التفسير حسب الظواهر
وكان طريق الفتاة من أمام منزل أمها «أو خالتها»، فما بلغته حتى رأت أمها تنزل من آخر درجة من السلم، فأسرعت وكان إسراعها منبهًا لظنون أمها، فأسرعت هذه وراءها حتى أدركتها بعد عدة خطوات ونظرت إلى وجهها قائلة: هيفاء، إلى أين يا شقية؟ وأين كنت؟
– لا شغل لك معي، لقد كتبت لك أني في سلامة فلا تبحثي عني، فدعيني في سبيلي.
ولكن المرأة لم تدعها تنطلق في سبيلها، بل صدتها وأرجعتها بالقوة محاسنة تارة ومتوعدة أخرى، حتى أدخلتها إلى المنزل، وهناك جعلت تلومها، وتعنفها تارة، وتلاطفها وتتملقها طورًا حتى أقنعتها بالبقاء في المنزل، على أن هيفاء ما زالت تود أن تنتهز فرصة للفرار إلى ليلى؛ لكي تدفع لها الرسالة، فلم يتسنى لها الفرار في ذلك النهار عينه، على أنها أبكرت في فجر اليوم التالي؛ لكي تنسل من المنزل على نية أن تذهب إلى ليلى وتدفع لها الرسالة، وتعتذر عن عدم إمكانها البقاء عندها، إلا إذا كانت ليلى تجد وسيلة شرعية للاستمساك بها؛ لأن أمها أقنعتها أنها لم تزل قاصرة، وأنها لا تقدر أن تفعل حسب مطلق حريتها.
نهضت هيفاء لترتدي ثوبها، وأول ما خطر لها هو أن تبحث عن الرسالة في جيب ثوبها الذي كانت ترتديه أمس فلم تجده، بحثت عنه في كل مكان وفي غرفتها فلم تقف لها على أثر، فتحيرت في أمرها، ومع ذلك لم تعدل عن إزماعها إلى ليلى؛ لتبلغها ماذا جرى.
فما همت أن ترتدي ثوبها حتى انفتح الباب بغتة، ودخلت عليها أمها قائلة: لماذا تلبسين ثوبك الآن والوقت لم يزل فجرًا؟ فإلى أين؟
– لست ذاهبة وإنما …
– ماذا؟
– أبحث عن شيء أعهده في جيبي ففقدته.
– تعنين رسالة؟
فبغتت هيفاء، وقالت: أخذتها؟
– نعم، واكتشفت سرك منها.
– سري أنا؟
– نعم سرك، إنك مجنونة لا تعرفين مصلحتك، وإلا ما كنت تفضلين هذا الفتى الأهوج على فهيم الذي لا يفرق عن الأمراء إلا بالاسم.
– أي فتى تعنين؟
– أتظنين أني غبية مثلك، فلا أعلم أنك تحبين هذا الفتى المجاور لنا، وأنه يحبك ويستغويك، فأين كان يجتمع بك كل هذه المدة؟ وأين كنت مختبئة يا شقية؟ ألا تعلمين أنك ارتكبت وزرًا لا يغتفر، وكدت تخسرين مستقبلك المجيد؟ ماذا حدث بينك وبينه؟ قولي لي؛ لكي أعلم كيف أتلافى مصيبتك.
فامتقع وجه الفتاة وخفق فؤادها جزعًا، وقالت: إنك تسيئين الظن بي يا أماه، فلا علاقة لي بهذا الفتى.
– اصمتي يا كاذبة، هل تنكرين أنك كنت معه أول أمس، وأنكما افترقتما أمام المنزل؟
فاقشعرت الفتاة وقالت: لم أكن معه إلا لحظة صباحًا أمام باب منزله.
– وما شغلك معه يا شقية؟ أتنكرين أنه يستغويك؟
– إنك تتهمينني به زورًا يا أمي.
– اصمتي، هل تنكرين هذه الرسالة التي أعطاك إياها؛ لكي تقرئيها على انفراد، وكلها تحبب وتذلل واستغواء؟
فكادت الفتاة تنكر أن الرسالة لها، ولكنها أمسكت نفسها عن الإنكار؛ لئلا تضطر أن تقول لمن كانت الرسالة، وهو أمر لا تريده ولو شنقت؛ لأنها خافت سوء المغبة على ليلى في حين أن ليلى أمنتها على سرها.
– ما بالك صامتة؟! تكلمي، أجيبي. أما هو الذي سطا علينا تلك الليلة غيرة عليك وقد تجاهلت سطوه؟
فبقيت هيفاء صامتة واجفة؛ ولا سيما لأن أمها هولت عليها كل التهويل، وبعد سكوت هنيهة قالت أمها: هل شعرت الآن بغلطك الفظيع في انخداعك بهذا الفتى الأرعن الطائش؟
– تأكدي يا أماه أنه ليس بيني وبين هذا الفتى من علاقة البتة.
– وهذه الرسالة؟
– أودعها في يدي وأنا لا أدري ما فيها، فإذا كان هو يتحبب إليَّ تحببًا فما ذنبي أنا؟
– أين كنت كل هذه المدة؟
– قلت لك أمس: إني كنت خادمة في بيت المراني، فإذا لم تصدقي فاسأليهم.
– ولماذا قابلت الفتى أمس؟
– بالصدفة قابلته.
– اسمعي يا هيفاء، ما مضى قد مضى، فإياك أن تعيديه أو تذكريه أو تدعي أحدًا يعلم أنك كنت خادمة عند أحد، أو أنه كانت لهذا الفتى علاقة معك؛ لئلا يعلم فهيم بالأمر فيفسد مشروعي الذي لا أقصد به إلا خيرك.
وجعلت تغريها على قبول فهيم ومحاسنته، وتحببها به حتى أثرت فيها بعض التأثير.