ملتقى الأسرار
خرج جورجي وهو يقول في نفسه: إذا لم تكن لهؤلاء الأشرار حاجة بي بعد، فلعل للبطركخانة حاجة بي، وما دمت مستودع أسرار، فلماذا لا أبيع أسراري بثمن؟
وما مالت الشمس إلى المغيب حتى كان جورجي في حضرة الأب أمبروسيوس في البطركخانة، فقال له الأب: قال لي غبطة البطريرك إنك تعرف شيئًا عن الفتاة التي نبحث عنها.
– بل أعرف أشياء.
– إني أمتن لك كثيرًا إذا قلت لي ما تعرف.
– لا تؤاخذني يا أبانا إذا قلت لك: إن لكل شيء ثمنًا.
فأحجم الأب أمبروسيوس قائلًا: نعم لخدمة الإنسانية ثمن عظيم يا ابني وهو ملكوت السماوات.
– ولكننا لا نستطيع يا أبانا أن نبلغ ملكوت السماء قبل أن نمر في ملكوت الأرض، ولا نقدر أن نمر فيه بلا أكل وشرب وملبس ومأوى.
ففكر الكاهن هنيهة ثم قال: لا أقدر أن أدفع لك شيئًا يا ابني؛ لأن الخدمة ليست لي بل للفتاة، فمتى قضيت الخدمة لها تدفع هي لك وأنا أتعهد لك أني أقنعها بالدفع.
– كم تدفع؟
– لا أدري ولكنها قد تدفع كثيرًا.
– ولكني لا أستطيع أن أقبل وعدًا مبهمًا.
– إذن دع معرفتك لك يا ابني؛ لأنه ليس في وسعي أن أفعل أكثر مما أقول.
ففكر جورجي هنيهة وقال: لا بأس، إني أثق بوعدك يا أبانا، فماذا تريد أن تعرف عن الفتاة؟
– أين هي؟
– كانت مختفية، ومنذ ظهر اليوم أصبحت في منزل أمها.
– من هي أمها؟
– نديمة الصارم، ألا تعلم ذلك؟
– نديمة الصارم؟ وهل أنت واثق أنها أمها؟
– يقال: إنها أمها ويقال أيضًا: إنها خالتها.
– وهل تعرف شيئًا من تاريخ هذه المرأة؟
– لا، ولكن لماذا هذه الأسئلة وهي خارجة عن الموضوع؟
– لأني أود أن أعلم إن كانت هذه الفتاة هي نفس الفتاة التي نبحث عنها.
– إذا قلت لي شيئًا عن الفتاة التي تبحث عنها، فقد أقدر أن أفيدك إن كانت إياها.
– الفتاة التي أبحث عنها بلا أم وقد ماتت أمها وهي طفلة، فربتها خالتها ولكن خالتها لا تدعى نديمة الصارم.
– إذن ماذا تدعى؟
– تدعى ندرة الزعفران.
فاختلج جورجي قليلًا وقال: واسم أم الفتاة؟
– حنة الزعفران.
– فانتفض جورجي وخفق فؤادهُ وتلهب وجهه، فقال له الأب أمبروسيوس: أراك تتغير لونًا، فماذا؟
فأمسك جورجي عواطفه وقال: أظنني أعرف تاريخ هذه المرأة، هل كانت أم الفتاة هنا في مصر؟
– لا ولا تعرف مصر بل كانت في سوريا وماتت فيها، ولكن أختها ندرة كانت في مصر، ثم عادت إلى سوريا وربت الفتاة هناك، وأخيرًا جاءت بها إلى مصر.
– وأظنها كانت قبلًا هنا تسير سيرة سيئة.
– نعم، هل كنت تعرفها في ذلك الحين؟
– لا وإنما كنت أعرف عنها أنها كانت خليلة رجل هنا على ما قيل لي.
– ولكن نود أن نتحقق إن كانت هي ندرة الزعفران نفسها.
– أما هي أخت حنة؟
– نعم، فهل تعرف حنة؟
– أظن أني أعرفها، وأتأكد إذا قلت لي زوجة من كانت حنة؟
فتردد القسيس، وقال: أراك أنت تستعلم مني لا أنا أستعلم منك.
– الغرض أننا نتعاون في التحقيق يا أبانا، هل كان اسم زوجها خليلًا؟
– نعم خليل، أراك تعرف شيئًا، فهل تعرف زوجها خليلًا؟
– إذن لم أكن غلطانًا فهو ذو لقب أمير، أليس هو الأمير خليل الخزامي؟
– هو هو بعينه يا ابني، فكيف تبرهن أن نديمة هذه هي ندرة نفسها؟
– أؤكد أنها هي؛ لأني أعرف أختها حنة في سوريا نفسها، إذ قضيت مدة هناك، وكنت أسمع أن لها أختًا في مصر سيئة السلوك.
