يد من بعيد
وكان يوسف وهيفاء مبهوتين كأن على رءوسهم الطير لا يفهمون سر الحديث الأخير الذي جرى، وبعد هنيهة قال يوسف: لماذا قبض الشرطيان على هذا الشرير؟
فقال جورجي: لأنه ارتكب جناية.
– أي جناية ارتكب؟
– جناية قتل جنين في بطن أمه.
فانتفض يوسف وقال: لماذا قتل الجنين وهو لم يرَ العالم ولم يسئ إلى أحد بعد؟
– قتله لكي يخفي إثمه هو وعار الفتاة التي رامها خليلته، وما شعرت بسقوطها إلا بعد أن أهملها.
– يا للفظاعة! يا للشر! وكيف عرفت دائرة البوليس بالجناية؟
– عرفت بها كما عرفت أن الجاني هنا الآن.
فحملق يوسف في جورجي، وقال: أراك عارفًا بكل شيء.
– نعم، بكل شيء قبل حصوله.
فجحظت عينا يوسف وقال: أخاف أن تكون لك يد في الأمر يا جورجي.
– نعم، كل اليد ولكن من بعيد.
– إذن أنت الذي ساقه إلى الهاوية.
– نعم، ولكن من غير أن أقع تحت طائلة عقاب؛ لأني لم أخالف قانونًا.
فانتفض يوسف من شدة التأثر، وقال: خسئت يا شرير، فأنت الجاني لا هو، إن الجريمة واقعة على رأسك.
– سنرى على من تحكم المحكمة.
– لا يهمني حكم المحكمة بل حكم الضمير، فبأي ضمير دفعت ذلك المسكين إلى ارتكاب الجريمة؟
– بضمير موسى الذي قال: «عين بعين وسن بسن.»
فانبثق الدمع من عيني يوسف وغطى عينيه بكفه، وهو يقول: لا تدعني أرى الشر ماثلًا أمامي، رباه! ما هذا العالم الشرير؟ لماذا لم تخلقني في المريخ لعل عالمه أنقى ضميرًا وأطهر قلبًا؟ لماذا غدرت بذلك الشقي يا جورجي؟ إن إثمه على رأسك.
– إثمه على رأسه، وما ظلمه إلا شر نفسه.
وهنا استرسل يوسف بتأثره حتى إنه لم يعد يستطيع أن يكفكف دموعه، فقال له جورجي: لماذا تبكي يا جبان؟
– أبكي هذا العالم المنغمس بالآثام، كلما تيقنت أني في وسط صالح أجد نفسي في بحيرة من الشرور، ويلاه! رباه امحق هذا العالم لكي يُمحق الشر معه، ثم اخلقه خلقة جديدة صالحة؛ لأنه لم يعد صالحًا لتمجيدك.
– ليت صلاتك تستجاب يا ابني، ولكن منذ ستة آلاف سنة كان بعض الغرباء عن طبيعة هذا العالم يصلون هذه الصلاة، ولكن الله — سبحانه وتعالى — لا يستجيب.
– لأنه رحيم طويل الأناة، يضن بخليقته أن تذهب سدى، وبأتقيائه أن يهلكوا بجريرة الأشرار؛ ولهذا كان ولا يزال يرسل المعلمين عسى أن يصلحوا، فأين أنتم يا مصلحون لا تلبون دعوة الله لإصلاح الجنس البشري؟
– ليس في العالم إلا المراءون المنافقون يا بني، فلا تتعب نفسك في أن تغير هذا العالم، وإذا شئت أن تعيش فيه يجب أن تكون شريرًا مثلهم، فتعيش سعيدًا متنعمًا.
فوضع يوسف كفه على عينيه وصاح: تبًّا لك! لا تجربني يا شيطان؛ فما أنا من هذا العالم.
وكان سكوت عدة دقائق ويوسف مستغرق في تأثره، والكاهن يفكر وهيفاء مبهوتة لا تنبس بكلمة واحدة كأن في لسانها عقلة، وبعد ذلك رفع يوسف نظره في جورجي وقال: وأي ذنب جنى ذلك الجنين المسكين حتى يقتل قبل أن يعلم ما هو الإثم؟
– لم يجن ولم يعاقب بل رُحم؛ لأنه أبعد عن هذا العالم الشرير؛ لكيلا يأتي إليه كما أتيت أنت.
– وأمه المسكينة؟ ماذا يكون حظها بعد هذه الفضيحة؟
– إن سلمت من خطر الحمى، فقد يطهرها عقابها في هذه الدنيا حتى تدخل السماء أخيرًا طاهرة.
– إذن المرأة قد تموت أيضًا.
– نعم؛ لأنها في حالة النزاع، فقد تفارق هذا العالم الليلة.
فاستشاط يوسف وصاح: ويحك يا شقي! الجنين وأبواه جميعًا؟
– وأم أمه والدكتور صديق الهيزلي أيضًا.
فقبض يوسف على شعره بكلتا يديه، وجعل يصيح: الويل لك يا شرير! الويل لك! لو كنت قاضيًا لعلقتك على الخشبة.
– أشكر الله أنك لست قاضيًا.
– أي ثأر لك على الخمسة؟
– أما فهيم فكلنا هنا ذوو ثأر ضده، فهل نسيت أنت السجن؟
– لقد غفرت له من كل قلبي، والله غفر له.
– وأما الجنين فقد رحمته إذ لم أدعه يعرف هذا العالم الشرير، وأما الفتاة فقد أخطأت لنفسها وللهيئة الاجتماعية، فدعها تنال عقابها هنا أو في الآخرة؛ وأما أمها فلأنها شريكة فهيم في آثامه وفي إسقاط تلك الفتاة.
– والدكتور صديق الهيزلي؟
– لأنه عابد المال، وقد كانت له يد في تفليسك.
– أغفر له وليغفر الله له.
– لم تبرأ إلى الآن من الطعنة التي طعن بها فؤادك، هل نسيت أنه خطب ليلى؟
– لا تذكر ليلى، مسكينة ليلى، ماذا حل بها بعد أن أخذ خطيبها صديق من جنبها إلى ظلمات السجن؟ لقد ضربت يا شقي ستة لا خمسة.
– عجيب هذا الإشفاق، كنت أظن حبك تحول إلى قلى.
– لا أدري ما الذي يدعوك إلى هذا الظن.
– لأني أعلم أن الحب كحلاوة العنب إذا خامرها الفساد تحولت إلى خل.
– قل ذلك في الحب المركب من الشهوات النفسانية، وأما الحب الروحاني فعنصر بسيط لا يقبل حلًّا.
– كل أمر من أمورك غريب يا بني، إذن أنت مشفق على ليلى؟
– نعم، مسكينة ليلى، ما ذنبها حتى يطعن قلبها هذه الطعنة؟
– إنك غبي، لقد نجت ليلى من شرور صديق.