قصور في الهواء
في صباح اليوم التالي كان الدكتور صديق هيزلي مختليًا بليلى في غرفة المقابلة، وقد ساقهما الحديث إلى الخطاب التالي …
قال صديق: يلوح لي أنك تعتقدين أن السعادة قائمة باللذة النفسية وحدها، وأن لذة النفس مقصورة على إحراز المعرفة والعلم.
– نعم، وهل تنكر أن هذه اللذة هي أعظم اللذات؟
– لا أنكر، ولكني أعتقد أيضًا أن النفس وهي مقيمة في الجسد تتألم أيضًا إذا تألم الجسد، فهل تسر نفسك وأنت جائعة أو عليلة؟
– لا، ولست أقول: إن لذة النفس تقضي بإهمال الجسد وتركه لآلام الجوع والبرد، بل يجب الاعتناء بالجسد ما دام غلافًا للنفس.
– إذن للجسد حقٌّ بنصيب من اللذة كحق النفس.
– بلا شك.
– ولا تنكرين الفرق بين العيشة القشفة وعيشة الرخاء.
– متى كنت أنكر الفرق بينهما؟ ولكني أقول: إن لذة النفس أعظم وأهم وألزم من لذة الجسد.
– وأنا أقول كذلك أيضًا.
– وإذا خيرت بينهما؟
– أختارهما معًا.
– وإذا لم يصح لك إلا إحداهما؟
– لا أدري أيهما أختار، ولكني ما دمت أستطيع الحصول عليهما معًا فأختارهما معًا.
– طبعًا.
– حسنٌ، أنت حاصلة على لذة النفس بالعلم والأدب والفضيلة.
– أحمد الله على ذلك.
– فإذا حصلت على لذة الجسد أيضًا في العيشة الهنيئة، فهل تفقدين لذة النفس؟
– لماذا أفقدها؟
– وإذا تيسرت لك هذه اللذة الجسدية بلا عناء ولا تكلف مشقة، فهل ترفضينها؟
– ما أنا مجنونة حتى أرفضها.
– ما قولك إذا وقعت في يدك مائة ألف جنيه بلا تعب ولا نصب، وكانت لك حلالًا؟!
– أستعين بها على لذة نفسي.
– حسنٌ جدًّا، أنا أضع في يدك الآن مائة ألف جنيه.
ثم تناول صديق من جيبه ورقة مطوية، وقال: في هذه الورقة مائة ألف جنيه لك.
– لا أعني أنك تقدم لي مائة ألف جنيه، وما خطر لي أنك تفعل ذلك؛ لأننا كنا نفرض فروضًا، ونضرب أمثالًا للاتفاق على حقيقة، فدع ورقتك معك.
– ليست ورقتي بل هي ورقتك، وما أنا أقدم لك من مالي بل أقدم لك مالك.
– لا أفهم، ماذا تقول؟
– طبعًا؛ لأنك لا تعلمين شيئًا عن نسبك.
– نسبي؟
– نعم نسبك، فهل تعلمين من هو أبوك الحقيقي؟
– لا أعرفه؛ لأني تيتمت طفلة، ولكن قيل لي: إنه كان يدعى حنا فرزدق.
– لم يكن في الوجود هذا الشخص، وإنما اختلق اختلاقًا للتمويه على حقيقة نسبك.
– وماذا تعرف عن حقيقة نسبي؟
– أعرف ما لا يعرفه أحد غيري الآن، وكان يعرفه اثنان قبلي وهما أمك وأبي.
وكانت ليلى تمتقع لحظة ثم يشرق محياها لحظة أخرى، فقالت: ما الذي تعرفه؟
– أعرف أنك ابنة غير شرعية لرجل كبير.
فاقشعرت ليلى وقالت: من هو هذا؟ وكيف تثبت هذا الزعم؟
– إذا أحببت أن تقرئي هذه الورقة ثم هذه أيضًا تفهمين كل شيء.
فتناولت ليلى الورقة من يده (وهي وصية خالها لابنه صديق)، وقرأت حكاية مولدها كما كتبها خالها أبو صديق؛ لكي يقرأها ابنه بعد موته، وكانت تقرأ مدهوشة متحيرة متلونة من شدة التأثرات المتضاربة.
