ، وتَوغَّلْتُ
٣٢ في الْمُرُوجِ، فَرأَيتُ وَراءَها كَثيرًا مِن أشْجارِ الْفاكِهَةِ
وغيْرِها، ورَأَيتُ — مِنَ الشَّمَّامِ والْعِنَبِ النَّاضِجِ الشَّهِي — ما أدْهَشَني
وَأفْعمَ قَلْبي سُرُورًا، فَأَكَلتُ مِن الْفاكِهَةِ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ حتَّى لا
تُسْلِمَنِي التُّخَمَةُ إِلى الْمَرَضِ. ثُمَّ عَنَّ لي أَنْ أُجَفِّفَ الْعِنَبَ حَتى
يُصْبِحَ زَبيبًا. ومَضَى النَّهارُ كلُّهُ وأَنا جادٌّ في هذا الْعَملِ. ولَمْ أَشَأْ
أَنْ أَعُودَ إِلى مَسْكَنِي قَبْلَ أَنْ يُقْبِلَ اللَّيْلُ لِبُعْدِ
الشُّقَّةِ
٣٣ فَتَخَيَّرْتُ لِنَوْمِي شَجَرَةً كَثيفَة الْأَغْصانِ، وَنِمَتُ بَيْنَ
أَغْصانِها، كما نِمْتُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ حَلَلْتُ فِيها هذه الْجَزِيرَةَ. وَما زِلْتُ
نائِمًا قَرِيرَ الْعَيْنِ
٣٤ هادِئَ الْبالِ حَتَّى أقْبَلَ الصّباحُ، فاسْتَيْقَظْتُ، ثُمَّ واصَلْتُ
السَّيْرَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَمْيالٍ، حتَّى بَلَغْتُ غابةً مُزْدَهِرَةً، تَلُوحُ
لِعَيْنِ مِن يَرَاها مِنْ بَعيدٍ كأَنَّها حَديقَةٌ.
وقَدِ اسْتَرْعَى بَصَرِي ما رَأَيْتُهُ مِنْ شَجَرِ الْبُرْتُقالِ واللَّيْمُونِ
وَما إِلى ذلكَ مِنَ الْفاكِهَةِ النَّاضِجَةِ الشَّهِيَّةِ.
ورَأَيْتُ مِنْ أَصالَةِ الرَّأْي
٣٥ أَنْ أُعِدَّ مِنْ هذِه الْخَيْراتِ الْعَمِيمَةِ زادًا أخْتَزِنُهُ
لِفَصْلِ الشِّتاءِ الْقَرِيبِ، فَجَنَيْتُ كثيرًا مِنَ الْعِنَبِ، وعَلَّقْتُهُ عَلَى
غُصُونِ الشَّجَرِ، لِيَجِفَّ في الشَّمْسِ. وَأخذْتُ مِنَ الْبُرْتُقالِ بِمِقْدارِ
ما
أسْتَطِيعُ حَمْلَهُ. وَسِرْتُ في طَرِيقِي عائِدًا إِلى مَسْكَني، وَأنا شَديدُ
الْإِعْجابِ بِجَمالِ هذا الْوادِي الْخَصِيبِ، وَاعْتدالِ جَوِّهِ، وَحُسْن مَوْقِعِهِ
الْأَمينِ. وعَرَفْتُ أَنَّ الْمَكانَ — الَّذِي تَخَيَّرْتُهُ لِسُكْناي — هُوَ
أَرْدَأُ بُقْعَةٍ في تلكَ الْجَزِيْرَةِ. وَلكِنَّنِي لَمْ أشَأْ أَنْ أَبْرَحَ
الْمَكانَ، لِقُرْبِهِ مِنَ الْبَحْرِ. وَقَدْ كُنْتُ أَتَوَقَّعُ أَنْ تَمُرَّ بِي
سَفينَةٌ، أَوْ يَفِد عَلَي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ فَيُنْقِذنِي مِنْ تِلْكَ
الْعُزْلَةِ.
