إحياء الموتى
وفي ذات مساء كان يوسف ماشيًا في جهات الأزبكية، فشعر بيدٍ وقعت على كتفه فالتفت ورأى الشيخ الملتحي يقول له: لا أظنني غلطانًا، صديق السجن؟
– المسيو جورجي آجيوس؟
– أنا هو يا مسيو براق، توقعت لقاءك مرارًا في قهوة الشيشة فلم تأتِ.
– أتيت مرارًا فلم أجدك.
– لأننا لم نتفق على ميعاد، فأين تريد أن نجلس الآن إذا لم تكن مشغولًا؛ لأني مشتاق إليك.
– وأنا مشتاق إليك، نجلس في قهوة الشيشة.
– ما أكرم خلقك يا مسيو يوسف، لا تريد أن تحرمني بقية لذاتي.
– إنها لبشارة حسنة إذا كانت الشيشة بقية لذاتك، ومن بقي يسكر ويقامر.
– تركت السكر والقمار للشبان الأغرار، وبقيت أحرص على ما بقي في هذه الشيبة من القوة؛ لأني صرت أحسب للآخرة حسابًا.
– نعم الحساب، بقي عليك واجب يا مسيو جورجي.
– وهو؟
– هو أن تدل هؤلاء الشبان الأغرار على «الآخرة».
– دعهم في غيهم يعمهون، لا يتعظ المرء إلا بنفسه، وإذا نصحتهم حولوا النصح إلى مسبة والصداقة إلى عداوة، وأنا لا أزال في حاجة إليهم، وفي صداقتهم نفع لي.
– وأي حاجة لك معهم ولا شغل لهم إلا السكر والقمار؟
– لولا سكرهم وقمارهم لكنت في غنى عنهم؛ لأنهم وهم يبذرقون يضطرون إلى الاستدانة تارة والبيع من أملاكهم أخرى، وفي كلتا الحالتين يحتاجون إلى سمسار يتوسط بينهم وبين الدائن أو الشاري، فأنا هو ذلك السمسار.
فاختلج يوسف وقال ممتعضًا: لا أريد لك هذه الوظيفة يا مسيو جورجي.
فاستغرب جورجي آجيوس وقال: عجبًا لماذا؟ أعظم الدول إذا رامت أن تعقد قرضًا أجنبيًّا وسطت سماسرة في الأمر، فالسمسرة ليست حرفة حقيرة أو دنيئة.
وهنا كانا قد وصلا إلى قهوة الشيشة، فجلسا وقال يوسف: ولكن سمسرتك لأولئك الأغرار غير شريفة، فكأنك تتوسط لهم في خرابهم، فلا أريدك وسيلة إلا للخير.
فضحك جورجي آجيوس وقال: إذا لم أتوسط أنا لهم فيتوسط غيري، وامتناعي أنا وغيري عن الوساطة بينهم لا يقيهم من الدمار؛ لأنهم قد تدمروا من قبل ونحن نساوم الآن على الأنقاض.
– عجبًا ألا يخطر لهؤلاء أن ثروتهم قد تفرغ قبل أن تفرغ أعمارهم.
– كلا؛ لأن أعمارهم فرغت قبل أن فرغت ثرواتهم فهم الآن موتى، وما حاجة الميت إلى الثروة؟
فأعجب يوسف من أجوبة جورجي أي إعجاب، وقال: وهل يعلم هؤلاء المساكين أنهم موتى؟
– ومتى كان الموتى يحسون حتى يعلموا؟
– إذا كانوا يحيون يعلمون، أفليس في وسعك إحياؤهم؟
– لم أوتَ قوة عمل المعجزات.
– لا أنكر أن الأمر صعب يا مسيو جورجي ولكنه ممكن جدًّا، ألا تعتقد أنك أنت كنت ميتًا فحييت؟
فابتسم جورجي وقال: نعم، وقد فعلت أنت المعجزة بإحيائي يا يوسف، ولك عليَّ …
– لا تقل شيئًا؛ إذ لم أفعل أمرًا سوى أني كنت واسطة لتنبيه القوة الحية الكامنة فيك، فهي كالماء المحبوس في الحوض وأنا قد فتحت «الحنفية» فتدفَّق الماء، وأنت تستطيع أن تفعل هذه المعجزة لأصحابك إذا كنت تشاء أن يحيوا.
– أشاء ولكن ما قولك إذا كان حوض حياتهم قد نضب، وقد فتح «الحنفية» قبلي كثيرون فلم تقطر قطرة حياة.
– جرب فتحها أنت فلعل غيرك لم يهتد إلى أسلوب فتحها الصائب، وإذا مهدت لي السبيل فأساعدك في ذلك.
فنهل جورجي نهلة عميقة من «الشيشة» ونفخ غيمة من دخانها ثم قال: عبثًا يا صديق عبثًا تهتم في الأمر، ولا أدري لماذا تهتم بإحياء الموتى والدنيا تكاد تضيق بالأحياء، أما كفانا ما حولنا من الأحياء الذين يكافحوننا ونكافحهم حتى نحيي أمواتًا لنزيد عدد المتكافحين في الدنيا؟! فدع الموتى في قبورهم.
– لو كانوا موتى الجسد لتركناهم في قبورهم طبعًا، ولكنهم موتى النفس فلنحيِ أنفسهم لنزيد جيش الخير قوة وإلا بقوا من جنود الشر، والقوة المالية التي لهم تقدرهم على التخريب والتدمير في بناء الهيئة الاجتماعية. ألا تراهم يبذلون هذه القوة على إحياء محالِّ القمار والحانات والملاهي، وأماكن الفجور، فكأنهم ينفقون مالهم في صنع الأسلحة لتسليح الشيطان الرجيم، فإذا استطعنا أن نستميلهم إلى جانب جنود الخير قوينا عوامل البناء في الهيئة الاجتماعية.
– إنهم موتى يا يوسف، موتى ولا جرثومة حياة فيهم، فلا تتعب نفسك في إحيائهم، بل دعهم يتمادون في فنائهم لكي تتحول هذه القوة المالية التي عندهم لغيرهم من العامة، الذين هم أحق بها منهم، فإذا أحيينا أنفسهم وتابوا عن الملاهي والحانات وأندية القمار، بقيت فلوسهم محبوسة في خزائنهم، فدعهم في غيهم يعمهون، دعهم يسكرون ويقامرون لكي تتدفق تلك الأموال إلى السوق فيذهب هذا السلاح من أيدي الأشرار إلى أيدي الأخيار.
فتنهد يوسف وقال: آه لو صح ما تقول، ولكن هذا السلاح يتحول من أشرار إلى من هم أشرُّ، يتحول من السكيرين إلى بائعي المسكرات، ومن الفاسقين إلى تجار الأعراض، ومن المقامرين إلى ناصبي أحابيل القمار.
عند ذلك دخل رجل حسن البزَّة، وأومأ إلى جورجي أن يتبعه، فخرج جورجي من القهوة إليه وتهامسا قليلًا أمام الباب، ثم تركه ذاك ومضى، وكان يوسف متشوفًا إلى الخارج فرأى ذلك الرجل يعود إلى مركبة تنتظره في الشارع، ثم لمح في المركبة سيدتين وفي الحال عرف هيفاء إحداهما، ووقعت عينه على عينها، أما أمها فكان نظرها يتبع ذلك الرجل حتى ركب معهما.