(١) أعْداءُ الزِّراعَةِ
حَلَّ الْيوْمُ الْمُتَمِّمُ لِلثَّلاثِين مِنْ «سِبْتَمْبِرَ»، وهُوَ
الذِّكْرَى الثَّانِيَةُ لِلْيَوْمِ الْمَشْئُومِ الَّذِي حَلَلْتُ فيهِ هذهِ
الْجَزِيرَةَ الْمُوحِشَةَ النَّائِيَةَ، حَيْثُ كُتِبَ عَلَيَّ أَنْ أتْرُكَ الْعالَمَ
وَأسْتَسْلِمَ لِلْعُزْلَةِ. عَلَى أَنَّنِي وجَدْتُ في الْعَمَلِ راحَةً عَظِيمَةً،
وَظَفِرْتُ — بِجَدِّي ودُءُوبِي ومُثابَرتِي
١ — بِنَتائِجَ باهِرَةٍ. فَجَنَيْتُ في آخِرِ الْخَرِيفِ مَحْصُولًا وافِرًا
مِنَ الْحُبُوبِ. وَلكِنَّ فَرَحي بهِ لَمْ يَدُمْ طَويلًا؛ فَقَدْ نَغَّصَهُ عَلَيَّ
عَبَثُ الْجِداءِ بهِ. وكُنْتُ أرَى بَعْضَ حَيَوانِ الْجَزِيرةِ — وهُوَ أَشْبَهُ
شَيءٍ بِالْأَرْنَبِ الْجَبَلِي — يَعِيثُ بِزَرْعِي فَسادًا. وقَدِ
اسْتَمْرَأَ
٢ الْقَمْحَ — وَهُوَ عَلَى سُوقِهِ — وأغْرَتْهُ لَذَّتُهُ بِإفْسادِ ما
زَرَعْتُهُ منْهُ. فَلَمْ أرَ بُدًّا مِنْ تَسْوِيرِ الْحَقْلِ بِسِياجٍ مِنَ
الْأَعْشابِ المُرْتَفِعَةِ. وقَدْ جَهَدَني ذلكَ ثَلاثَةَ أسابِيعَ. ولَمْ آلُ جُهْدًا
في مُطارَدَةِ هذِهِ الْأَعْداءِ الْخَبِيثَةِ نَهَارًا، فَإِذا جاءَ اللَّيلُ رَبَطْتُ
الْكلْبَ إِلى حَبْلٍ طَوِيلٍ مُثَبَّتٍ في بابِ الْحَقْلِ، فَلا يَفْتَأُ يَنْبَحُ
طُولَ اللَّيْلِ حتَّى يُزْعِجَها؛ فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ هَجَرَتِ الْبُقْعَةَ الَّتي
كُنْتُ فِيها، ولَمْ تَعُدْ تَدْنُو مِنْها بَعْدَ ذلكَ. واسْتَرَحْتُ مِن عَبَثِ هذهِ
الْأَعْداءِ،
٣ حتَّى حانَ وَقْتُ الْحَصادِ، فَظَهَرَ لي أَعْدَاءٌ جُدُدٌ؛ إِذ أقْبَلَتِ
الطُّيُورُ على سَنابِل الشَّعِيرِ تَلْتَهِمُها، واسْتَمْرَأَتْ هذا الطَّعامَ
الشَّهِيَّ. على أَنَّنِي لَمْ أيْئَسْ مِنَ النَّجاحِ في مُطاردَتِها، فَظَلِلْتُ
أحْرُسُ حَقْلِي لَيْلَ نَهَارَ، وَأصْطادُ بِبُنْدُقِيَّتِي كُلَّ طائِرٍ يَدْنُو مِنْ
حَقْلِي؛ حَتَّى ذُعِرَتِ الطُّيورُ وَتَمَلَّكَها الرُّعبُ، فهَجرَتِ الْحَقْلَ وَما
يَكْتَنِفُهُ،
٤ ولَمْ تَجْرُؤْ على الدُّنُوِّ مِنْ هذهِ الْبُقْعَةِ. وَهكَذا تَمَّ لِي
الظَّفَرُ، وَارْتاحَ بالِي، وَنَضِجَ الزَّرْعُ في الْأَيَّامِ الْأَخيرَةِ مِنْ
«دِيسَمْبِرَ».