– ولكن هذا لا يكفي برهانًا على أنها هي، فقد تكون امرأة أخرى والفتاة فتاة أخرى، وهذا ما نود أن نتحققه ونتأكده، فهل كنت تسمع أن لأخت حنة أي لندرة اسمًا آخر في مصر غير اسمها؟
– لم أعلم شيئًا من ذلك، ولكن دعنا نتوسع في التفاهم، هل تعرف إن كانت للفتاة قريب غني هنا؟
– لا، لماذا تسأل هذا السؤال؟
– لأني فهمت أن الذي تبتغي خالتها أن تزوجها إياه هو قريبها، فهل تعرف أقرباء الفتاة كلهم؟
– أعرفهم كلهم، وكلهم في دمشق إلا أحد ابني عمها فهو في أميركا.
فاختلج جورجي وقال: وهل أنت واثق أنه لا يزال في أميركا؟
– كلا، لا أدري.
– أما سمعت أنه جاء إلى مصر؟
– كلا البتة ولعله جاء إلى مصر سرًّا.
– هل من داعٍ لإتيانه سرًّا؟
– نعم هناك داع كبير فهو قد هرب من سوريا هربًا إلى أميركا، ولا يحسن العمل في أميركا كسائر المهاجرين السوريين، فلا يبعد أن يكون قد جاء إلى مصر، فما هو اسم الرجل الذي يريد أن يتزوج الفتاة؟
– يسمي نفسه فهيم بك رماح، ولكن لا عبرة بالاسم، فقد يكون الرجل متنكرًا باسم آخر إذا صح ظننا.
– كيف تصفه؟
– ولا عبرة بالوصف؛ لأنه يقدر أن يغير شكله، فهو الآن ذو لحية صغيرة مستدقة إلى أسفل، ويلبس قبعة سوداء ونظارة، ويدعي أنه جاء ببعض الثروة من أميركا، واشتغل هنا بمضاربات الأطيان فربح ربحًا جزيلًا، ولكن قد يكون كاذبًا بدعاويه حتى بلحيته وقبَّعته ونظارته، فلماذا هرب هربًا؟
– كان يشتغل في سياسة البلاد ويطلب بعض المناصب، ولا يخفى عليك أن الذي يشتغل في السياسة في سوريا يكون أعداؤه أكثر من أصدقائه، أما صاحبنا فكان أعداؤه من ذوي النفوذ في الآستانة، فنصبوا له مكيدة هائلة كادت تؤدي به إلى البوسفور لولا أن هرب، فقد وشوا به أنه من رجال تركيا الفتاة. والذي تقع عليه هذه الشبهة في تركيا لا يكون نصيبه إلا الهلاك، إذا وقع في يد الحكومة.
– ولكن لنفرض أن المسمى هنا فهيم رمَّاح هو ذلك الرجل … لم تقل لي ما اسمه يا أبانا؟
– اسمه الأمير سليمان الخزامي.
– لنفرض أن الأمير سليمان هو فهيم رماح، فلماذا يتنكر في مصر وهو في مأمن من الحكومة العثمانية؟
– هذا ما أعترض به على افتراضك.
– ألا تظن أن هناك داعيًا آخر لتنكره؟
– لا يخطر لي داع آخر إلا أنه لا يريد أن يتظاهر قريبًا لأهله؛ لئلا تضايقهم الحكومة بسببه؛ لأنهم قاسوا بسببه في أول الأمر اضطهادًا لا يطاق، فكان أخوه وأبوه يتبرآن منه، ويدَّعيان أنهما قاطعاه تمام المقاطعة، ولكني أرجح أنهما كانا يرسلان إليه الأموال بالآلاف سرًّا، وقد باعا قسمًا كبيرًا من الثروة الطائلة.
– إن هذا السبب الذي تظنه ظنًّا يا أبانا لهو سبب وجيه، ولا يبعد أن يكون الأمير سليمان قد جاء إلى مصر رأسًا متنكرًا، أو جاءها بعد أن قضى مدةً قصيرة في أميركا، وأخوه وأبوه يحولان الثروة إلى مصر تدريجًا؛ لأن فهيم رماح هذا الذي نفرض أنه هو الأمير سليمان الخزامي قد جمع ثروة طائلة في مدة قصيرة هنا، فلا يعقل أنه يستطيع جمعها في هذه المدة، وهو رجل غريب البلاد.