ثم رفعت نظرها إلى صديق، وقالت: ما أدراني أن تكون هذه الورقة ملفقة؟
– لو كنت لا تعرفين خط أبي ولا تعتقدين أن أبي لا يكذب، ولا قصد له سوى الحرص على سعادتك لكان يحق لك أن توجسي وتسيئي الظن بهذه الورقة، وما قولك بهذه الوصية الناطقة (أي: وصية الأمير إبراهيم الخزامي لأمها)؟
فتناولت ليلى الورقة الثانية، وقرأتها مرتجفة اليد، وما انتهت منها حتى وقعت من يدها لشدة تأثرها، فتناولها صديق وطواها ووضعها مع الورقة الأخرى، ثم قال: هل وثقت الآن أنك وارثة ثروة لا تقدر بأقل من مائة ألف جنيه؟
– وأني ابنة أمير؟
– نعم، فما أنا متصدق عليك بمائة ألف جنيه بل أحفظها لك.
وكانت ليلى في بحران بل في ذهول برهة، ومن لا يكون كذلك إذا بوغت بما يقلب كيانه ويغير حسبانه؟! وبعد سكوت طويل والدكتور صديق جالس يتلاهى بسلسلة ساعته التفت إليها قائلًا: لقد حلمت قبلك يا ليلى حين فتحت وصية أبي، وأنا خالي الذهن من أقل حقيقة فيها، فلا ألومك إذا سبحت في عالم الخيال، ولكني أهنئك.
– بماذا تهنئني؟
– أهنئك بما تشعرين به من السعادة الآن.
– هل تظن أني أفتكر بسعادة أو شقاء الآن؟
– لا أقدر أن أظن غير ذلك، فإذا خاب ظني، فبماذا تفكرين؟
– أفكر في كيف أنتمي إلى أناس لا أعرفهم ولا يعرفونني، بل أنا غريبة عنهم.
– لا يهمك إلا أن تحصلي على حقك من الميراث، وإذا رام من تنتسبين إليهم أن تكوني صديقة لهم فدعيهم يتقربون منكِ.
وعادت ليلى إلى بحرانها، وبعد هنيهة استوقف صديق فكرها في مسبح تخيلاته بقوله: ما زلتِ تحلمين، أظنك تفكرين الآن بالبون الشاسع بين ماضيك ومستقبلك، فلا بد أن تكون كل أفكارك قد تغيرت في هذه الساعة، وأصبحتِ تبنين قصورًا وعلالي أخرى، ولكنك تبنينها على صخر لا في الهواء كما كنتِ تبنين قبلًا.
– إنك بعيد الظنون فما تغير في ضميري شيء.
فاختلج صديق لهذا الجواب، وشعر بنبل وقع في فؤاده، وبعد هنيهة قال: أظنك تريدين أن تبقي وحدك الآن يا ليلى فأتركك.
فنظرت إليه قائلة: أشكر شعورك، ولكنني لا أراك تترك هنا الورقة التي تخصني.
فتوقف صديق هنيهة ثم قال: سنعود ونتباحث بشأنها يا ليلى، ومتى تريدين أن أعود؟
– تعود متى شئت، ولكن الورقة تبقى هنا منذ الآن.
فضحك صديق، وقال: تبقى هنا منذ الآن إذا شئتِ، ولكن تحت شرط.
– لا أخضع لشرط.
فتغيظ صديق وتردد في مكانه، ثم عاد وجلس، وقال: اسمعي يا ليلى، لا أحد يعلم بهذه الوصية غيري وغيرك الآن، ولن يعرف بها أحد غيرنا إلا متى صرنا زوجين، وإن ذكرتها أنتِ لأحد أنكرها أنا بتاتًا.
فنظرت فيه ليلى غاضبةً ثم قالت: خذها فكأنها لم تكن، كنت في غنى عنها وسأبقى كذلك.
– إذن ظلي بانيةً قصورًا في الهواء واستثمري السعادة من الفلسفة، وخرج لا يلتفت.