(٢) أَدَواتُ الزَّارِعِ
وقَدِ اشْتَدَّتْ حَيْرَتي وارْتِباكِي حِينَ هَمَمْتُ بِجَنْيِ هذا المَحْصُولِ
وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ الْأَدَواتِ ما يُساعِدُنِي عَلَى ذلكَ. وعَنَّ لِي أنْ أَصْنَعَ
مِنْجَلًا، وَهُوَ آلةٌ مِن الْحَديدِ مُنْحَنِيَةٌ يُقْطَعُ بِها الزَّرْعُ.
فَصَنَعْتُهُ مِنْ سَيْفٍ وَغُصْنِ شَجَرَةٍ. وَقَطَعْتُ السَّنابِل، ثُمَّ
فَرَكْتُها بِيَدَي، وَعَزَمْتُ عَلَى بَذْرِها جَمِيعًا في الْمَوْسِمِ الْقابِلِ.
وَهُنا تَمَثَّلَ لِي مِقْدَارُ ما يُعانِيهِ الْإِنْسانُ إِذا حاوَلَ — بِمُفْرَدِه
—
أَنْ يَظْفَرَ بِرَغِيفٍ واحدٍ مِنَ الْخُبْزِ؛ فَقَدْ كُنْتُ في حاجَةٍ إِلى مِحْراثٍ
وَفَأْسٍ وَما إِلى ذلكَ مِنْ أدواتِ الزِّراعةِ، فَإِذا تَمَّ الْحَصادُ اشْتَدَّتْ
حاجَتِي إِلى طاحُونَةٍ وَمُنْخُلٍ وَفُرْنٍ وَما إِلى ذلِك مِنَ الْمِلْحِ وَغَيْرِهِ.
وَلكِنَّ الْجِدَّ وَالْمُثابَرَةَ كَفِيلانِ بِالتَّغَلُّبِ عَلَى كلِّ عَقَبَةٍ.
وَقَدْ تَمَّ لِي كلُّ ما أرَدْتُ بِفَضْل الْعَزِيمَةِ عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّنِي
كُنْتُ لا أُضِيعُ وَقْتِي عَبَثًا؛ فَإِذا هَطَلَتِ الْأَمْطارُ لَزِمْتُ بَيْتِي،
وَأقْبَلْتُ عَلَى بَبَّغائِي أُعَلِّمُها النُّطْقَ، حَتّى وَصَلْتُ إِلى نتائِجَ
باهِرَةٍ.
(٤) الزَّوْرقُ الْكَبِيرُ
عَلَى أَنَّ هذِهِ الْأَعْمالَ الكثِيرَةَ الْمُرْهِقَةَ لَمْ تُنْسِنِي رَغْبَتِيَ
الشَّديدَةَ فِي ارْتِيادِ الْأَرْضِ الْبَعِيدَةِ الَّتي رَأيْتُها — مِنْ قَبْلُ —
تُجاهَ الْجَزِيرَةِ، فَقَدْ كُنْتُ آمُلُ أَنْ أَجِدَ فِيها وَسَيلةً لِلْعَوْدَةِ
إِلى «لَندَنَ».
وذَكَرْتُ زَوْرَقَ السَّفِينَةِ الَّذِي انْقَلَبَ بِرِفاقِي، فرَأَيْتُهُ لا يَزالُ
كما هُوَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الشَّاطِئِ مَقْلُوبًا، وقدْ غاصَ جُزْءٌ مِنْهُ فِي
رِمالِ الشَّاطِئِ، وحاوَلْتُ أنْ أرْفَعَهُ مِنْ مَكانِهِ، فَذَهَبَتْ كلُّ جُهُودِي
عَبَثًا.
فَأَقْبَلْتُ عَلَى جُذُوعِ الْأَشْجارِ، وبَذَلْتُ كُلَّ ما فِي وُسْعِي زَمَنًا
طَويلًا، حتى صَنَعْتُ زَوْرَقًا كَبِيرًا يَسَعُ سِتَّةً وعِشْرِينَ راكِبًا.