– إن تعليلك في محله يا ابني، ولكن لا بد من البحث والتحقيق حتى إذا ثبت أن هذا هو الأمير سليمان، وثبت أن الفتاة قريبته، فلا يبقى شك بأن الفتاة هي من نبحث عنها.
– أما إنها قريبته فأمر أرجحه؛ لأني علمت أنه يبتغي الزواج منها مهما تكلف لأجله؛ لأنه علم سرًّا أن للفتاة ميراثًا كبيرًا لم تدر هي به بعد.
فاختلج الكاهن وحملق بجورجي قائلًا: لم يبقَ عندي شك بأنه هو الأمير سليمان، ولكن كيف عرف بأمر ميراث الفتاة؟
– يقال: إنه وردت له كتابة سرية بذلك من أخيه أو أحد معارفه.
– عجيب كيف عرف أخوه بذلك؟ لعل الشهود على الوصية أفشوا سرَّها.
– إذن في الأمر وصية من أبي الفتاة؟
– كلا؛ لأن أباها مات قبل أن يدري هل له ابنة.
– كيف ذلك؟
– لأبيها قصة طويلة لا محل لسردها الآن.
– قل لي بالاختصار يا أبانا؛ لأن معرفة هذه الأمور ضرورية للتحقيق.
– مسكين أبوها فقد قاسى اضطهادًا لا يطاق من مكايد زوجة أبيه وأخيه ابنها، وآخر المكايد اضطرته أن يهرب إلى بلاد اليونان، وهناك تطوع في الجيش اليوناني، وقتل في حرب الدولة العلية مع اليونان، وكانت زوجته حاملًا حين هرب، ولما كانت زوجة أبيه تضطهدها رحلت حاملًا إلى بيت أهلها في قضاء البترون، وهناك ولدت الفتاة ولم يعد يعلم أحد ماذا حل بها بعد ذلك.
وكان جورجي يبالغ في كتمان عواطفه ليخفي حقيقته، فقال: أولم يكن لها أولاد آخرون؟
– كان لها صبي وكان جده يبعده في المدارس؛ لينجو من اضطهاد زوجته، ولكنه لم ينج من كيدها، فنصبت له مكيدة هرب بسببها إلى أوروبا، وبعد ذلك أهمله عمه بالرغم من تساؤل جده عنه فاختفى خبره، رحمة الله على الأمير خليل فقد قاسى هو وذريته من جور تلك الداهية ما لم يقاسه أيوب الصديق.
وكان جورجي يزمهرُّ والعرق ينضح من جبينه وهو يمسحه، فقال له الكاهن: ما رويت هذه القصة لأحد إلا تأثر منها، فلا أستغرب تأثرك يا ابني.
– إذن الوصية التي ذكرتها لي من …
– من جد الفتاة، فإن ما قاساه من سوء سلوك ابنه الأمير إبراهيم وحفيديه فضل وسليمان، حمله على أن يوصي بثروته لحفيدته التي نبحث عنها الآن ولأخيها إن ظهر في الوجود، وقد كلفني أن أنفذ الوصية بعد موته؛ لأنه كتمها خوفًا من اضطهاد ابنه له، وأوصاني ألا أظهر الوصية حتى أجد الفتاة، وقد مات الأمير منذ مدة؛ ولهذا تراني الآن أبحث عن الفتاة، وقد سقتني في الحديث إلى إفشاء هذا السر لك؛ لأني توسمت فيك معينًا قديرًا في البحث، فأرجو منك …
– كتمان السر، إني أكتمه يا أبانا، أكتمه حتى بعد ظهور الحقيقة؛ لأني تأثرت جدًّا لهذه القصة الغريبة فاتكل علي في تحقيق أمر الفتاة، كن مطمئنًّا، لقد اهتدينا إليها وسنخلصها من مخالب الذئاب.
– هل علمت لماذا هربت بها خالتها إلى هنا؟
– علمت علمت، علمت أنها ربتها لتقدمها ضحية لصنم الرذائل والشهوات، وقد وجدت هذا الصنم وهي تنوي أن تزوجها منه.
– إذا كان الأمر كذلك ﻓ …
– فماذا؟
– من يستطيع منع هذا الزواج؟
– أنا.
– لماذا؟
– لأن الفتاة لا تريد رجلًا يجعلها رابعة خليلاته.
– نعوذ بالله.
– اعذرني الآن يا أبتاه، فإني مضطر أن أفارقك في الحال، ولا تتعب نفسك بعد الآن، فإن الفتاة ستكون بين يديك محمية من الغادرين.