عَلَى أَنَّنِي — لِشِدَّةِ إِعْجابِي بِهذِهِ الْبُقْعَةِ الْجَمِيلَةِ — لَم أَشَأْ
أَنْ أَبْتَعِد عَنْها، فَأَنْشَأْتُ فِيها عُشًّا آوِي إِلَيْهِ وَسَط
فِنَاءٍ
٣٦ مُحَاطٍ بِسِياجٍ
٣٧ طَبِيعي مُزْدَوجٍ مِنَ الْأَشْجارِ. وَكُنْتُ أُمْضِي في هذا الْحِصْنِ
لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا مُتَوالِيَةً، وَقًدْ صَنَعْتُ سُلَّمًا شَبِيهًا
بِالسُّلَّمِ الَّذِي صَنَعْتُهُ في الْمَنْزِلِ الْأَوَّلِ. وَهكَذا أَصْبَحَ لِي
مَنْزِلانِ مُتَباعِدانِ، آوِي إِلَيْهِما في أَي وَقْتٍ أَشاءُ، وَظَلِلْتُ كذلِكَ إِلى
أَوَّلِ شَهرِ «أُغُسْطُسَ».
(١٢) فَصْلُ الْأَمْطارِ
وَفِي اليَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ «أُغُسْطُسَ» بَدأَ الْمَطَرُ يَنْهَمِرُ
بِشِدَّةٍ إِلى أن حَلَّ مُنْتَصَفُ «أُكْتُوْبَرَ» فَبَدَأَتْ تَخِفُّ
وَطْأَةُ الْمَطَرِ. وَكُنْتُ — لِحُسْنِ حَظِّي — قَدْ نَقَلْتُ إِلى مَسْكَنِي
الْأَوَّلِ كلَّ ما جَفَّفْتُهُ مِنَ الْعِنَبِ قُبَيْلَ حُلُولِ فَصْلِ الْأَمْطارِ.
فَلَمَّا اشْتَدَّ انْهِمارُ الْمَطرِ وَتَعَذَّرَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ، وَجَدْتُ ما
يَكْفِينِي مِنَ الزَّادِ. وكانَ الْمَطَرُ يَضْطَرُّنِي فِي بَعْضِ الْأَحْيانِ، إِلَى
الاِنْزِواءِ في مَغارَتِي عِدَّةَ أَيَّامٍ.
وَبَعْدَ قَلِيلٍ شَعَرْتُ أَنَّ زادِي يُوشِكُ أَنْ يَنْتهِيَ؛ فاضْطُرِرْتُ إِلى
الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتي مَرَّتَيْنِ. وَقَدِ اصْطَدْتُ جَدْيًا وَسُلَحْفاةً كَبِيرَةً،
وكانَ لَحْمُهُما شَهِيًّا.
وكانَ فَطُورِي عُنْقُودًا مِنَ الْعِنَبِ، وَغَدائِي شِوَاءَةً مِنْ جَدْيٍ أَوْ
سُلَحْفاةٍ، وَعَشَائِي بَيْضَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا.
وَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ الْمُتَمِّمُ لِلثَّلاثِيَن مِنْ «سِبْتَمْبِرَ»،
انْتابَتْنِي ذِكْرَياتٌ مُؤْلِمَةٌ. وقَدْ ساوَرَتْنِي
٣٨ حيْنَ مَرَّ بِخاطِري أَنَّنِي حَلَلْتُ هذِهِ الْجَزِيْرَةَ فِي مِثْلِ هذا
الْيَوْمِ مِنَ الْعامِ الْماضِي، وقَدْ مَرَّ عَلَيَّ عامٌ بِأَكْمَلِهِ فِي هذا
الْمَنْفَى. ولَقَدْ كُنْتُ شَديدَ الْيَقَظَةِ في مُرَاقَبَةِ الْفُصُولِ وَحُسْبانِ
أيَّامِ السَّنَةِ؛ حتَّى لا أُفاجَأَ بِالْأَمْطارِ. وقدْ أَكْسَبَتْنِي الْمَرانَةُ
خِبْرَةً نادِرَةً بِالزِّراعَةِ، وَنَجَحَتْ أعْمالي نَجاحًا باهِرًا.
