تاريخ قديم
في تلك الأثناء جاء إلى مصر قسيس يدعى الأب أمبروسيوس، وقصد إلى بطركخانة طائفته، وقال للبطريرك: إنه جاء بمهمة كبيرة فيها خدمة للإنسانية وفائدة للكنيسة، فسأله البطريرك عن هذه المهمة.
فأجاب: جئت لأبحث عن فتاة أوصى لها جدها بميراث كبير، وقد كلفني بأن أبحث عنها بعد موته حتى إذا وجدتها وتولت ميراثها كان لي ألف جنيه جزاء بحثي، وبالطبع تئول الألف جنيه للكنيسة؛ فأرجو من غبطتكم أن تساعدوني في البحث عنها.
– حسنٌ، لا ندخر جهدًا بذلك، ولكن لا بد من الاطلاع على معلوماتك حتى نستطيع البحث، فمن هي الفتاة ومن هو جدها؟
– جدها هو المرحوم الأمير صادق الخزامي المثري الكبير في دمشق.
– سمعت باسم هذا الأمير، فمن أين كانت له الإمارة؟
– إمارته موروثة عن أجداده الخزاميين الذين كانوا أمراء قبيلة نصرانية في حوران، وقد هاجر الأمير نعيم الخزامي إلى دمشق، واستقر فيها، وحوَّل ثروته إليها وأنماها، فأورث ابنه الأمير صادق ثروة طائلة جدًّا.
– كيف فقدت هذه الفتاة؟
– لذلك قصة طويلة، روى لي الأمير صادق نفسه تفاصيلها، ولا بد من سردها لغبطتكم، ترمل الأمير صادق في أوائل عهد زواجه، وتركت له امرأته غلامًا يدعى الأمير خليل، ثم تزوج بعد ذلك ريمة ابنة الشيخ ضامر من مشايخ نصارى حوران، الذين كانوا مقدمين بعد الأمراء الخزاميين، وكانوا يتمنون الانتساب إليهم، فولدت للأمير غلامًا هو الأمير إبرهيم، ولا يخفى أن المرأة قلما تحب ابن زوجها من امرأته الأولى، ولا سيما إذا كان لها بنون، أما ريمة فلم تكن لا تحب الأمير خليلًا فقط، بل كانت تكرهه وكانت شريرة وداهية جدًّا، وتريد أن تحصر إرث زوجها الطائل بولديها كما ظهر بعدئذٍ.
– يا لله من شرها!
– وقد شب البنون الثلاثة وكان الأمير خليل ذليلًا جدًّا لسوء معاملة امرأة أبيه له.
– وهل كان أبوه الأمير صادق راضيًا عن ذلك؟
– لم تكن معاملتها السيئة لابنه ظاهرة، وكانت فائقة الدهاء، حتى أعمت زوجها عن الحقائق، فكانت تحول دون زواج الأمير خليل كلما سنحت فرصة لزواجه، كما أنها كانت تحول دون تربيته التربية الصالحة، فشبَّ قليل العلم سيئ السلوك، ثم زوجت ابنتها وبقي ابن زوجها الأمير خليل بلا زواج إلى أن صادف فتاة في قضاء البترون، فتزوجها من غير أن يستشير أباه؛ لأنه كان يعلم أن ريمة تحول دون زواجه، فلما علمت ريمة بزواجه استشاطت وأعلنت نقمتها عليه بدعوى أنه تزوج فتاة من نسب دنيء، فاضطرت أباه أن يطرده هو وزوجته من المنزل، وأن يعيش وحده، وعين له راتبًا صغيرًا ليعيش به مع زوجته، فسكن الأمير خليل مع زوجته في منزل بعيد مضطرًّا، ولم يعد يتردد على دار أبيه إلا نادرًا، ثم رُزِق الأمير خليل غلامًا سماه يوسف فاشتعلت ريمة غيظًا، مع أن ابنها رُزِق غلامين اسم الأول: فضل، واسم الآخر: سليمان، ولكنها كانت تروم أن لا يكون لنسلها شريك في الميراث.
وفي ذات ليلة وافى الأمير خليل إلى دار أبيه مرتعبًا، ولما سئل عن أمره قال: إنه أحرج إلى مشاجرة بعض الناس بدعوى أنه سبَّ السلطان وكادوا يقتلونه، ولكنه أفلت من بين أيديهم بعد أن طعن أحدهم بخنجر ولا يدري إن كان حيًّا.
