الجارة الرسولة
عاد يوسف إلى غرفته مرتاح النفس من جهة مسترزقه؛ لأنه أمل أن يحصل على الوظيفة في مصلحة التنظيم، على أن حادث ذلك المساء شغل كل لبه وقلبه.
كان في الأيام التي مرت يتناسى تلك الذات التي احتفرت منزلًا في فؤاده، حتى كاد ينساها، ولكن حادث المركبة كان كلفحة هواء هبت على جذوة نار خابية تحت الرماد، فسفت الرماد عنها وجعلت تضرمها حتى ألهبتها.
لم يهجع يوسف تلك الليلة؛ لأنه كان كلما أغمض جفنيه متوسلًا إلى الكرى لاح في مخيلته طيف تلك الذات، وقال للكرى: «لا يسع هذا الحيز اثنين في وقت واحد، فإما أنت وإما أنا.» فكان الكرى نافرًا والطيف أنيسًا.
وكان ذهن يوسف يتعقل تلك الذات فيراها تترقى رويدًا رويدًا، حتى ملأت فضاء خياله، وأخيرًا قال في نفسه: «أين أهل الثرى من أهل الثريا؟» ثم عاد ذهنه من ذلك الفضاء الواسع وهو يتعثر بين هضبات الآمال، فيرقى هضبة من رجاء ثم ينحدر إلى وهدة من يأس.
قد يود القارئ أن يطلع على كل ما دار في خلد يوسف تلك الليلة؛ لكي يدرس فيه فلسفة الحب، ولكن لو طلبنا إلى يوسف أن يدون ذلك على الورق ما بقي في هذا الكتاب محل للحكاية.
كانت مخيلة يوسف تلك الليلة كالسينماتوغراف، تبدي وتعيد كل حادث ذي علاقة بالفتاة من حادث الترام الأول إلى حادث المركبة الأخيرة، وكان يقف عند كل حادث ويوسع نفسه لومًا؛ لأنه أساء التصرف، ففي الترام خاشنها، وفي الطريق قرب منزلها تجسس عليها، وفي منزلها جافاها، وفي سبلندد بار نافرها، وفي حادث المركبة الأخير قلل الأدب؛ لأنه لم يرافقها حتى منزلها كحارس لها؛ لئلا يحدث لها في الطريق حادث آخر؛ أو لئلا يتعذر عليها الصعود إلى المنزل؛ أو لئلا يجزع أهلها لمباغتتها إياهم متألمة محتاجة إلى من تتوكأ عليه لتصعد.
كيفما قلب يوسف تصرفه وجده نموذج الهمجية والتوحش، ولم يكن ليخف عنه تعذيب ضميره على ذنوبه هذه، إلا إذا خطر له ما يعتقده من تصلف الفتاة وخيلائها.
طلع الصباح ويوسف لم ينم، فنهض ولبس ثوبه وخرج ينوي الذهاب إلى مصلحة التنظيم، وفيما هو خارج من باب المنزل السفلي رأى فتاة تحملق فيه، وهي مئتزرة بمئزر «بحبرة»، فنظر فيها كأنه يسألها إن كانت تريد منه شيئًا، فقالت له: بونجور مسيو يوسف.
– بونجور مدموزال، أتذكر أني رأيت هذا الوجه، ولكن متى وأين لا أتذكر.
– في هذه الناحية طبعًا.
– نعم نعم، تقطنين في المنزل المجاور لهذا المنزل، يسرني أن أراك الآن؛ لأني لم أعد أراك منذ بضعة أيام، وكنت أود أن أختلس برهة لمقابلتك، فأين كنت؟
فاحمر وجه الفتاة، وقالت: تركت هذا المنزل.
– وحدك؟
فأجابت متلعثمة: وحدي.
– فعلت حسنًا.
فاستغربت الفتاة حديثه، واضطربت قليلًا وقالت: لماذا؟
– لأنك نجوت من الهاوية.
– أية هاوية هذه؟
فغالط يوسف نفسه، وقال: أما أنت الفتاة التي كنت منذ نحو أسبوع تقطنين في هذا المنزل مع أمكِ ورجل؟
فاكفهرَّت الفتاة وقالت: نعم، وكنت أراك كما تراني.
