تناظر المنطاد وورقة الشجرة
بعد أن اشتغل يوسف براق في البنك الأميركاني أسبوعًا، انفرد به المسيو سرار الذي كان يشغله في مكتبه، وقال له: لقد كلفني جناب المدير أن أبلغك أمرًا لا أدري إن كان يسوءك.
– ماذا؟
– يتأسف جنابه شديد الأسف بأن يبلغك أن لا وظيفة لك في البنك الآن، فإذا فرغت في المستقبل وظيفة لائقة بك استدعاك إليها؛ لأنه مقتنع بأهليتك، وإني متأسف يا مسيو برَّاق أن أكون مبلغك رغبة جنابه، ولكن ما على الرسول إلا البلاغ، ولي الأمل أن تثق بإخلاصي وأسفي، وهذا تحويل على الخزينة بأجرة الأسبوع.
فشكر يوسف للمسيو سرار تلطفه، ومضى وبعد أن تردد هنيهة ذهب إلى المدير وسأله عن سر عزله، فلم يشأ المدير أن يفاوضه بهذا الموضوع، بيد أنه أبلغه أن لا وظيفة له حينئذ، وأنه إذا خلت له وظيفة استدعاه إليها؛ لأنه لا ينكر أهليته.
على أن يوسف خرج كاسف البال غير مقتنع بأن سبب عزله الاستغناء عنه، وما إن ابتعد قليلًا حتى أدركه فتى من زملائه في البنك يدعى خليل نادم، وهو فتى ذكي الفؤاد وسيئ البخت كيوسف، وجعل يماشيه في سبيله، وفي أثناء ذلك قال له: أحقيق يا مسيو برَّاق أن المدير أبلغك عدم الحاجة إليك؟
– كيف عرفت ذلك يا خليل؟
– كل المستخدمين في دائرة الترجمة كانوا يلغطون بذلك.
– إذن لا بد أن تكون قد عرفت السبب.
– أما عرفته أنت؟
– لم يذكر المدير لي سببًا غير أن لا وظيفة لي، ولكني لم أقتنع بهذا السبب، وأنا أرى أن الشغل أكثر من الكتبة في دائرة الترجمة، أفما فهمت من لغط الكتبة شيئًا؟
فسكت خليل فقال يوسف: يلوح لي أنك تعلم شيئًا، فماذا كانوا يتحدثون؟
– ألا تعرف القول السائر «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»؟
– إذن تخاف أن تقول.
– نعم؛ لأن الدسائس تكثر في كل دائرة بقدر كثرة عمالها، وأنا عرضة لأخطار هذه الدسائس.
فتوقف يوسف عن التمشي، كأنه تنبه لأمر يغفل عنه وحملق بالفتى قائلًا: علامَ الدسائس؟
– الأفضل أن نتمشى في طريق آخر؛ لئلا يتبعنا بعض الكتبة ويسيئوا الظن بنا.
– لا يهمني سوء ظنهم؛ لأني لن أعود إلى هذا البنك إذا كان دار دسائس.
– أما أنا فيهمني؛ لأني مضطر إلى الاستخدام، وأخاف على وظيفتي من خيال مزاحم.
– يا لله! أتستمسك بوظيفة ستة جنيهات، وأنت تستحق اثني عشر جنيهًا؟!
– أستمسك بوظيفة أربعة جنيهات ما دمت لا أجد سواها.
– لم تقل لي ماذا كانوا يلغطون بأمري.
– تقول: إنه لا يهمك الرجوع إلى البنك؛ فاعذرني إذا لم أقل لك شيئًا؛ لأني أخاف مغبة القول.
– بل أود أن أتلقن درسًا جديدًا، فأتعهد لك بشرفي أني لا أبوح بكلمة مما تقول؛ فقل.
فتردد الفتى وهو يقول: الحق عليك.
– بماذا؟ هل قصرت بواجباتي؟ هل عجزت عن ترجمة شيء؟
– كلا، بل بالعكس كنت تعمل أكثر من واجباتك، وتحسن الترجمة أكثر من كل واحد.
– إذن كيف يكون الحق عليَّ؟ هل ارتكبت وزرًا من حيث لا أدري؟
– نعم، ذنبك أنك تشتغل أكثر من سواك، وعملك أحسن من عمل غيرك، فلو كنت أقل علمًا واجتهادًا لكنت أرسخ قدمًا في وظيفتك.
– أستغرب ما تقوله ولا أفهمه؛ لأني كنت أبذل جهدي في إعجاب رؤسائي وإرضائهم.
– إن ما تظنه إعجابًا وإرضاءً لرؤسائك يحسبونه إغضابًا، بل ذنبًا تستحق عليه الطرد؛ فأنت الجاني على نفسك.
