نشوة الغرور
في الساعة الثالثة من اليوم التالي كان يوسف براق في حضرة مدير البنك الأميركاني، فقال له المدير: إذا صدق ما كتبته في عريضتك كان لك عندنا وظيفة، فهل أنت مستعد للامتحان؟
– إذا شئت فتفضل به الآن.
فاستدعى المدير رجلًا كهلًا، وقال له: أود أن تمتحن هذا الفتى بالترجمة من اللغات الثلاث وإليها.
فتبع يوسف ذلك الرجل الكهل إلى مكتبه، وبعد أن تخاطبا باللغتين الإنكليزية والفرنساوية، دفع إليه الرجل ورقة مكتوبة بالإنكليزية، وقال: هذه رسالة كتبتها الآن إلى أحد العملاء، فأود منك أن تترجمها إلى الإفرنسية والعربية، وهذه رسالة أخرى بالعربية أود أن تترجمها إلى الإنكليزية والفرنساوية.
فقرأ يوسف الرسالتين ثم تناول ورقة، وبعد أن كتب قليلًا طوى الورقة ووضعها في ظرف، وختمه ودفعه إلى ذلك الرجل قائلًا: أود أن تأمر بإرسال هذا الظرف إلى جناب المدير.
فاستغرب الرجل تصرف الفتى، وقال: هل أنجزت الترجمات بهذه السرعة؟
وهمَّ الرجل أن يفض الظرف فأمسك يوسف يده، وقال: لا تفضه يا سيدي فهو معنون باسم المدير شخصيًّا.
مولاي جناب المدير
أرجو أن تعين لامتحاني موظفًا أكثر معرفة مني، واقبل فائق احترامي.
فابتسم المدير واستدعى يوسف إليه، وقال له: لماذا فعلت هكذا؟ أما شعرت أنك تهين من وليته أمر امتحانك؟
– ربما شعرت الآن بذلك، وشعرت أيضًا أن هذا الامتحان إهانة لي أعظم من إهانة ممتحني؛ لأن الأمر بيني وبينك الآن والرجل لا يدري ماذا جرى؛ فأرجو أن تمتحنني أنت أو أن تعين لامتحاني شخصًا آخر أوسع علمًا منه.
– ليس عندنا أوسع علمًا منه، والوظائف التي عندنا لا تحتاج إلى معرفة أوفر من معرفته.
– إذن أرجو أن تقبلني بلا امتحان، وتجربني في العمل شهرًا أو أسبوعًا أو يومًا، فإذا لم تقنع بأهليتي فاصرفني خائبًا.
وكان المدير يعجب بكلامه بالإنكليزية، فسأله بالإفرنسية: هل تعرف العربية كالإنكليزية؟ فأجابه بالإفرنسية أيضًا: هي لغة أبي وأمي يا سيدي، وقد درست نحوها وبيانها في أشهر مدارس سوريا، وكتبت بها مقالات في بعض المجلات العربية.
وكان إعجاب المدير بكلامه بالإفرنسية أشد منه بكلامه بالإنكليزية، فقال له: إذن تعال غدًا واشتغل، مهلًا …
ثم ضغط المدير على زر، فجاءه خادم فقال: استدع المسيو سرار إلى هنا.
وفي لحظة حضر المسيو سرار، فقال له المدير: بعد غد الاثنين يأتي المسيو يوسف براق هذا إلى مكتبك، فاشغله بأي ترجمة تريدها.
وقبل أن ينصرف يوسف قال للمدير: أود يا سيدي أن أعلم درجة الوظيفة، التي تعينني بها إذا كنت راضيًا كل الرضا عن عملي.
ففكر المدير هنيهة ثم قال: ليس عندنا الآن وظائف بماهية أكثر من ٨ جنيهات في الشهر.
– وهب أني برهنت بالفعل على أني أهل لأن أشغل وظيفة عالية جدًّا …
– لا أقدر أن أبحث معك الآن بذلك، فإذا شئت أن تشتغل كما اتفقنا، فتعال غدًا وإلا فأنت وشأنك.
واستأنف المدير النظر في أوراقه.
– إني آتٍ غدًا يا سيدي.
ثم ودعه وانصرف متغيظًا، وهو يقول في نفسه: الناس هم هم في كل مكان، وليس من يميز بين الغث والسمين، وإذا كان ذلك الرجل الكهل أوفر موظفي هذا البنك علمًا، أو ليس بينهم أعلم منه، فلا ريب أن أترقى سريعًا، وأكون في عهد قصير ثاني المدير. فلأطاوع هؤلاء الأغبياء صابرًا إلى أن تتبرهن لهم أهليتي.
أما ذلك الرجل الكهل، فهو بولس المراني عم نجيب المراني، وقد شغلت باله الرسالة التي قدمها يوسف إلى مدير البنك، وكانت وسيلة للتفاهم بينهما، وعقد النية على أن يطلع عليها ولو خلسة، فتلاهى في مكتبه حتى انصرف المدير من البنك، ودخل إلى مكتبه وبحث عن الرسالة طويلًا، فوجدها في سلة الأوراق المهملة ممزقة بعض التمزق، فجمع أجزاءها ورتبها، ولما اطلع عليها كانت له ابتسامة لو رآها يوسف لندم على ما فعل.