الفخ من نار
في مساء اليوم التالي نحو الساعة الحادية عشرة، كان فهيم بك رماح وجورجي آجيوس في مركبة تدرج بهما في شارع شبرا إلى أن استوقف جورجي الحوذي أمام منزل العجوز اليونانية التي أودع هيفاء عندها.
ولما دخلا في الباب قال فهيم: عجيب أن تكون هيفاء قريبة منا ولا نعلم بمقرها.
– ألا تعلم يا فهيم بك أن الأسرار مغطاة بقشة كما يقال؟
ولما دخلوا إلى المنزل استقبلهما الأب أمبروسيوس مرحبًا، وقال: التحويل بثلاثين ألفًا يا فهيم بك.
– يجب أن أرى هيفاء أولًا وأعلم إن كانت راضية.
– لا تقدر أن تراها قبل أن ترى هي التحويل.
فتردد فهيم، فقال له الأب أمبروسيوس: إذا كنت قليل الثقة يا ابني، فالأفضل أن تعود من حيث أتيت.
فتوقف فهيم بك هنيهة ثم قال: التحويل باسم هيفاء، فأسلمها إياه يدًا بيد.
– إذا كان التحويل باسمها فلا يستطيع أن يقبضه أحد غيرها.
– يمكن أن يقبضه ولي أمرها.
– لا يستطيع أن يقبضه إلا بإذن من البطرك، فإن كان يخالجك شك فعد من حيث أتيت.
فتناول فهيم التحويل ودفعه إلى الكاهن، فاطلع عليه الكاهن ووضعه في جيبه وقال: تفضل الآن وصافح هيفاء.
ودخل فهيم وراءه إلى الغرفة حيث كانت هيفاء واقفة فاستقبلته باسمةً وصافحته، فانشرح صدره وقال: لماذا لم تقولي لي قبلًا يا هيفاء أنك تريدين مهرًا؟
فأطرقت هيفاء إلى الأرض باسمة، فقال لها: سترين يا هيفاء أن هذه الثلاثين ألف جنيه ليست شيئًا من ثروتي التي ستكون تحت أمرك، فهل أنت راضية من كل قلبك؟
فازدادت الفتاة إطراقًا، وعند ذلك قال الأب أمبروسيوس: اترك هذا السؤال للكاهن يا فهيم بك، فلنسرع بالإكليل الآن.
وفي الحال فتح الأب أمبروسيوس كتابه، ووقف العروسان وإلى جانبيهما جورجي والعجوز اليونانية، وفي هنيهة قصيرة انتهت صلاة الإكليل، وبعد بضع دقائق قال فهيم: تفضلوا الآن جميعًا إلى منزلي حيث أعلن زواجي لخدمي، ونستتم فرحنا هناك.
عند ذلك قرع الباب، ففتحته العجوز ودخل منه يوسف برَّاق، فلما رأى يوسف الكاهن وفهيم بك رمَّاح عرته هزة غيظ زلزلت هيكل عظامه، وصاح: ماذا تفعلون هنا يا خونة؟
فابتسم جورجي، وقال: لا تسخط يا يوسف؛ لم يحدث ما يسوءك.
– إذن كيف جاء هذا الدنس إلى هنا؟ ألكي يدنس هذا المقام الطاهر؟
وكان يشير إلى فهيم بك، فثارت سورة الغيظ في فهيم، وقال: بل من جاء بك أنت إلى هنا يا غلام؟ وكيف تسطو على مجلسي بهذه القحة؟ إن لم تخرج في الحال قذفت بك من هذا الشباك.
وعند ذلك اعترض جورجي بينهما، وقال: مهلًا، دعونا نتفاهم، ما هو شأنك يا ابني يوسف؟
– أتتواطأ مع هذا الرجل على خيانة هيفاء ثم تدعوني ابنك؟ إنك أنذل منه، بل أنا مجنون لأني وثقت بك ولم أتعلم من الماضي.
– ماذا علمت من خيانتي حتى تقول هذا القول يا بني؟
– ماذا يفعل هذا اللئيم هنا؟ وما شأن هذا القسيس؟ ألكي تزفوا هيفاء إلى فهيم اللئيم؟
فقهقه فهيم وقال: لقد قضي الأمر يا هذا، ولا شأن لك أولًا وآخرًا.
فزمجر يوسف كالنمر وقال: يا للخيانة! هل رضيت بهذا الزنيم بعلًا يا هيفاء؟ إني أندب حظك التعس.
فضحك جورجي وأمسك بيد يوسف قائلًا: خفف عنك وهون عليك، فما حصل شيء.
– أما انعقد الإكليل بعد؟ إن …
فقال فهيم: لقد جئت متأخرًا يا طفيلي، وماذا كنت تفعل لو جئت قبل انعقاد الإكليل؟
فازداد يوسف حدَّة وقال لجورجي: إنك خائن وأشد لؤمًا من هذا النغل، ينعقد الإكليل ولا تزال تقول لي لم يحصل شيء؟
– كلا لم يحصل.
