مصير الفيلسوف
في ذلك المساء كان الدكتور صديق هيزلي مجتمعًا بليلى في منزلها منفردين، إذ كان أبوها لاهيًا بأموره وأخوها غائبًا.
فقال لها صديق: هل رأيتِ الذي يبيع السكاير في تلك الدكانة الصغيرة؟ وهل عرفته؟
فامتعضت ليلى قائلة: رأيته وعرفته فماذا؟
– وددت أن تري هذا الفيلسوف الذي تعجبين بعمله وفلسفته، وتعلمي ماذا يكون مصيره.
– إذن أنت تعمدت المرور بنا من هناك لكي تريني …
– نعم؛ لكي أريك يوسف براق خادمًا في دكان سكاير، وربما رأيته غدًا في حانوت بدال، وبعد غد يمسح الأحذية.
– لا أدري لماذا تود أن تريني كل ذلك.
– لكي تعلمي مصير الفلسفة والفلاسفة.
– ولكن هذا مصير لا يحط من قدر العلم والمعرفة، فهل تنكر أن هذا الفتى نابغة في ذكائه ومعرفته؟
– قد يكون كما تقولين، ولكن هل تعلمين ماذا يقول الناس عنه؟
– كلا، لا أود أن أعلم.
– يقولون: إنه مجنون.
– قد يكون الناس صادقين؛ لأن بعض ضروب الجنون إغراق في الذكاء، وهو خير من الإغراق في البله.
فضحك صديق، وقال: فليأكل علمًا ويشرب معرفةً، ويلبس ذكاءً، ويسكن مستشفى المجانين.
فابتسمت ليلى قائلة: لو كان كما تقول ما كان يشتغل ليعيش من تعبه.
– وهل يليق بالفيلسوف أن يكون خادمًا في حانوت سكاير حقير؟
– ليست الخدمة مهما كان نوعها لتشين الفيلسوف، وما نشأ النوابغ إلا من الطبقات الوضيعة.
– نعم، ولكنهم كانوا يصعدون، وأما فيلسوفك فينزل تدريجًا، كان أولًا كاتبًا في بنك فما لبث أن طرد منه طردًا لسخافة عقله، وانتفاخ أوهامه، ثم تعين في مصلحة التنظيم في وظيفة حسنة، فما لبث أن عزل لهفوة نجمت عن جهله أحوال العالم، وحرم بسببها التوظف في دوائر الحكومة، ثم طاف بجميع الدوائر المالية وغيرها فلم تشفع فيه فلسفته، بل كانت الأبواب مفتوحة لغيره تقفل في وجهه؛ لأن كل ملمحة من ملامحه تعرب عن جنونه، وبعد قليل يكتشف صاحب دكانة السكاير جنونه فيطرده، ومتى أقفلت في وجهه أبواب الرزق يلجأ إلى مستشفى المجانين، الذي هو نهاية مصيره لا محالة، ولو كان نابغة كما تزعمين ما نبذته أوروبا، التي هي أرحب مضمار لتسابق النوابغ.
فهزت ليلى كتفيها قائلة: يعرف شأنه.
– بالطبع يعرف شأنه؛ ولكني وددت أن أعلمك حقيقة فيلسوفك الذي تطنبين بمقالته، وما هي إلا كلام لا وزن له كوزن أثيره.
فضحكت ليلى، وقالت: وتريد أيضًا أن تمحق علمه وفضائله كما تمحق مستقبله.
– وتقولين: فضائله أيضًا؟
– نعم؛ فإن مبادئه العلمية والفلسفية هي أم الفضيلة.
فقهقه صديق، وقال: إنك مغرورة جدًّا، بل مخدوعة بعلمه ومعارفه؛ فهي لم تثمر إلا الرذائل.
فعبست ليلى قائلة: لا تنم بالرجل وهو غائب.
– ليته حاضر الآن فأستجوبه عن سيرته أمامك، ومهما بالغ في الإنكار تنفضح منكراته.
– يا لله! تعزو للرجل منكرات أيضًا!
– إذا كان قد اختطف الفتاة هيفاء التي كانت خادمة عندك، واحتظاها في مكان مجهول، وأهلها يبحثون عنها، وهو ينكر علاقته بها، أفلا تعدين هذا منكرًا؟
فانتفضت ليلى وامتقع وجهها، وبقيت صامتة هنيهة ثم قالت: إنك تمين الآن يا صديق.