(١٣) الْبَبَّغاءُ والْجَدْي
وكُنْتُ دَائِبًا عَلَى الْعَمَلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. ولَم أُقَصِّرْ في تَوفِيرِ
الزَّادِ
٣٩ عِنْدِي قَبْلَ حُلُولِ الْأَمْطارِ؛ حَتَّى لا يُزْعِجَني نَقْصُ الزَّادِ
إِذا حَبَسَنِيَ الْمَطَرُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ.
ورَأَيْتُني في حاجَةٍ إِلَى سِلالٍ أَضَعُ فِيها الْفاكِهَةَ والطَّعامَ. وقَدْ
وُفِّقْتُ إِلى صُنْعِها بَعْدَ عَناءٍ طَوِيلٍ. وكُنْتُ أُكْثِرُ مِنَ التَّجْوالِ في
تِلْكَ الْجَزيرَةِ. وقَدِ اسْتَرْعَى بَصَرِي — ذاتَ يَوْمٍ — أَرْضٌ فَسِيحَةٌ، وكانَ
الْيَوْمُ صَحْوًا. وَقَدْ رَأَيْتُها مُرْتَفِعَةً، تَمْتَدُّ مِنَ الْغَرْبِ إِلى
الْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ. وهِيَ تَبْعُدُ عَنْ جَزِيرَتِي نَحْوَ خَمْسَةَ عَشْرَ مَيلًا،
ولَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ شَيْئًا عَنْها. وقَدْ هَدَانِيَ التَّفْكِيرُ الطَّوِيلُ إِلى
أَنَّ هذِهِ الْأَرْضَ الْبَعِيدَةَ تَمْتَدُّ إِلى بِلادِ الْبَرازِيلِ. وَشَهِدْتُ
—
فِي أَثْناءِ تَجْوالي فِي تِلْكَ السُّهُولِ الْخُضْرِ الْمُزْدَهِرَةِ الْجَمِيلَةِ،
ذاتِ الْأَشْجارِ الْباسِقَةِ
٤٠ الكَثيفَةِ
٤١ — جَمْهَرَةً مِنَ البَبَّغاواتِ.
وقَدْ وُفِّقْتُ إِلى اقْتِناصِ بَبَّغاءَ صَغِيرَةٍ، ضَرَبْتُها بِعَصايَ، ثمَّ
أَدْفَأْتُها بَيْنَ ثِيابي، حَتَّى عادَتْ إِلى صَوابِها. وعُدْتُ بِها إِلى مَسْكني،
فَرَأَيْتُ كَلْبِي قدِ اصْطادَ جَدْيًا صَغِيرًا؛ فَأَسْرَعْتُ لِإنقاذِ الْجَدْي مِنْ
بَيْنِ مَخالِبِهِ.
وقدْ عُنِيتُ بِتَرْبِيَةِ البَبَّغاءِ والْجَدْيِ وتَأْنِيسِهِما.
٤٢ فَرَبَطْتُ الْجَدْيَ إِلى وَتِدٍ، وصَنَعْتُ لِلْبَبَّغَاءِ قَفَصًا.
ولَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِما زَمَنٌ قَليلٌ، حَتَّى أَنِسَا بِي وارْتاحا إِلى صُحْبَتِي.
وكانَ الْجَدْيُ يَتْبَعُنِي حَيْثُما سِرْتُ، ولا يَكادُ يُطِيقُ فِراقِي.
وهكَذَا سُعِدْتُ — فِي هذِهِ الْجَزِيرَةِ النَّائِيَةِ — بِصُحْبَةِ هذَيْنِ
الرَّفِيقَيْنِ الْجَدِيدَيْنِ، كما سُعِدْتُ بِصُحْبَةِ كَلْبِي وقِطَّتِي مِنْ
قَبْلُ.