(١) السَّفَرُ إِلَى «مَدْرِيدَ»
وَبَقِيتُ مُتَرَدِّدًا فِي الطَّرِيقِ الَّتي أَتَخَيَّرُ سُلُوكَها، وَشَعَرْتُ
بِخَوْفٍ شَدِيدٍ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ، بَعْدَ ما لَقِيتُهُ مِنَ الْأَخْطارِ
وَالْمَتاعِبِ. وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ السَّفَرَ فِي الْبَرِّ آمَنُ مِنْهُ فِي
الْبَحْرِ؛ فَعَزَمْتُ على السَّفَرِ إِلَى «مَدْرِيدَ»، بِحَيْثُ أَجْتازُ طريقَ
الْبَرِّ إِلى «فَرَنْسا»، ثُمَّ لا يَبْقَى عَلَيَّ إِلَّا مَسافَةٌ قَصِيرَةٌ
أَعْبُرُها — فِي الْبَحْرِ — بَيْنَ «كاليه» و«دُوڨَرِ».
وَقَدْ وُفِّقْتُ إِلَى رِفاقٍ يَصْحَبُونَنِي في هذِهِ الرِّحْلَةِ الطَّوِيلَةِ
—
وَكانَ عَدَدُهُمْ سِتَّةً مِنَ السَّادَةِ، وَخَمْسَةً مِنَ الْخَدَمِ — حَتَّى
وَصَلْنا إِلَى «مَدْرِيدَ».
(٢) الذِّئْبانِ
وَقَدِ اضْطُرِرْنا إِلَى مُغَادَرَةِ «مَدْرِيدَ» لِقُرْبِ حُلُولِ الشِّتاءِ
وَعَلِمْنا أَنَّ الطَّرِيقَ — الَّتي أَزْمَعْنا
١ اجْتِيازَها — خَطِرَةٌ فِي هذا الْفَصْلِ. وَقَدْ كانَ الشِّتاءُ قَاسِيَ
الْبُرُودَةِ، وَرَأَيْنا الثُّلُوجَ تُغَطِّي الْجِبالَ؛ فَنَدِمْنا عَلَى
مُخاطَرَتِنا بِالسَّفَرِ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ الْمَشْئُومِ.
وَكانَ مَعَنا دَلِيلٌ ذَكِيٌّ شُجاعٌ. وَما زِلنا سائِرِينَ — عِدَّةَ أَيَّامٍ
—
حَتَّى قَطَعْنا مَرْحَلَةً كَبِيرَةً في رِحْلَتِنا الْمُضْنِيَةِ.
٢
وَكانَ الدَّلِيلُ يَتَقَدَّمُنا أَحْيَانًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْنا لِيُرْشِدَنا
إِلَى الطَّرِيقِ.
وَفِي ذاتِ مَرَّةٍ بَعُدَ عَنَّا — كَعادَتِهِ — فانْقَضَّ عَلَيْهِ ذِئْبانِ.
وَرَأَى الدَّلِيلُ هَلاكَهُ مُحَقَّقًا وَشِيكًا؛ فَصَرَخَ مِنَ الْفَزعِ،
فَأَدْرَكَهُ «جُمْعَةُ»، وأَطْلَقَ رَصاصَةً عَلَى أحَدِ الذِّئْبَيْنِ، فَقَتَلَهُ
قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِسَ الدَّلِيلَ. وَفَرَّ الذِّئْبُ الآخَرُ هارِبًا حِينَ رَأَى
مَصْرَعَ أَخِيهِ.
(٣) الدُّبُّ
ثُمَّ رَأَى «جُمْعَةُ» دُبًّا هائلَ الْجِرْمِ
٣ مُقْبِلًا عَلَيْهِ؛ فاشْتَدَّ رُعْبُنا.
وَلَكِنَّ «جُمْعَةَ» سَخِرَ مِنْهُ،
٤ وَظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِهِ أَماراتُ الْغِبْطَةِ
٥ بِمُصَارَعَةِ الدُّبِّ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ قائلًا: «أَرْجُو أَلَّا تُعَكِّرُوا عَلَيَّ صَفائِي؛
فَإِنَّنِي أُحِبُّ أَنْ أُداعِبَ هذا الدُّبَّ، لِأُسَرِّيَ عَنْكُمْ قَلِيلًا.
فَحَذارِ أَنْ تُطْلِقُوا عَلَيْهِ الرَّصاصَ.»
ثُمَّ قَذَفَهُ «جُمْعَةُ» بِحَجَرٍ فِي رَأْسِهِ، فَجَرَى الْدُّبُّ مُسْرِعًا
إِلَيْهِ فَصَعِدَ «جُمْعَةُ» شَجَرَةً عَالِيَةً، فَوَقَفَ الدُّبُّ تَحْتَهَا
قَلِيلًا، ثُمَّ تَسَلَّقَها.
٦ فَأَمْسَكَ «جُمْعَةُ» بِأَحَدِ أَغْصانِ الشَّجَرَةِ، وَظَلَّ يَهُزُّ
الْغُصْنَ هَزًّا عَنِيفًا، وَهُوَ ساخِرٌ مِنْ حَيْرَةِ الدُّبِّ، الَّذِي ظَلَّ
يَتَرَجَّحُ فِي أثْناءِ ذلِك. ثُمَّ صَوَّبَ «جُمْعَةُ» رَصاصَةً إِلى أُذُنِ الدُّبِّ
— بَعْدَ أَنْ أَرْقَصَهُ طَويلًا — فقَتَلهُ. وقَدْ أَضْحَكَنا كَثِيرًا.
