ابن الطبيعة
عند ذلك تنهد جورجي، وقال: من لقنك هذا اللاهوت يا يوسف؟
– مدرسي لقنني.
– وماذا تلقنت من أبويك؟
– ليس لي أبوان.
– إذن من ولدك؟
– الطبيعة، فأنا ابن القوة والمادة.
– أين ربيت؟
– في العالم العقلي.
– أين قطنت؟
– في دار الخيال.
– أرجو أن تخرج إلى عالم المادة وتخاطبني، فقل متى جئت إلى مصر؟
– منذ بضعة أسابيع.
– أين كنت قبلًا؟
– في أوروبا.
– وقبل أوروبا؟
– في القارة الغارقة في الأوقيانوس.
– أي أوقيانوس؟
– أوقيانوس الجهل.
– في أي قطر من أقطار تلك القارة؟
– في قطر العبيد والإماء.
– العبيد والإماء؟
– نعم، عبيد السلطة المطلقة المستبدة.
– تعددت السلطات المطلقة في تلك القارة، فأيها تعني؟
– أعني السلطة التي صبغ شعارها بالدم، السلطة التي تفرق العناصر ضاربة بعضها ببعض.
– في أي عنصر كنت؟
– في العنصر الذي لم تكن المعرفة إلا سلاحًا ينتحر به، في عنصر الدسائس، في عنصر معكوس التركيب يقوى مشتتًا ويضعف متجمعًا.
– لماذا تركته؟
– لم أتركه بل نبذني؛ لأني غريب عن مادته.
– إنك تزيد بيانك إبهامًا بهذه الكنايات، فلماذا لا تسميه باسمه؟
– لأني أرتعد غضبًا إذا سميته.
– هل العنصر كله نبذك؟
– كلا.
– إذن أتنقم على العنصر بجريرة ذرة من مادته؟
– نعم؛ لأن العنصر الذي تتنافر أجزاؤه، وتتقاتل كريات دمائه وتتهالك حتى جواهره الفردة لا أستطيع الالتئام به.
– منذ متى انتبذت منه؟
– منذ صحوت من سبات الصبا.
– ألم يعد يجتذبك إليه؟
– بل أنكرني.
– أود مزيد إفصاح يا يوسف، هل لك أقارب في سوريا؟
فانتفض يوسف قائلًا: لا تروعني بهذا الاسم.
– لا ترتع فنحن بعيدان عنه الآن، فقل لي أين أهلك الماديون؟
– هناك.
– من هم؟
– جد وزوجة جد وعم وأبناء عم.
– تقول: زوجة جد؟ أما هي جدة؟
– كلا، بل هي جدة أولاد عمي فقط.
– وأبوك؟
– لم يبق لي أب.
– وأمك؟
– ولم يبق لي أم.
– إخوة … أخوات؟
– لا إخوة ولا أخوات.
– ألم يزل أقاربك الذين ذكرتهم أحياء؟
– لا أدري، ولا أريد أن أدري.
– عجيب هذا النفور ودمك من دمهم.
– ليس عجيبًا؛ ففي الطبيعة كثير من ذلك، الزيت والماء تكونا في حبة الزيتون، فمتى ولدتهما تنافرا؛ لأنهما يختلفان طبيعة مع أنهما توأمان.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: من أي طبيعة أبوك وأمك؟
– من طبيعتي المنبوذة.
– لو بقيا حيين.
– لكنت وإياهما ثالوثًا متحدًا.
فتدفق الدمع من عيني جورجي قائلًا: لا أدري يا يوسف ما هي طبيعة أبيك الجديد من طبيعة أبيك القديم.
– أشعر بألفة بينهما.
– يا لله هل نسيت السجن؟
– لن أنساه.
فأجهش جورجي في البكاء قائلًا: هل فعل بك أقاربك أشر مما فعلت أنا بك؟
– لا يهمني ماذا يفعل غيري بي؛ لأن الفعل بي مهما كان نوعه لا يتجاوز المادة المتغيرة، ولا يبلغ إلى القوة الخالدة.
– إذن ماذا يهمك؟
– يهمني ماذا أفعل بغيري.
– ماذا فعلت بأقاربك؟
– لم أستطع أن أفعل شيئًا، فإذا وعظتهم كنت كناطح صخرة يكسر قرنيه والصخرة ثابتة.
– وماذا فعلتَ بي؟
– جعلت منك أبًا حنونًا.
– وسعيدًا يا يوسف، فدعني أقبلك ثانية.
وتعانق الأب والابن عناقًا قد يفهمه القارئ، ولا يقدر أن يصوره الكاتب.