شيء من التاريخ أيضًا
بعد ارفضاض الساهرين من السهرة ذهب الدكتور صديق هيزلي وابن عمه سليم معًا.
فقال صديق: هل لاحظت الليلة أمرًا يا سليم؟
– ماذا؟
– في ليلى.
– كانت صامتة مفكرة خلافًا لعادتها، هل أعدت عليها الكرة؟
– في هذا الأسبوع خاطبها عمها بشأني كثيرًا، فأصرت على الرفض مع أنها كانت فيما مضى لينة بعض اللين، فلا أدري ما الذي غير فكرها.
– هل أنت واثق أن أباها وأخاها راضيان تمام الرضا؟
– لا ريب عندي بذلك، وقد صرح لي أبوها أنه يتمنى أن لا تعرف ليلى أحدًا غيري ولا تحب سواي، وأكد لي أنه كل حين بعد آخر ينصح لها بالزواج مني، وكذلك أخوها نجيب لا يكل عن نصحها وهي لا تزال مكابرة؛ ولهذا كلفت عمها بولس أن يبحث معها ليكشف سرَّ ما بها.
– فماذا فهم بولس منها؟
– لم يستطع أن يفهم شيئًا سوى أنها ترفض، ولما ألحَّ عليها بتبيان السبب قالت: إنها لا تريد أن تتزوج، ولما جعل يعظها بأن الزواج لازم للفتاة نفرت منه، وقالت: إنها لا تقبل نصح أحد في أمر يهمها وحدها.
– هل تظن يا صديق أن الفتاة تحب شخصًا آخر؟
– لم يبق إلا هذا الظن؛ ولهذا سألتك إن كنت قد لاحظت أمرًا الليلة.
– لم ألاحظ إلا انقباضها خلافًا لعادتها.
– ومقالة يوسف براق؟
– نعم لاحظت أنها قرأتها طويلًا، وهل هي تعرفه؟
– زار المنزل مرة واحدة فقط لأوائل قدومه على ما فهمت، وبعد ذلك كنت قد سمعت من نجيب أنه لم يزره بعدها قط مع أن نجيب كان يلح عليه بالزيارة فيعتذر.
– وهل تظن أن هذه الزيارة كافية لإنشاء حب يشغل ليلى عن خاطب مثلك؟
– لا أدري إن كانت قد رأته بعد ذلك، والآن صرت أظن أن الذي وقاها من حادثة المركبة هو يوسف؛ لأنها لما سئلت عن الذي أنقذها كنت حاضرًا فأنكرت معرفته، ولكني شعرت بلعثمة في كلامها واكفهرار في وجهها، وتلاوتها للنبذة الليلة شغلت بالي، ورجحت لي أنها تحب يوسف هذا، أفلا تقدر أن تستخرج شيئًا من صدر يوسف أثناء حديثك معه؟
– سأفعل، ولكني لا أدري إن كنت أستطيع علم شيء منه؛ لأنه متحفظ جدًّا في كلامه، وليس عندي إلا طريقة واحدة للبحث معه.
– ما هي؟
– هي أن أسأله صريحًا في الأمر، وأرجح أنه يضطر أن يجيب ولو تلميحًا؛ لأني أعرفه لا يكذب فأنا أستعين بصدقه على كشف سرِّه.
– حسن، أود منك يا سليم أن تبذل جهدك في كشف سره، ولا أظنك تبخل على ابن عمك بخدمة.
– ما نحن أبناء عم يا صديق بل أخوان متعاونان، فثق أني لا أدخر جهدًا، ولكن هب أن الظن صحيح وأن ليلى مولعة بيوسف وهو مولع بها، فماذا تفعل؟
– آه يا سليم لا أدري ماذا أفعل، ولكني أبذل جهدي في التفريق بينهما بأي وسيلة، وستكون بيني وبين يوسف براق حرب.
– لا بأس من الحرب يا صديق وأنا عونك فيها، ولكن الحب ظافر.
– ولكن الخصم الذي يحتفظ بمصلحته لا يسلم لخصمه إلا بحرب، وإلا فهو جبان وضعيف.
– ولكن المصلحة شيء والحق شيء آخر، فإذا كانت ليلى تحب يوسف براق كان صاحب الحق، وكنت أنت مغتصبًا.
– صدقت ولكن الحق للقوة، فإذا استقويت عليه صرت صاحب الحق.
– لا تقدر أن تستقوي عليه إلا بالحب، أفما تعلمت درسًا من مقالته الليلة أن القلب الأقوى حبًّا أكثر جذبًا؟ فإذا كان أقدر منك على استمالتها كان فائزًا عليك، فبماذا تحاربه بغير الحب؟
– أنا لا أكترث بالنظريات بل بالعمل.
– ليس الأمر نظريًّا، بل هو عملي محض، فإذا كانت ليلى مولعة بيوسف براق ولا تحب سواه، فماذا تفعل أنت؟
– أبذل جهدي في إسقاطه إلى الحضيض بل إلى العدم؛ حتى لا يبقى في الوجود لا يوسف ولا برَّاق، فتضطر ليلى أن تقبل بي زوجًا إذ لا يبقى لها حبيب.