(٤) لَيْلَةٌ هائِلَةٌ
وَرَأَيْنا اللَّيْلَ يَقْتَرِبُ، والنَّهارَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَضِيَ. فَضاعَفْنا
السَّيْرَ مُسْرِعِينَ؛ لِنَجْتازَ الْمَسافَةَ القَلِيلَةَ الْباقِيَةَ عَلَيْنا فِي
تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ الْمُخِيفَةِ الْمُفَزِّعَةِ. وَما غَرَبَتِ الشَّمْسُ حتَّى
مَرَّتْ بِنا خَمْسَةُ ذِئابٍ؛ فَلَمْ نَأْبَهْ لَها.
٧ وكُنَّا مُتَحَفِّزِينَ
٨ — فِي كُلِّ لَحْظَةٍ — لِمُدافَعَةِ الذِّئابِ الْكَثِيرَةِ، الَّتي
سَتَعْتَرِضُنا فِي الطَّرِيقِ، كَما أَخْبَرَنا الدَّلِيلُ.
وَما تَقَدَّمْنا نصْفَ فَرْسَخٍ
٩ بعْدَ ذلِكَ، حتَّى رَأَيْنا ذِئابًا كَثِيرَةً تَنْهَشُ لَحْمَ جَوادٍ
مَيِّتٍ، وَقَدْ مَزَّقَتْهُ تَمْزِيقًا.
•••
وَلَمْ نَجْتَزْ مَرْحَلَةً قَصِيرَةً أُخْرَى، حَتَّى مَلأَتِ الذِّئابُ الْجَوَّ
بِعُوائِها. وَرَأَيْنا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ ذِئْبٍ تَكْتَنِفُنا،
١٠ مُتَحَفِّزَةً لِلْوُثُوبِ عَلَيْنا، والْفَتْكِ بِنا، فَأَطْلَقْنا
عَلَيْها الرَّصاصَ، وَصَرَخْنا صَرَخَاتٍ عالِيَةً لِنُخِيفَها.
فَوَلَّتِ الذِّئابُ هارِبَةً.
•••
وَلَمَّا قَطَعْنا مَرْحَلَةً أُخْرَى، أَحاطَتْ بِنا قُطْعانٌ كَبِيرَةٌ، وَسَمِعْنا
صَوْتَ رَصاصَةٍ بِالْقُرْبِ مِنَّا، وَرَأَيْنا جَوادًا يُسابِقُ الرِّيحَ، وَتَعْدُو
فِي إِثْرِهِ جَمْهَرَةٌ مِنَ الذِّئابِ، فَعَلِمْنا أَنَّ مَآلَهُ
١١ الْمَوْتُ الْوَشِيكُ.
وَما سِرْنا خُطُواتٍ قَلِيلةً، حتّى رَأَيْنا جُثَّةَ جَوادٍ آخَرَ قَطَّعَتْها
الذِّئابُ إِرْبًا إِرْبًا،
١٢ وإِلى جانِبِها جُثَّتَيْ فارِسَيْنِ، لَمْ تُبْقِ مِنْهُما الذِّئابُ
إِلَّا الْعِظَامَ. فَعَلِمْنا أَنَّ أَحَدَهُما هُوَ الَّذِي أَطْلَقَ الرَّصاصَةَ
الَّتي سَمِعْنا دَوِيَّها مُنْذُ حِينٍ.
وإِنَّا لحَائِرُونَ مَذْعُورُونَ مِنْ هذا الْمَنْظَرِ الْمُفَزِّعِ الْهَائِلِ،
إِذْ
أَقْبَلَ علَيْنا — مِنْ أَسْرابِ الذئابِ — ما لا قِبَلَ لَنا بِمُقاوَمَتِه. فَقَد
اكْتَنَفَنا نَحْوُ ثَلاثِمائَةِ ذِئْبٍ؛ فاعْتَصَمْنا
١٣ بِأَشْجارٍ قَرِيبَةٍ.
وبَعْدَ أَنْ تَرَجَّلْنا، ظَلَلْنا نُطْلِقُ عليْها الرَّصاصَ فَتَرَاجَعتْ، ثُمَّ
كَرَّتْ عليْنا كَرَّةً أُخْرَى. وما زِلْنا نُحارِبُها مُسْتَبْسِلينَ، حتَّى قَتَلْنا
مِنْها نَحْوَ سِتِّين ذِئْبًا، وكَسَبْنا الْمَعْرَكَةَ — بَعْدَ جِهادٍ عنيفٍ —
وانْتَصَرْنا عَلَى الذِّئابِ، بِأُعْجُوبَةٍ لا مَثِيلَ لها في الْأَعاجيبِ.
(٥) خاتِمَةُ الرِّحْلَةِ
ثُمَّ قَطَعْنا الْمَرْحَلَةَ الْباقِيَةَ مُسْرِعِينَ، حتَّى وصَلْنا إِلى
الْمَدِينَةِ، حَيْثُ أتْمَمْنا رِحْلَتَنا — بعْدَ ذلكَ — آمِنينَ.
وما أَنْسَ لا أَنْسَ — ما حَيِيتُ — هذهِ الرِّحْلةَ الْبَرِّيَّةَ الْمُخِيفَةَ
الَّتي أَنْسَتْنِي أَهْوالُها أَهْوالَ الْبَحْرِ.
وقَدْ آلَيْتُ
١٤ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَقْضِيَ الْبَقِيَّةَ الْباقِيَةَ منْ عُمْرِي في
دَعَةٍ
١٥ واطْمِئْنانٍ، وأَمْنٍ وسَلامٍ.