– أما صارت هيفاء زوجة لهذا الساقط؟
– لن تصير.
فانتفض فهيم وقال: من هو هذا الغلام المجنون حتى أخاف منه، وأكتم زواجي عنه؟ اخرج يا هذا من مجلسي وإلا …
فقاطعه جورجي وأخذه بيده إلى غرفة منفردة، وقال له همسًا: لا تحتد يا فهيم بك، فما أنا موارٍ الآن ولا مراوغ، إن زواجك هذا فاسد.
فحملق فيه فهيم مستشيطًا، وقال: ماذا تقول والقسيس لم يزل حاضرًا؟
– أقول: إنك خدعتنا جميعًا، فأنت تزعم أنك فهيم رماح، والحقيقة أنك الأمير سليمان الخزامي.
فانتفض فهيم حتى تزلزل هيكل عظامه، وقال: من قال لك ذلك؟
– ليس خفيٌّ إلا ويعلن يا هذا، فإني أعرف تاريخ حياتك قبل أن تولد، فهل تريد أن أسرده لك الآن حرفًا حرفًا؟ فاسمع لأقص عليك رذائلك ورذائل أبيك.
فقاطعه فهيم قائلًا: اصمت اصمت يا ماكر، وهب أني أبدلت اسمي فهيفاء زوجة شخصي لا زوجة اسمي.
– ولكن متى صرت ثانية الأمير سليمان الخزامي تفتش هيفاء عن فهيم رماح، فلا تجده، فزوجة من تكون حينذاك؟
– تكون زوجة ابن عمها، سواء كان فهيم رماح أو سليمان الخزامي.
– أي أسقف حلل لك أن تتزوج ابنة عمك؟
وعند ذلك دخل الأب أمبروسيوس وقال: لقد سمعت حديثكما.
فقال فهيم بك: هل تنكر أنك كللتني يا أبانا؟
فأجاب الكاهن: لا أنكر يا ابني، ولكن الإكليل فاسد، فلماذا لم تقل إن الفتاة ابنة عمك؟
فازداد فهيم بك تحيرًا وقال: يا للخيانة! يا للخيانة! لعبتما عليَّ دورًا، إن هيفاء زوجتي وإذا لم يكن بد من «تحليلة»، فأعرف كيف أحصل عليها، أريد الآن أن تذهب زوجتي معي، هلمي يا هيفاء.
عند ذلك قرع الباب وذهبت العجوز لتفتحه فقال جورجي: إلى أين يا فهيم؟
– إلى منزلي.
– بل لديك مهمة أخرى تمنعك عن الذهاب إلى منزلك الليلة، فأجل أخذ هيفاء إلى أجل غير مسمى.
فوقف فهيم كالأخبل لا يفهم قصد جورجي، ولكنه ما لبث أن رأى اثنين من الشرطة يدخلان، فانهلع فؤاده إذ قال أحدهما: من منكم هو فهيم بك رماح؟
فقال جورجي: هذا هو الواقف بيننا.
فاصطكت ركبتا فهيم وكاد يقع إلى الأرض وجلًا، لو لم يقبض أحد الشرطيين على ذراعه وقال: ماذا تريد مني؟
– أن ترافقنا إلى دائرة البوليس.
وكان الشرطي الآخر يضع صفادة في يديه فصاح: يا لله! أي جناية ارتكبت؟
– لا ندري، نحن ننفذ أمرًا بسيطًا وهو القبض عليك، وفي دائرة البوليس تعرف كل شيء.
فنظر فهيم إلى جورجي ورآه يبتسم، فقال له: هل دفع لك غيري أكثر مني يا جورجي حتى خنتني كل هذه الخيانات؟
– لم أقبض من أحد فلسًا يا سليمان، ولكن الجزاء الحق من نفس العمل، فاذهب مع البوليس الآن، فإن النائب العمومي ينتظرك.
فحرق فهيم الارم، وقال: لا أدري سر هذه الخيانة، فمن أنت يا هذا؟
– لسوف تعرفني إن لم تكن قد عرفتني بعد.
فحملق فيه فهيم وصاح: ويلاه! هل تقمصت روحك في هذا الجسد الشيطاني؟
– بل بعثت من قبري.
وكان الشرطيان قد استاقاه أمامهما، وهو يزمجر ويهذي ويقول: أين التحويل؟ هاتوا التحويل بثلاثين ألف جنيه. يا لصوص يا سرقة يا خونة.
ولا بد أن القارئ أدرك أن جورجي والأب أمبروسيوس وهيفاء تواطئوا على هذه الحيلة لتمهيد القبض على فهيم، أو بالأحرى الأمير سليمان الخزامي، ولأخذ تحويل بثلاثين ألف جنيه منه؛ لأنها من حقوق الفتاة.