ولكِنَّني عَجَزْتُ عَنْ نَقْلهِ إِلى الْبَحْرِ، وأَعْيَتْنِي الْحِيَلُ فِي ذلِكَ،
واسْتَحالَ عَلَيَّ أنْ أُزَحْزِحَهُ عَنْ مَكانِهِ، كما اسْتَحالَ عَلَيَّ أنْ
أُزَحْزِحَ زَوْرَقَ السَّفِينَةِ مِنْ قَبْلُ.
(٥) الزَّوْرَقُ الْجَديدُ
وانْقَضَى الْعامُ الْرَّابِعُ، فَانْتَظَمَتْ أُمُورِي واسْتَقامَتْ. وقَدْ صَنَعْتُ
— فَيما صَنَعْتُ — قَلَنْسُوَةً
٩ كَبِيرَةً مِنْ فِراءِ الْجِداءِ الَّتِي تَصَيَّدتُها، كَما صَنَعْتُ
مِنْها جِلْبابِي وسِرْوالِي وَبَعْضَ الثِّيابِ، لِتَقِيَنِي غائِلَةَ الْبَرْدِ في
الشِّتاءِ. وصَنَعْتُ مِظَلَّةً لِتَقِيَنِي غَائِلَةَ الْحَرِّ في الصَّيْفِ — فَقدْ
كانتِ الجَزِيرَةُ واقِعَةً بِالْقُرْبِ مِنْ خَطِّ الاِسْتِواءِ، وَكَانَ
قَيْظُها
١٠ لِذلكَ لا يُحْتَمَلُ — فَسَهَّلَتْ عَليَّ السَّيَرَ نَهَارًا مِنْ غَيْرِ
عَناءٍ، وَآمَنَتْنِي مِنَ الْمَطَرِ والشَّمْسِ. وَكانَ شُغلِي الشَّاغِلُ أنْ أصْنَعَ
زَوْرَقًا أصْغَرَ مِنَ الزَّوْرَقِ الَّذِي صَنَعْتُهُ. ولَمْ يَنْتَهِ الْعامُ
الْخامِسُ حتَّى أتْمَمْتُ صُنْعَهُ. وَنَجَحْتُ في ذلِكَ نَجاحًا باهِرًا. فَجَعَلتُ
لَهُ شِراعًا، وَثَبَّتُّ فِيهِ مِظَلَّةً كَبِيرَةً وَعَقَدْتُ الْعَزْمَ عَلَى
الطَّوافِ حَوْلَ الْجَزِيرَةِ لِأَتَعَرَّفَ مَدَى هذِهِ الْمَمْلَكَةِ الَّتي كَتبَ
عَلَيَّ الْقَدَرُ أنْ أَكُونَ مَلِيكَها، أوْ — عَلَى الْأَصَحِّ — مَدَى هذا
السِّجْنِ الَّذِي أَبَتْ عَلَيَّ الْمَقادِيرُ إِلَّا أنْ أكُونَ حَلِيفَهُ
١١ وَسَجينَهُ.
وَهكَذا أَعْدَدْتُ الطَّعامَ وَالْماءَ لِهذهِ الرِّحْلَةِ. وَلَمْ أَنْسَ سِلاحِي
لِأُدافِعَ بِهِ عَنْ نَفْسِي إِذا حانَ وَقْتُ الْخَطَرِ. وَأَزْمَعْتُ
١٢ التَّجْوالَ حَوْلَ الْجَزِيرَةِ، بَعْدَ تَرَدُّدٍ طَوِيلٍ.
(٦) الطَّوافُ حَوْلَ الْجَزِيرَةِ
وَبَدَأَتُ هذِهِ الرِّحْلَةَ فِي الْيَوْمِ الْسَّادِسِ مِنْ «نُوفَمْبِرُ
»، بَعْدَ أَنْ مَرَّ علي سِتَّةُ أعْوامٍ فِي مَمْلَكَتِي، أَوْ فِي سِجْنِي
إِنْ تَوَخَّيْتُ
١٣ الصِّدْقَ فِي التَّعْبِيرِ! وَكانَتْ هذِهِ السِّياحَةُ أَطْوَلَ مِمّا
قَدَّرْتُ.
