زوبعة عواطف
وبعد هنيهة قال يوسف: سمعت ذلك الشقي فهيم يذكر تحويلًا، فما قصة هذا التحويل؟
– هو تحويل بقيمة ثلاثين ألف جنيه حصلناها مهرًا لهيفاء.
– لهيفاء؟ يستحيل أن تمسها هيفاء؛ لأني أكفل لهيفاء معاشها، فإن لم يكفها تعبي أطعمها لحمي وأسقيها دمي.
فضحك جورجي وقال: وا أسفاه! إن مبادئك مضحية بتعبك ومعارفك لمصالح غيرك، وإذا اتكلت هيفاء عليك ماتت جوعًا.
– خير لها أن تموت فقيرة من أن تعيش منعمة من مال حرام محصل بحيلة، أو مكيدة غير شريفة.
– نعم، إنه محصل بحيلة، ولكنه بعض ما لها، فهو حلال لها وحرام على ذلك الزنيم.
– لا أفهم هذا التعليل المقلوب.
– بالطبع لا تفهم ذلك؛ لأنك لا تعلم أن هيفاء ابنة عمه.
فحملق يوسف وقال: يا لله! سمعت شيئًا بهذا المعنى إذ كنتما منفردين في الغرفة، فهل هو حقيقة؟
– هو الحقيقة بعينها، فإن هيفاء ابنة عم فهيم رماح الذي هو الأمير سليمان الخزامي.
فارتجف يوسف قائلًا: أحقيقة أن ذلك الرجيم كان يتنكر باسم فهيم رماح؟ كيف تثبت ذلك؟
– ما أسهل إثبات ما أعرفه حق المعرفة، فهل تريد أن أقص عليك تاريخ حياته؟
فزمجر يوسف كالنمر وهو يصر أسنانه، ويقول مترددًا: لا، لا، ليتني تحققت ذلك قبل أن يخرج من هنا فكنت أنشبت أظفاري في عنقه، آه وا غضباه! آه يا للعنة! يا نار الجحيم الحامية آه، وا غيظاه! وا حر قلباه!
وكان الكاهن وهيفاء يقشعرَّان من زمجرة يوسف ويرتاعان من تلهب مقلتيه، أما جورجي فكان يبسم مطمئنًّا، فقال: أراك تحنق على ذلك الطاغية بعد أن كنت ترثي له، فما سر هذا الانقلاب؟
فعاد يوسف يزمجر كالمجنون وقال: ما زلت أرثي له، ولكني أحنق على طينته، يا للعنة على تلك الطينة القذرة التي لا تطهرها مياه السماء ولا نيران الجحيم!
– ما ذنب تلك الطينة حتى تنال منك هذه اللعنة التي لا تجسر أن تسكبها إلا الآلهة؟
– إن تلك الطينة لهي غريمي الوحيد في هذه الدنيا، تلك الطينة مزقت كياني، هدمت أركاني، قوضت دعائمي، ضعضعت مقامي، أضاعت سعادتي، نغصت حياتي كلها.
– عجيب يا يوسف أن ظواهر شبيبتك تدل على أنك غني بمعارفك قوي بمبادئك، والسعادة بنت الغنى والقوة، فإن كانت طينة سليمان الخزامي قد أضاعت سعادتك، ففي وسعك أن تستردها، وإلا فما أنت غني ولا قوي.
– إني غني وقوي إلى حد ألا أستطيع إيجاد المعدوم، أو رد الماضي إلى الحاضر والمستقبل.
– ليتنا نعلم هذا الذي قد مضى، فكنا نعلم كيف نجعله حاضرًا أو مستقبلًا.
– إنك تدعي ما لا تستطيعه الآلهة.
– لو كنت لا أستطيع ما أدعي.
فحملق فيه يوسف وقال: يا للغرور! أتستطيع أن تجعل الماضي حاضرًا ومستقبلًا؟
– نعم، وأستطيع إيجاد المعدوم أيضًا.
– إنك تدعي ما لا تستطيعه قوة القوى نفسها، فهل تقصد أن تذكي نار غيظي بهذا المزاح؟
– أقول لك: إني أستطيع أن أفعل ما أقول، فما أنا مازح.
– إذن أنت مجنون؛ لأنه لا يدعي هذه الدعوى إلا المجنون.
– بل أنا عاقل، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
– تكاد تجنني يا هذا، فهل تستطيع أن تحيي الميت وهو رميم؟
– أستطيع.
– إذا لم تكن مجنونًا فأنت إله.
– ما أنا هذا ولا ذاك، ولكن لي قوة لا تعرفها أنت، فأي ميت تريد أن أريكه حيًّا فيخاطبك وتخاطبه؟
فقال يوسف هازئًا: أريد أن تريني أبي.
– حسن، أريكه الآن، فهلم معي إلى الغرفة التالية والأب أمبروسيوس وهيفاء ينتظراننا هنا إلى أن تعود مع أبيك.
وكان الأب أمبروسيوس وهيفاء كالأخبلين يسمعان ولا ينطقان، ولكن الأب أمبروسيوس قال وهما يخرجان: لا شك أن هذا الرجل ساحر من سحرة الهنود.
فأخذ جورجي يوسف بيده إلى الغرفة الأخرى وجلسا، فقال جورجي: من كان أبوك؟
– كان أبي الرجل الذي عوقب في حياته لحسن نيته وطهارة قلبه، وظلم بقسوة لرقة عواطفه، وتشتت عائلته بجريرة حبه لها، وقتل في الدفاع عن وطن غير وطنه، فهل تعرف رجلًا هذه حاله؟
– أعرفه.