– وهل تتزوجها على غير حب؟
– أفعل.
– أستغرب ذلك منك يا صديق وأنت رجل عصري متعلم، وتعلم أن الزواج بلا حب كالبيت بلا أساس، فلماذا تقدم على زواج كهذا لا تأمن مغبته؟
– لي فيه مصلحة كبيرة.
– أهم من مصلحة الحب الزوجي؟
– قد تكون عندي أهم، على أني أؤمل أن تعود ليلى تحبني كما كانت تحبني قبلًا، ولا سيما إذا خلا ذهنها ممن تحبه الآن.
ففكر سليم هنيهة وقال: لا أفهم هذه المصلحة التي تمكنك من ركوب هذا المركب الخشن فما هي؟ قلها لي فما أنا غريب عنك.
فتردد صديق هنيهة، وقال: إنك تطلب مني أن أبوح بسري.
– لا بأس، أفما أنا مستودع كل أسرارك؟
– أقسم لي إنك لا تبوح بسري.
– أقسمت لا تخف، قل.
– لا يخفى عليك أن ليلى ابنة عمتي و…
– نعم ما هي ابنة بطرس المراني، بل ابنة زوجته الثانية وما هي أخت نجيب لا من أبيه ولا من أمه، بل من كونها ربيت معه في منزل واحد كالأخت مع الأخ.
– نعم، وهل تعرف أباها؟
– أعرف ما تعرفه أنت وهو أن أمها سارة عمتك كانت زوجة رجل يدعى حنا فرزدق، فترملت وليلى طفلة ثم تزوجت بطرس المراني، ولم تعد تلد وكان ابنه نجيب طفلًا فربى الزوجان الجديدان الولدين كأخوين.
– هذا ما تعرفه أنت ويعرفه كل واحد حتى بطرس المراني وابنه نجيب وليلى، ولكن الحقيقة غير ذلك.
– ما هي؟
– هي أن عمتي سارة — رحمة الله عليها — لم تكن أرملة كما نظن، وحكايتها أنها كانت قبلًا معلمة لأولاد الأمير إبراهيم الخزامي في دمشق فاستغواها هذا الزنيم، ولما كاد يشتهر حملها أعطاها ثلاثمائة جنيه وردها، فلما عادت إلى أخيها أبي وعلم بمصيبتها لم يقنع بالثلاثمائة جنيه كتعويض لها من رجل غني كذلك الأمير، فذهب إلى دمشق وناقش الأمير بالأمر، فأخذ منه ألف جنيه أخرى، واستكتبه وصية سرية من مقتضاها أن المولود الذي تلده سارة يرث حصة كأولاد الأمير على شرط ألا يظهر الوصية إلا بعد وفاة الأمير، وهكذا حفظ أبي الوصية معه ولم يطلع عليها أحدًا حتى ولا عمتي المسكينة؛ لئلا يذاع سرها فيغضب إبراهيم الخزامي وتفسد الوصية، ثم انتقل حينذاك أبي بعائلته وعمتي إلى مصر وادَّعى أن أخته أرملة وألبسها ثوب حداد، واستعان بالفلوس التي حصلها من الأمير إبراهيم على تزويجها من بطرس المراني، فتزوجها هذا وهو يعتقد أنها أرملة واستعان بفلوسها في أشغاله التجارية، وصادف نجاحًا؛ ولهذا تراه يحب ابنتها حتى الآن كحبه لابنه، وبقي هذا السر مكتومًا حتى توفي أبي — رحمة الله عليه — ففتحتُ وصيته فوجدت فيها نص هذه الحكاية، والوصية التي أخذها من الأمير إبراهيم الخزامي، وهو ينصح لي بوصيته أن أتزوج ليلى لأكون شريكها بميراثها، وهو ميراث طائل؛ لأن للأمير إبراهيم ابنين فليلى ترث خمس الثروة والخمس يقدر بنحو مائة ألف جنيه، فهل ألام إذا سعيت إلى الزواج من ليلى بأي الوسائل؟
فبهت سليم لهذه الحكاية الغريبة وقال: لا والله لا تلام، إن مائة ألف جنيه ثروة طائلة وهي في يدك الآن.
– وفي يدي وحدي؛ لأن ليلى لا تدري حتى الآن بشيءٍ من ذلك، ولن تدري ولا أحد يدري غيرك.
– وهبها درت فلا تصل يدها إلى الوصية.
– لا أدعها تدري إلا بعد أن أعدم الحيل بإقناعها، فحينذاك أخبرها بالحقيقة بيني وبينها، وأقول لها: إن المائة ألف جنيه لا تكون لها إلا وهي زوجتي.
– حسن.
– ولكني قبل ذلك أود أن أستخدم كل الوسائل الأخرى لإقناعها، وأود أن أستعين بك يا سليم ولك مني الجزاء الذي تريده، ولا تظنني كاذبًا إذا وعدتك بعشر ذلك المال جزاءً.
– إني صديقك على كل حال يا ابن العم.