وَقَدْ تَعَرَّضْتُ — في أثْناءِ هذِهِ الرِّحْلَةِ — لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَخْطارِ،
وَلكِنَّ تَوْفِيقَ اللهِ لازَمنِي، حتَّى عُدْتُ إِلى بَيْتِيَ الرِّيِفِّيِّ — ذاتَ
مَساءٍ — وَقَدْ جَهَدَنِي
١٤ التَّعَبُ، فَاسْتَسْلَمتُ لِنَوْمٍ عَمِيقٍ.
(٧) مُفاجَأَةُ الْبَبَّغاءِ
شَدَّ ما تمَلَّكَنِي الدَّهَشُ حِينَ طَرَقَ أُذني صَوْتٌ يُنادِينِي بِاسْمِي،
وَيَقُولُ فِي وُضُوْحٍ وجَلاءٍ: «رُوبِنْسَنْ! إيهِ يا رُوبِنْسَن! ها أَنْتَ ذا يا
رُوبِنْسَن! مِسْكينٌ أنْتَ يا رُوبِنْسَن! أيْنَ أَنْتَ؟ وَأَيْنَ كُنْتَ؟ وَكَيْفَ
تَجِدُكَ يا روبِنْسَن كُرُوزُو؟»
وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنِي حَالِمٌ، وَلكِنَّ الصَّوْتَ عادَ يَقُولُ:
«رُوبِنْسَن كُرُوزُو! إيهِ يا رُوبنْسَن!»
فَاسْتَيْقَظْتُ مِنْ نَوْمِي الْعمِيق، وَقَدْ تَمَلَّكَتْنِي الدَّهْشَةُ والذُّعْرُ.
وَما تَبَيَّنْتُ جَلِيَّةَ الْأَمْرِ حَتَّى عاوَدَتْنِي الطُّمَأَنِينَةُ، وَسُرِّي
عَنْ نَفْسِي،
١٥ إِذْ عَلِمْتُ أَنَّ بَبَّغائِي هِيَ مصْدَرُ هذا الصَّوْتِ، فَقَدْ
رَأيْتُها قَائِمَةً على السِّياجِ، فَعجِبْتُ مِنِ اهْتِدائِها إِلى هذا الْبَيْتِ،
وَقدْ تَرَكْتُها فِي الْكهْفِ. وَعَجِبْتُ مِنْ تَخَيُّرِها هذا الْمَكانَ. وَلَمْ
أَهْتَدِ إِلى حَلِّ هذا اللُّغْزِ. ثمَّ نادَيْتُها بِاسْمِها، فَأَسْرَعَتْ إِلىيَّ،
وَوَقَفَتْ عَلَى إبْهامِي، وَهِي تُكَرِّرُ سُؤَالهَا مَسْرُورَةً مُبْتَهِجَةً
بِلِقائِي: «أيْنَ كُنت يا رُوبِنْسَنْ كُرُوزُو؟ أيْن كُنْتَ يا مِسْكيِنُ؟»
فَأَخَذْتُها مَعِي إِلى الْكَهْفِ، حَيْثُ عِشْتُ زُهاءَ عامٍ
١٦ في عُزْلَةِ السَّجِينِ ولَمْ يَكُنْ يُنَغِّصُ
١٧ عَلَيَّ صَفائِي وَسَعادَتِي في هذِهِ الْجَزِيْرَةِ إِلَّا أَنَّهَا
مُقْفِرَةٌ عازِبَةٌ
١٨ لَيْسَ بِها أَنِيسٌ.
(٨) صَيْدُ الْمَعِيزِ
وَقدْ أَتْقَنْتُ كَثيرًا مِنَ الصِّناعاتِ، وَبَرَعْتُ فِيها بَراعَة نَادِرَةً،
وَنَجَحْتُ في صِنَاعَةِ الْفَخَّارِ وَعَمَلِ السِّلالِ. وكُنْتُ أَصْطَادُ الْمَعِيزَ
والسَّلاحِفَ كُلَّما احْتَجْتُ إِلى ذلكَ، فَرأَيْتُ الْبَارُودَ الَّذِي ادَّخَرتُهُ
عِنْدِي قَدْ نَقَصَ، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْفَدَ، وبذلِكَ أَعْجِزُ أَنْ أَصْطادَ شَيْئًا
مِنَ الحَيَوانِ.
فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ تَغْيِيرِ خُطَّتِي
١٩ هذهِ، فَنَصَبْتُ شِباكًا لِأَصْطادَ مَعِيزًا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.