فضحك صديق وقال: إن كنت أمين فسينفضح ميني، وإذا شئتِ أن تتحققي صحة قولي فابحثي عن الفتاة، فإذا وجدتها كان لك من أهلها الجزاء.
– إذا كانت الفتاة مختفية من وجه أهلها؛ فلأن أمها تريد أن تزوجها ممن لا تريده زوجًا؛ ولهذا فرت من عند أمها وخدمت عندي، وهي — والحق يقال — أنبل من أن تكون خادمة.
– لماذا لم تبق خادمة عندك؟
– لعلها علمت أن أمها أوشكت أن تهتدي إليها ففرت إلى مكان آخر؛ حيث تبالغ بالتخفي.
– نعم، تبالغ بالتخفي؛ لأنها تستحي أن تقول لك: إنها خليلة يوسف براق.
فانتفضت ليلى، وقالت: متى عرفته وعرفها حتى يكونا خليلين؟
– عرفته وعرفها قبل أن تعرفيها، والحب بينهما ليس جديدًا؛ فقد كانا جارين يتغازلان من شباكيهما.
فازداد وجه ليلى امتقاعًا، وبعد هنيهة قالت: كيف عرفت كل ذلك؟
– عرفته من كثيرين، وأخصهم صديقه جورجي آجيوس الرومي، هل اقتنعت أن فلسفة فيلسوفك لا تثمر فضيلة؟
– ماذا يهمني وماذا يهمك؟
– أود أن لا يهمك أمر هذا المجنون السافل، ولكن يسوءني أن تصرفي قلبك عني إليه إذا لم يكن لأجل نفسك فلأجل نفسي.
– لأجل نفسك؟
– نعم، وهل تجهلين حبي لك يا ليلى؟
فبقيت صامتة إلى أن قال: أود أن تفكري يا ليلى عسى أن تري خطأك، واغترارك بما تتوهمينه من محاسن هذا الفتى، تصوري ماذا يقول عنك الناس إذا …
– إذا ماذا؟
– لا أود أن أمدح نفسي؛ ولا سيما لأنك تعرفينني معرفة القريبة للقريب، فماذا تريدين أن يكون من تبتغينه زوجًا؟ أعالمًا؟ فلا أظن أن علم الطب وما يتصل به من العلوم أمر يخلو من الفخر، أديبًا فاضلًا؟ أنت تعرفين سيرتي ومكانتي بين الناس، غنيًّا؟ إني أغنى مما تتصورين فإذا صرتِ ربة بيتي كنت ملكة في مملكة واسعة، تحف بك بطانة كبطانة الملكات، تسكنين قصرًا، ترفلين بالدمقس، تتحلين بأثمن الجواهر، تتزاورين مع الأميرات، فبماذا تطمعين بعد؟
– لا أطمع بشيء من ذلك.
– إذن ما هي أمنيتك؟
– أمنيتي أن أكون سعيدة النفس.
– أجعلكِ سعيدة النفس كما ترومين.
فبقيت ليلى صامتة إلى أن قال: هل حاسبت ضميرك؟
– حاسبته من زمان.
– وماذا تقولين الآن بعد اطلاعك على هذه الحقائق؟
– اعتبرني غير موجودة وافعل ما يروق لك.
فجحظت عينا صديق وقال: يا للعناد! إنك لغبية لا تعرفين مصلحتك، ولا ترين خطأك حتى تتألمين من ويله.
– لا تشفق عليَّ.
– لا أستطيع أن أقسو يا ليلى؛ لأني أحبك فوق كل حب.
– أتأسف أن هذا الحب ضائع بي، فليتك تحوله إلى فتاة تكون أكثر ألفة بك مني.
– إذن لا ألفة إلا بينك وبين الفيلسوف.
– دعني وشأني ولا تزعج نفسي.
وبعد سكوت هنيهة قال صديق: إني أتركك الآن؛ لئلا تتمادي في عنادك، فلعلك متى فكرتِ تعودين إلى صوابكِ.
فقالت وهي في ملء الكآبة: اتركني اتركني.
فنهض صديق وتناول يدها وهمَّ أن يقبلها فاختطفت يدها من يده مكتفية بالمصافحة، فخرج بين يأس وأمل.