– لا يبعد أنك تعرفه وأنت يوناني الأصل؛ لأنه قضى نحبه في حدود اليونان، فمن هو الذي تعرفه في هذه الأحوال؟
– هو الأمير خليل الخزامي، أعرفه كما أعرف نفسي.
فاقشعر يوسف وانتصب شعر رأسه، وقال: أبي خليل الخزامي، هل كنت تعرفه حين قتل؟ هل ترك كلمة لابنه؟ هل ترك وصيته؟
– عرفته في كل دقيقة من حياته، هل تتذكر سحنته؟
– لن أنساها؛ لأنها ماثلة في مخيلتي على الدوام.
فتناول جورجي صورة فوتوغرافية من جيبه، ودفعها إلى يوسف قائلًا: هل هذه صورة أبيك؟
فما وقع نظر يوسف عليها حتى انتفض وهطل الدمع من عينيه، وصاح: هذه صورة أبي، هذه صورته كما فارقني.
وجعل يوسف يقبل الصورة، ويقول مخاطبًا لها: لقد جوزيت يا أبتاه جزاء سنمار، ولكن الطبيعة لا تفهم حتى تعاقب ظالميك، وا أسفاه على شبابك! فماذا ترك لي أبي غير هذه الصورة؟
– هذه الصورة أيضًا.
وناوله جورجي صورة أخرى، فلما رآها يوسف صاح: أماه أماه! لقد قاسمتِ أبي مصائبه، ولا ريب أنك تقاسمينه سعادته الأبدية.
وكان يوسف يقبل الصورة الأخرى، ويمسح دموعه عنها هنيهة إلى أن قال: أما زودك أبي بكلمة تقولها لابنه؟
– نعم، قال: إنه يود أن يراك.
– في العالم الثاني؟
– بل في هذا العالم.
– في هذا العالم؟ كيف يمكن ذلك؟
– أما قلت لك: إني أريكه؟
– إنك تجنني يا هذا، كيف تريني أبي وقد فنيت عظامه؟
– لم تفنَ عظامه ولا فني جسمه، بل لم يزل حيًّا يرزق.
فانتفض يوسف جزعًا وصاح: إن كنت لا تمزح فقل لي أين أرى أبي؟
– هنا؟
– متى؟
– الآن في هذه اللحظة.
– أين؟ أين هو؟
– أما قلت لك: إنه هنا؟ أنت تعرفه شابًّا، فهل تظن أنك تراه شابًّا بعد أن فارقته عهدًا طويلًا؟ ألا ترى أن الشيب كلل رأسه؟
فحملق يوسف في جورجي وهو يرتجف من شدة التأثر، ورأى الدموع تتدفق من عينيه فارتاع لأول وهلة وبقي مبهوتًا هنيهة، ثم فتح فمه، ولكنه لم يستطع كلامًا، وما شعر إلا بقوة تجتذبه نحو جورجي حتى طرح نفسه على حضنه، وهو يصرخ: أبتاه! أبتاه! حتَّامَ تتمالك عني؟
وفي تلك اللحظة كان الأب والابن متعانقين ودموعهما تمتزج معًا.
في تلك الدقيقة كان إله الحنو يرفرف فوق ذينك الأقنومين، وهو يسكب في قلبيهما ماء حبٍّ قضت الملائكة عشرين عامًا وهي تستقطره.
ولم ينفك ذلك العناق إلا والباب ينفتح والأب أمبروسيوس يدخل منه، وهو ممسك بيد هيفاء ويقول: ليكن اسم الله مباركًا ومقدسًا وممجدًا.
ولما اقتربا منهما قال الأب أمبروسيوس: عانقي أباك يا هيفاء، هذا هو أبوك كان ميتًا فعاش، وكان ضالًّا فوجد.
وكان الأب أمبروسيوس قبيل ذلك منصتًا وراء الباب يسمع الحديث الذي جرى بين الأب والابن.
فتناول جورجي يدها وجذبها إليه وعانقها طويلًا، وهو لا يستطيع كلامًا؛ لأن دمعه كان أفصح بيانًا، أما هيفاء فكانت مبهوتة كأنها لا تفهم كل ذلك.
ولما انتهى جورجي من عناقها أجلسها إلى جانبه، وقال: عانقي أخاك يوسف يا ابنتي يا هيفاء، عانق أختك يا يوسف يا ابني.
فارتمى الأخوان كل منهما على الآخر وتعانقا، وما زالت هيفاء مبهوتة، وحدث سكوت عدة دقائق بتره يوسف بقوله: أين كانت هذه الأخت يا أبتاه؟ لا عهد لي بأن لي أختًا.
فقال جورجي، أو بالأحرى الأمير خليل الخزامي: إن الذين لم يروموا أن يبقى لك أب ولا أم يا بني لم يروموا أن تعرف لك أختًا، الأب أمبروسيوس يقص لكما حكاية نسبكما يا ولدي إذا كان عندكما شك به.
وبعد أن هدأت ثورة العواطف التي لم تشهد ملائكة السماء ثورة مثلها، روى كل أقنوم من الثالوث المتجمع بعد تشتته حكاية حاله.
وظلوا يتحادثون ويتعانقون حتى طلع الصباح، وكانت في ذلك المنزل ليلة سرور حسدته عليها السماء.