الزلزال
وقد اعتاد جورجي أن يجتمع بيوسف في أماكن مختلفة، ففي ذلك النهار لم يصادفه، فقلق عليه وقصد إلى المنزل الذي يقطنه، فوجده مضجعًا في سريره فاشتد قلقه، وقال: ظننت أنك مريض يا بني لأني لم أرك قط، فهل استدعيت طبيبًا؟
– لا حيلة للطبيب يا أبتاه.
– لا تروعني، ممَّ تشكو؟
– أشكو من ألم لا يطاق.
– في رأسك أو …
– لا بل في نفسي، ليته ألم في جسدي فلا أعبأ به.
– ماذا ساءك؟
– هل قرأت جرائد الأمس؟
– يندر أن أقرأ الجرائد غير اليونانية، فماذا؟
– خذ اقرأ.
عقدت أمس خطبة حضرة النطاسي البارع والشاب الأديب النشيط الدكتور صديق هيزلي، على حضرة الآنسة المهذبة ليلى كريمة حضرة الفاضل الخواجه بطرس المراني، وكانت الحفلة … إلخ.
ففكر جورجي هنيهة وقال: لا تكن ضعيفًا يا بني … لأن الأزمة التي من هذا النوع مهما كانت شديدة، فإنما هي كالزلزال الذي تستقر الأرض بعده على حال.
– إنها لكذلك يا أبي، ولكن هل سهوت عن أن الزلزال يقلب كيان الأرض، فلا تبقى كما كانت؟
– لم أسهُ عن ذلك بل أعلم أن المتداعي من شوامخ الأرض يتساقط والراسخ يثبت، ولا يبقى ثمت من خطر تساقط البواذخ؛ ولهذا قلت: إن الأرض تستقر على حال بعد الزلزال.
– ولكن يلوح لي أنك لم تقدِّر معنى التزلزل، وتغير الكيان، ولم تدرك أن الشيء لا يبقى كما كان.
– بل أقدره جيدًا وأعلم أن هذه الكارثة قلبت كيانك، فقل لي ما الذي تغير فيك بعدها لأرى إن كان ظني في محله؟
– كنت شيئًا فإذا أنا لست ذاك الشيء.
– لا أفهم ألغازًا فقل لي كيف كنت وكيف صرت؟
– لا أقدر أن أفهمك إلَّا بالأمثال، فها أنت تدخن وفي يدك سيكارة، فمتى احترقت فهل تبقى سيكارة؟
– لا.
– ماذا تصير؟
– تتحول إلى دخان يتصاعد في الهواء ورماد يلقى إلى الأرض.
– بل تتحول إلى غاز الحمض الكربوني والبخار المائي، وما الرماد إلَّا المادة الترابية التي لا تعد جوهرية للنبات، هكذا أنا وليلى كنا متحدين في أقنوم واحد كاتحاد الهيدروجن بالأوكسيجن والكربون في السيكارة، فلما انفصلت ليلى عني أصبحت كغاز الحمض الكربوني المتلاشي في الهواء، فهل فهمت معنى تغيري؟
– الآن فهمت يا ابني، وأتأسف أن كيانك لم ينقلب، كما كنت أتوقع أنا، بل كما تتفلسف أنت.
– لا بدع أن يخيب ظنك يا أبي؛ لأنك أنت تعبأ بالأعراض وأما أنا فأعبأ بالجواهر، أنت تحسب التغير الصناعي كانحلال أي ملح في الماء تغيُّرًا وانقلاب كيانٍ، وأنا لا أحسبه شيئًا؛ لأنه متى تبخر الماء كله بقي الملح وحده في الوعاء، وعاد متبلورًا كما كان فكأنه لم يتغير تغيرًا، بل امتزج مع الماء فلما انفصل هذا عنه عاد إلى حاله، وأما التغير الذي نكبت به أنا فهو أني كنت عودًا فاحترق، وتحول إلى عناصر غازية تلاشت في الهواء، ولم يبق له أثر، ولا يمكن أن تجتمع هذه العناصر ثانيةً لتؤلف نفس العود، فتألُّم نفسي الآن كتألُّم المحترق.
– فهمت قصدك يا بني ولا أزال أتأسف؛ لأنك لم تتغير التغير الذي كنت أتمناه لك بعد هذا الزلزال الذي زلزل كيانك.
– ما هو التغير الذي كنت تنتظره فيَّ بعد هذا الزلزال؟
– كنت أنتظر أن تتحول إلى معدن صلب بعد أن تتمحص في النار، فإذا بك تتحول إلى غازات تتلاشى في الهواء، كنت أتوقع أن يكون تغيرك رسوخًا في الكيان فإذا به تحول إلى الفناء، كنت أتمنى أن يكون تجديدًا للحياة، فإذا هو اندفاع في الموت، فيا لضيعة الأمل.
فحرَّق يوسف الأرَّم وقال: لا أدري أي إله يستطيع أن يبقي الماء ماءً بعد أن يفصل هيدروجينه عن أوكسيجينه، أو يستطيع أن يحفظ الكل كلًّا بعد أن يفصل عنه بعضه، أو يستطيع أن يحفظ الحياة للحي بعد أن يفصل روحه عن جسده، بيد أني لا ألومك على تأنيبك؛ لأنك لا تدري أن ليلى كانت العنصر الجوهري في كياني، حتى إذا انفصلت عني فني هذا الكيان، فكيف كنت تنتظر مني حياةً، أو رسوخًا في الوجود بعد هذا الزلزال الذي اشتق أقنومي شقتين.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: هل كنت أنت عنصرًا جوهريًّا لكيان ليلى كما كانت لك؟
– كذا كنت أعتقد.