وَلَمْ تَكُنْ شِباكِي صَالِحَةً لِصَيْدِها، فَقَدْ أَفْلَتَتْ مِنْها الْمَعِيزُ
الَّتي وَقَعَتْ فِيها، لِضَعْفِ حِبالِها. فَلَجَأْتُ إِلى طَرِيقَةٍ أُخْرَى.
وذلِكَ أَنِّي حَفَرْتُ حُفَرًا عَمِيقَةً في الْجِهاتِ الَّتي اعْتادَتِ الْمِعْزَى
أَنَّ تَرْتادَها،
٢٠ وغَطَّيْتُ تِلْكَ الْحُفَرَ بِشِباكٍ مِنْ شَجَرِ الصَّفْصافِ، وألقَيْتُ
عَلَيْها طبَقَةً مِنَ التُّرَابِ، وغَرَسْتُ فِيها سَنَابِلَ مِنَ الرُّزِّ
والشَّعِيرِ. وقَدْ أَخْفَقَتْ
٢١ هذِهِ الطَّرِيقةُ — كما أخْفَقَتْ سابِقَتُها مِنْ قَبْلُ — فَقَدْ كانَتِ
الْمَعيزُ تَنْفِرُ مِنْها. ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُ أَنْ خُدِعَتْ — بَعْد قَليلٍ —
فَهَوَى في إِحْدَى الْحُفَرِ تَيْسٌ عَنِيدٌ؛ فَلَمْ أُفْلِحْ في تَسْكِينِ ثَوْرَتِهِ
وَهِياجِهِ، فاضْطُرِرْتُ إِلى إِطْلاقِه. وَلَوْ أنَّني تَرَكْتُه في الْحُفْرَةِ
أَيَّامًا حَتّى يُدَوِّخَهُ الْجُوعُ فَيَسْلَسَ
٢٢ قِيادُهُ، لَتَمَّ لِي ما أرَدْتُ، وَلكِنَّ هذهِ الْفِكْرَةَ لَمْ تَمُرَّ
بِخَاطِرِي إِلَّا نَئِيشًا.
٢٣
ثُمَّ وَقَعَ في حُفْرَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ماعِزَتانِ صَغِيرَتانِ وَجَدْي صَغيرٌ،
فَأَخَذْتُها جَمِيعًا إِلى مَسْكَني. وَقَدْ أَبَتْ أَنْ تَأْكلَ شَيْئًا. ثمَّ راضَها
الْجُوْعُ،
٢٤ واضْطَرَّها إِلى أَكْلِ ما قَدَّمْتُه لَها مِنَ الْحُبُوبِ.
وبَذَلْتُ جُهْدِي في تَهْيِئَةِ مَرْعًى خِصْبٍ، وَسَوَّرْتُهُ بِسِياجٍ مَتينٍ مِن
الْأَعشابِ الْكَثيفَةِ، حَتَّى لا تَجِدَ إِلى الْفِرارِ سَبِيلًا.
وظَلِلْتُ أتَعهَّدُها بِأَحْسَنِ أَلْوانِ الطَّعامِ الْحَبِيبِ إِلى نَفْسِها مِنْ
سنَابِلِ الشَّعيرِ وَحُبوبِ الرُّزِّ حَتَّى أَنِسَتْ بِي، فَفَكَكْتُ رِباطَها فَلَمْ
تَهْرُبْ مِنِّي، وَظَلَّتْ تَتْبَعُنِي أَنَّى سِرْتُ، وتَثْغُو
٢٥ فَرِحَةً بِمَقْدَمِي كُلَّما رَأَتْنِي. وَبَعْدَ عامٍ وَنِصْفِ عامٍ أَصبَحَ
لَدَيَّ قَطِيعٌ
٢٦ لا يَقِلُّ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَدْيًا وَعَنْزًا. ثُمَّ تَضاعَفَ
الْعَدَدُ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ، وَأصبَحَتْ حَياتي رَغَدًا،
٢٧ وَعِيشَتي وادِعَةً ناعِمَةً؛ فَقَدْ كانتْ تُدِرُّ
٢٨ مَقادِيرَ وافِرَةً مِنَ اللَّبَنِ. فَلَمْ أُضِعْ هذِهِ الْفُرْصَةَ،
وَعَزَمْتُ عَلَى صُنْع الْجُبْنِ والزُّبْدِ مِنْ أَلْبانِها، وَلَمْ يكُنْ لِي بذلِكَ
عَهْدٌ
مِنْ قَبْلُ.