وبعد مفاوضة قصيرة قرَّ رأيهم على أن يهرب الأمير خليل من سوريا، وإلا كانت حياته تحت خطر لا يدرأ، وأعطاه أبوه مبلغًا من المال وجوادًا فهرب.
– إلى أين؟
– قيل: إنه هرب إلى بيروت، وركب باخرة مسافرة إلى بلاد اليونان.
– وهناك؟
– قال لي المرحوم الأمير صادق: إن ابنه الأمير خليل تجند بعد حين في الحرب اليونانية العثمانية، وقُتل فيها، وحين هرب كان ابنه يوسف في التاسعة من عمره، وكان الغلام وأمه كقذى في عيني ريمة، فكانت تسيء معاملتهما جدًّا، حتى إن حنة البترونية أم الغلام يوسف لم تعد تطيق البقاء في دمشق تحت رعاية الأمير، فرأت العودة إلى أهلها في البترون، فأبى الأمير صادق أن تأخذ الغلام معها، فذهبت وحدها بعد أن زودها الأمير بالمال القليل؛ إشفاقًا عليها؛ لأنها كانت في بدء حمل حينذاك، ثم علم الأمير صادق أنها ولدت ابنة فأرسل إليها بعض المال، وبعد ذلك لم يعد يقف لها على خبر؛ لأن ريمة كانت تحول دون ذلك.
– يا لله من هذه اللئيمة!
– ما اكتفت بذلك يا مولاي بل كانت متغيظة من وجود الغلام يوسف، فكان جده يبعده عنها دائمًا إلى المدارس، ولكن لما بلغ الغلام نحو الخامسة عشرة من عمره كان في الصيف في منزل جدِّه، فجاء إلى الأمير ذات ليلة إنذار بأن الحكومة علمت أن للفتى صلة بجمعية تركيا الفتاة، وأنها ستقبض عليه؛ لأنها وجدت مع آخرين أوراقًا تثبت عليه هذه التهمة، فأسرع الأمير وأرسله إلى بيروت، ومن هناك سافر الغلام إلى أوروبا، ومعه بعض المال، وبالفعل باغتت الحكومة منزل الأمير ووجدت فيه بعض الأوراق المشتبه بها، ولو لم يدفع الأمير الأموال الطائلة، ويثبت إخلاصه للدولة وعبوديته لجلالة السلطان ما نجا من هذه الحادثة.
– لكن لماذا لم يتلف الفتى الأوراق قبل هربه؛ لكيلا يقع جده تحت الشبهة؟
– هذا ما لم أستطع أن أفهمه ولا فهمه الأمير، والذي لاح لي حين سمعت القصة أن في الأمر دسيسة من ريمة زوجة الأمير؛ لأنها كانت تود أن تدهور الغلام، ولما ذكرت هذه الملاحظة للأمير امتعض وتنهد كأن ضميره قد خالجه بذلك، والذي أظنه أن ريمة نفسها دست الورق ووشت بالغلام.
– أَوَلَا تظن أن مسألة الأمير خليل بدسيسة أيضًا؟
– ليس ببعيد أن تكون ريمة الشريرة قد دست أناسًا يحرضون بعض المسلمين؛ لكي يتحرشوا بالأمير خليل حتى حدثت له تلك الحادثة المشئومة التي أدت إلى فراره.
– ثم ماذا جرى بالغلام؟
– كاتب جده برهة ثم انقطعت رسائله عنه، أو أن ريمة وابنها كانا يمسكان رسائله عن جده، وهكذا انقطعت أخباره.
– والآن أنت تبحث عن الفتاة ابنة حنة البترونية، التي ولدت في البترون.