– إذن كنت مخدوعًا، وإلَّا فكيف طاقت هي أن تفصل عنها العنصر الجوهري لكيانها؟
– لا أدري، لا أدري يا أبتاه، إن الزلزال الذي زعزع كياني زعزع وجداني أيضًا.
ورأى جورجي أن يوسف لو كان جبانًا ضعيفًا لتدفقت دموعه من شدة التأثر فرقَّ، وسأله بلطفٍ: هل كان بينك وبين ليلى عهد؟
– نعم كالعهد الذي بين الأوكسيجين والهيدروجين أي ألفة كيمية؟
– أنت أعلم مني بالحقائق الكيمية، أفليس في الطبيعة عنصر آخر أشد ألفة لأحد هذين العنصرين من ألفتهما المتبادلة؟
– تحلهما بعض القلويات.
– إذن، صادفت ليلى من هو أشد ألفة بها، فاجتذبها إليه وانفصلت عنك، وانحل تركيبكما.
– إن صح ما تقول كان هذا الانحلال أشد إيلامًا، ولكني أعهد أن لا ألفة البتة بين ليلى والدكتور صديق هيزلي.
– إذن لماذا تنفصل عنك لتقبله خطيبًا؟
– لا أدري.
– لا بد من ألفة أخرى بينهما تختلف نوعًا عن ألفتكما، هل هو غني؟
– أظنه غنيًّا.
– ومقامه في الهيئة الاجتماعية غرَّار وأنت فقير ومقامك ينزل رويدًا، فلا عجب أن يستميلها الجاه والمال عنك.
فانتفض يوسف متألمًا، وقال: إني أجل ليلى عن الإِعباء بهذه الأعراض.
فهزَّ جورجي رأسه وقال: أتأسف ثالثة يا ابني أن هذا الزلزال لم يقلب كيانك كما أتمنى، أنت روحاني تصوري محض فليت هذا الزلزال قلب كيانك، ونفض عنك جانبًا من روحانيتك حتى يستقر كيانك في العالم المادي، وترى البشر كما هم، إذا لم تكن ليلى قد اغترت بجاه صديق الهيزلي وماله، فما الذي استمالها عنك؟ وإذا كانت ليلى لم تنفر منك؛ لأنك بعد إفلاسك أصبحت بلا مقام في الهيئة الاجتماعية، وإلى الآن لم تجدد لنفسك مقامًا، فما الذي نفرها منك؟ هل عندك تعليل آخر؟
فبقي يوسف صامتًا مبهوتًا مدة إلى أن قال له جورجي: هل تظن أن ليلى مرغمة على هذه الخطبة؟
– يستحيل أن يستطيع أحد إرغامها على أمر.
– إذن؟
– إذا صح ما تقول: أن للمال والجاه جاذبية أشد من الألفة التي بين القلوب، فإني أبكي مشفقًا على هذا العالم البشري الذي يحاول أن يتسفل في حين أن الطبيعة تبذل جهدها في ترقيته.
– هنا فلسفتك فاسدة يا بني، ما دام العالم البشري قابلًا للترقي كان المعنى أنه مؤلف من آحاد؛ لأنه لو كان وحدة قائمة بذاتها لكان في قمة الكمال، ولم يعد ترقيه يحتمل مزيدًا، وما دام العالم مؤلفًا من آحاد أو وحدات متنوعة كانت آحاده متنافسة متنازعة؛ لأنه بلا التنافس والتنازع لا يكون رقي، وستظل آحاده متنافسة إلى أن تتوافق وتتحد، وحينذاك تبلغ إلى قمة الارتقاء، وما تسميه أنت تسفلًا إنما هو الصعود في سلم الارتقاء؛ لأنه تنازع وتنافس، والمبادئ التي تحاول تنفيذها أو تتمناه لا تنفذ إلا متى بلغ العالم إلى حد الكمال، فأنت جئت قبل أوانك يا ابني، فإما أن تستقل عن هذا العالم أو أن تجري في تياره، وأما وقوفك فيه لصد هذا التيار فكوقوف شجرة في النهر المتدفق، تظل الشجرة مقاسية صدمات المياه إلى أن يقتلعها التيار، فإذا كنت تنقح فلسفتك على هذا النمو تجد اطمئنانًا بعد هذا الزلزال.
فتنهد يوسف وقال: مهما نقحت يا أبتاه فلا أجد اطمئنانًا ومهما تقلبت نفسي فيَّ لا تجد إلا ألمًا.
– لا مسكِّن لهذا الألم يا بني إلا بتنقيح فلسفتك، نقحها تجد العلاج الشافي لمرضك.
– لا علاج لهذا المرض يا أبي، لا علاج له إلا انعطاف ليلى، آه ليلى، ليلى.
فنظر فيه جورجي، وقال: هل فقدت شممك يا يوسف؟ هل خلوت من الأنفة؟ إذا كانت ليلى تصد عنك وتجفوك، وترضى سواك بعلًا، فإذا لم يتحول حبك إلى قلى كنت خسيسًا، فلا ترني فيك ﺧ …
– رفقًا رفقًا أبتاه، لا تطلب مني قلى، لا، لا أستطيع، حسبي أن أعتصم بأنفتي وشممي، لا تجر يا أبتاه، إن لي كبرياء شامخة فلا تحمسها؛ لئلا تسحق فؤادي تحت قدميها، حسبي ما تنشئه كبريائي من الصبر فيَّ.
وعند ذلك شعر جورجي أن جلد يوسف قد نفد، وأن زيادة مناقشته بهذا الموضوع تقطع أوصال فؤاده وتصهر دماغه، فتركه ومضى.