وَما زِلْتُ أُدَرِّبُ نَفْسِي عَلَى هذا الْعمَلِ، حَتَّى وُفِّقْتُ إِلَيْهِ،
وَنَجَحْتُ فِي تَحْقِيقِهِ أَكْبَرَ نَجاحٍ.
(٩) رِفاقُ «رُوبِنْسن»
وكانتْ مائِدَتي — فِي كُلِّ يَوْمٍ — حَافِلَةً
٢٩ بِشَتَّى أَلْوانِ الْغِذاءِ. وقَدْ نَعِمْتُ برِفاقي الْخُلَصاءِ:
فالْبَبَّغاءُ تُنادِمُنِي
٣٠ وَتُسَلِّينِي بِحَدِيثِها، والْكَلْبُ يَجْلِسُ إِلى يَمِينِي — عَلَى
الْمائِدَةِ — ويَجْلِسُ الْقِطَّانِ إِلى يَسارِي مُتقابِلَيْنِ. وقَدْ عَلِمَ
الْقارِئُ — فَيما سَبَقَ — أَنَّنِي أحْضَرْتُ مَعِيَ قِطَّيْنِ مِنَ السَّفِينَةِ؛
فَلْيَعْلَمِ الْقارِئُ الْآنَ أَنَّهما ماتا مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، بَعْدَ أَنْ
نَسَلا
٣١ كَثيرًا مِنَ الْقِطَطِ، وَلَمْ يخْلُصْ لِي مِنْها غَيْرُ هذَيْنِ
الْقِطَّيْنِ. أمَّا إِخْوَتُهُما فَكانَتْ شِرِّيرَةً ماكِرَةً، تَسْرِقُ كُلَّ ما
تَلْقاهُ في طرِيقِها مِنَ الطَّعام؛ فَطَردْتُها مِنْ بَيْتِي شَرَّ طَرْدَةٍ، بَعْدَ
أَنْ نَكَّلْتُ بِها.
٣٢ فَهَرَبَتْ إِلى الْغابَةِ، ولَمْ تَلْبَثْ إِلاَّ قَليلًا حتَّى عادَتْ
إِلَى طَبْعِها الْوَحْشِيِّ الشَّرِسِ.
(١٠) زِيُّ «رُوبِنْسَنْ»
لَعَلَّ الْقارِئَ قَدِ اشْتاقَ إِلَى تَعَرُّفِ الزِّيِّ
٣٣ الَّذِي اخْتَرْتُهُ لِنَفْسِي كُلَّما أَرَدْتُ أَنْ أَجُولَ فِي
مَمْلَكَتِيَ الصَّغِيرَةِ، فَلْأُمَثِّلْ لهُ ذلِكَ الزِّيَّ الْعَجِيبَ:
كانَتْ قَلَنْسُوَتِي
٣٤ مُرْتَفِعَةً، وقَدْ صَنَعْتُها مِنْ جِلْدِ عَنْزٍ. وكانَتْ
عَذَبَتُها
٣٥ مُدَلَّاةً عَلَى قَفايَ لِتَحْمِيَنِي مِنْ وَهَجِ الشَّمْسِ. وكانَ
سِرْوالِي مَصْنُوعًا مِنْ جِلْدِ تَيْسٍ هَرِمٍ، والشَّعْرُ يَتَدَلَّى مِنْهُ إِلى
نِصْفِ ساقِي.
•••
وكُنْتُ أَضَعُ فِي حِزامِي — وهُوَ أَيْضًا مِنْ جِلْدِ الْمَعِيزِ — مِنْشارًا
وقَدُومًا، وأَحْمِلُ على كَتِفِي بُنْدُقِيَّةً، وأَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِي سَلَّةً
كَبِيرَةً، فِيها طَعامِي وشَرابِي، وفِي يَدِي مِظَلَّتي، لِتَقِيَنِي لَفْحَ
الشَّمْسِ،
٣٦ وهُطُولَ الْأَمْطارِ.