– نعم؛ لأن جدها كلفني بالبحث عنها، وتحرير الأمر أنه منذ بضع سنين استدعاني الأمير إليه سرًّا، وقال لي: إنه يشعر أن منيته قد دنت، وأنه يود أن ينقي ضميره قبل موته، وشكا لي سوء سلوك ابنه الأمير إبراهيم وسلوك حفيديه فضل وسليمان، فإنهما شبَّا على سيرة رديئة، وأبوهما لم يحسن تربيتهما؛ لأنه هو نفسه سيئ الأخلاق وكثير الموبقات، ومن أفعاله الشريرة أنه كان في منزله فتاة تعلِّم ولديه فضلًا وسليمان وهما صغيران، فاستغواها، ولما قاربت تلد زودها ببعض المال، وردها إلى أهلها في بيروت، وكان لها ابن عم فجاء يطالبه بتعويض فأخذ منه مبلغًا كبيرًا، وقس على هذه القصة قصصًا كثيرة، وابناه ينتهجان الآن منهجه، ومنذ أربعة أعوام هرب أحدهما «سليمان» إلى أميركا؛ لأنه كاد يؤخذ بخيانة للدولة، ولم يعد أحد يعرف مصيره، وفي أيام الأمير صادق الأخيرة كان إبراهيم وابنه فضل يبذرقان ثروة أبيهما، ويستدينان والأمير صادق يتألم من سوء تصرفهما، حتى كره ابنه وحفيديه؛ ولهذا استدعاني سرًّا وكتب وصيته موصيًا بثروته لابنة خليل، ولأخيها يوسف إذا أمكن الاهتداء إليهما.
– وريمة؟
– من حسن الحظ أنها كانت قد ماتت، وإلا ما استطاع الأمير استدعائي؛ لأنها كانت تحول دون كل أمنية له، وتضع إصبعها في كل أمر، وكان يخافها جدًّا؛ لأنها كانت سليطة.
– والوصية؟
– معي، هاكها.
فتناولها البطريرك، وبعد أن قرأها مليًّا قال: إنها ناطقة بإرادة الأمير.
– وهي بخطه والشهود أحياء.
– متى مات الأمير؟
– منذ بضعة أشهر.
– هل بحثت عن الفتاة وأمها في البترون؟
– نعم ذهبت إلى البلدة التي أرشدني إليها الأمير، واتفق أن أول من سألته عن حنة كانت ندرة الزعفران أخت حنة، أي: خالة الفتاة، وبعد مباحثة قصيرة قالت لي ندرة هذه: إن أختها كانت تقيم في بلدة أخرى منذ عهد طويل، وهي وطنها الأصلي، فذهبت إلى البلدة الأخرى التي أرشدتني إليها ندرة، فما وجدت حنة ولا ابنتها، بل قيل لي هناك: إن حنة ماتت منذ زمان طويل، وإن ابنتها مع خالتها ندرة الزعفران، وهذه هي التي ربتها، ولما عدت إلى ندرة لأفهم مكرها عليَّ وجدت أنها رحلت بالفتاة خلسة، وبعد التحري علمت أنها سافرت بها إلى القطر المصري؛ لأن ندرة هذه كانت في هذا القطر في أوائل صباها، وما عادت إلا على أثر موت أختها، فتولت أمر الفتاة وربتها كابنتها.
– عجب لماذا مكرت هذا المكر؟ ولماذا رحلت بالفتاة؟
– ما زلت أستغرب ذلك.
– ماذا كلمتها بشأن الفتاة؟
– قلت لها: إن أهلها يطلبونها، ولكني لم أخبرها شيئًا عن الوصية وميراث الفتاة من جدها؛ لئلا يبلغ الأمر الأمير إبرهيم وابنه فيعجلان بمحق التركة، وقد يسعيان إلى دهورة الفتاة، بيد أني احتطت لكل ذلك؛ إذ اتفقت مع الشهود الذين شهدوا على صحة الوصية أن نكتم أمرها إلى أن نعثر بالفتاة.
فلعب البطريرك بلحيته وهو يفكر، ثم قال: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ولعلك لو أسررت الأمر لخالة الفتاة ما كانت تنكرها عليك، وقد لا تكون ملومًا في الكتمان، ولكن لماذا هربت هذه الشقية بها؟
– لم أدر لعلها أبت ردها إلى أهلها بعد أن ربتها، والله أعلم.
ففكر البطريرك هنيهة، ثم قال: لا بد لنا من مساعد في البحث عن الفتاة، وهو المسيو بولس المراني؛ فإنه من رجال الطائفة الذين يعتمد عليهم، وله معرفة واسعة بأحوال مصر.
ثم تناول البطريرك التلفون وخاطب به المسيو بولس المراني.
فقال الأب أمبروسيوس: وإنما أرجو يا سيدي أن لا تروي الحكاية برمتها للمسيو بولس المراني، وإن رويتها له بالاختصار فلا تذكر له الأسماء؛ لأن كتمان الحكاية ضروري لحماية الثروة من مبدديها، كما لا يخفى على غبطتكم.
فوعده البطريرك بالكتمان على قدر الإمكان.