– إذن لماذا تنكرين الهاوية التي كانت أمك ترميك فيها؟
فازداد اظطراب الفتاة واحمرار خديها، وقالت: كيف ترميني أمي في هاوية؟
– أما كانت تريد أن تبيعك رخيصة لسافل زنيم؟
– هل روى لك أحد خبرًا؟
– كلا إنما رأيت بعينيَّ وسمعت بأذنيَّ.
فوجفت الفتاة، وقالت بصوت خافت: ماذا رأيت وماذا سمعت؟
– رأيت الزنيم كحية حواء يستغويك؛ ليرميك في هاوية الإثم الذي لا يغتفره الناس وإن اغتفره الله، وسمعت أمك تساوم ذلك الزنيم على طهارتك، هذا ما سمعت وهذا ما رأيت.
– أين ومتى؟
– منذ نحو عشرة أيام تقريبًا في نحو الساعة الثالثة بعد نصف الليل، في غرفتك رأيت وفي الغرفة المجاورة لها سمعت، فذاب فؤادي إشفاقًا عليك.
فانتفضت الفتاة مدهوشة جازعة، وقالت: أنت اﻟ …
– أنا هو الذي أنذرك و…
– وتهدَّد ذلك الفاسق؟
– نعم.
– وكيف نجوت من يد الخفير؟ فقد سمعنا البرابرة الذين على السطح يستصرخون الخفير ويقولون له: إنهم قبضوا عليك.
– لم أنج من يده، بل ساقني إلى المخفر.
– إني آسفة.
– لا تخافي، برأتني المحكمة العادلة، ولكن ألم يخرج الرجل وأمك ليروا من هذا الذي كان يتجسس عليكم؟
– لا، وإني مستغربة ذلك.
– لا تستغربي؛ لأن الأثمة يخافون أن يظهروا للناس فأحمد الله أنك نجوت.
– ولكن ما معنى قولك: إن أمي كانت تساوم على طهارتي؟
– أما فهمتِ ذلك؟
– لا.
– أما فهمت شيئًا من علاقة ذلك الرجل بكم؟
– فهمت أن أمي تريد أن تحبب الرجل بي؛ لكي يتزوجني وأنا كنت أمانع.
فضحك يوسف مكفهرًّا وقال: لماذا تمانعين إذا كان الرجل يتزوجك زواجًا شرعيًّا؟
– لأني لا أحبه ولن أحبه ولا أطيقه.
– وهل كنت واثقة أنه سيتزوجك؟
– لم أكن أشك بذلك؛ لأنه كان يبذل جهده في إرضائي.
– نعم ولكن لا ليتزوجك، بل ليقتنصك، وأقول لك: إن أمك كانت تساعده على اقتناصك.
فاسود وجه الفتاة واغرورقت عيناها بالدموع وقالت: آه أمي، أمي، لو كانت أمي.
فانتبه يوسف وقال: أما هي أمك؟
– أدعوها أمي، ولكنها بالحقيقة خالتي أخت أمي، والآن صرت أشك أيضًا بأنها خالتي؛ لأن الخالة كالأم تضن بابنة أختها، ولا سيما إذا كانت قد ربتها منذ الصغر، إني أشكر غيرتك جدًّا يا مسيو برَّاق، وأود منك ألا تفوه بكلمة مما سمعت ورأيت؛ لأني أود أن أنسى كل ما كان وقد مضى بلا أذى والحمد لله.
– كيف عرفت اسمي؟
– لم يبق عندي وقت الآن، فاسمح لي أن أدفع لك هذه الرسالة وأنطلق قبل أن تراني خالتي هنا.
فتناول منها الرسالة، وهو يقول لها: ممن هذه الرسالة؟
– من سيدتي ليلى.
– ليلى؟
– نعم ألا تعرفها؟
– لا.
– يا لله، هل نسيت أمس؟
فبغت يوسف وقال: هل كنت معها؟
– نعم، أنا التي كنت معها ولم تنتبه لي؛ لأنك انشغلت بها.
ثم ودعته الفتاة منطلقة فقال: ألا تنتظرين جوابًا؟
– كلا، فهل من جواب؟
– لا أدري، هل يمكن أن أراك غدًا في مثل هذا الوقت وفي هذا المكان؟
– نعم إذا كنت ترغب في ذلك.