– يا لله! لم أفهم بعد معنى قولك هذا.
– أستغرب أنك لا تفهم.
– لا أقدر أن أفهم ما يخالف السنة الطبيعية، أفهم سر وقوع ورقة الشجرة إلى الأرض، ولكن إذا قلت لي: إنك رأيتها تصعد إلى السماء، فلا أفهم ولا أصدق؛ لأن صعودها مخالف لناموس الطبيعة.
– وإذا رأيت المنطاد يصعد إلى السماء؟
– أعلل صعوده بسنة الطبيعة أيضًا.
– إذن يمكن حدوث أمرين متخالفين، وتعليل حدوثهما بسنة الطبيعة.
– من غير بد.
– فاعلم إذن أن للأمور الأدبية سننًا كسنن الأمور الطبيعية تمامًا، ولو كانت ورقة الشجرة تحس وتعقل لكانت تغضب من المنطاد، حتى ولو كان صاعدًا بها إلى السماء.
ففكر يوسف هنيهة ثم قال: إنك يا أخي لفيلسوف في الأمور الاجتماعية، تعني أن رؤسائي يغضبون من إظهار براعتي واجتهادي، ولو كنت أنجز مضاعف الشغل الذي يكلفونني به؛ لأنهم …
– نعم؛ لأنهم يخافون أن تصعد فوقهم كصعود المنطاد فوق ورقة الشجرة.
– ولكني أقسم لك بشرفي أني لم أضمر قط مزاحمتهم في مناصبهم، بل لم يخطر لي إلا تجنب ذلك.
– هل تنكر أنك كنت تود إظهار كل أهليتك حتى تترقى؟
– لا أنكر ذلك، ولكني كنت أطمع أن أترقى إلى وظيفة يخليها من هو فوقي إلى من هو فوقه، فهم السابقون ونحن اللاحقون.
– ولكنهم ليسوا قارئي نيات وأفكار حتى يثقوا أنك لا تزاحمهم، ولو أقسمت لهم بالله وبرسله وأنبيائه ما صدقوك، بل ما كانوا يصدقون إلا أنك تبذل جهدك في مزاحمتهم، وهب أنك كنت تنوي ما تقول فمدير البنك إذا رأى أنه ينتفع منك أكثر من رئيسك يجعلك فوق رئيسك رضيت أو لم ترضَ، وهذا ما يحسبون حسابه مهما كنت أنت طيبًا وحسن النية.
– عجيب أن يعتقدوا ذلك.
– بل عجيب ألا يعتقدوا ذلك.
– لماذا؟
– لأنك كل يوم كنت تهددهم ألف مرة.
فبهت يوسف لهذا الجواب وقال: يا لله! إنك تكذب أو إنك تعني غيري.
– بل أعنيك أنت يوسف برَّاق.
– متى تهددتهم؟
– حين كنت تناقشهم في أغلاطهم.
– بل هم كانوا يصلحون جوابي بغلطهم، وأنت كنت تسمع وترى، هل كان المسيو سرار محقًّا اليوم بتنقيحه ضمير «سن»، وجعله مذكرًا، فهل ترتاب أنت أنها مؤنثة؟ انظر في أي قاموس شئت.
– أعلم أنها في القاموس مؤنثة، ولكنها في قاموس البنك يجب أن تكون مذكرًا؛ لأن المسيو سرار رئيسنا يريدها كذلك.
– لا بأس من هذه، ولكن ما قولك في الأغلاط الأخرى الفرنساوية والإنكليزية التي كان يرتكبها سرار وغيره.
– هنا في الشارع الحق معك فيها، وأما في البنك فالحق في جانب المسيو سرار وغيره من الرؤساء.
– لو كان المسيو سرار يرتكب هذه الأغلاط في ترجماته ما كنت أتعرض له؛ لأني لست مسيطرًا عليه فهو حرٌّ أن يترجم كما يشاء، ولكنه كان هو وغيره ينقحون ترجماتي، فيقلبون الصواب خطأً فظيعًا لا يطاق، فلا ألام إذا كنت أناقشهم لكي تكون ترجماتي بليغة فصيحة خلوًا عن الخطأ.
– نعم تلام؛ لأنهم رؤساء وأنت مرءوس.
– كلا، لا ألام؛ لأني لو كنت أسلم بإصلاحهم — وهو خطأ فظيع — لكنت أثبتُّ عدم أهليتي.
– بل بالعكس لكنت تثبت أهلية عظمى لو كنت تعترف لهم بسمو علمهم على علمك.
– هذا ما لا قبل لي عليه، لا أستطيع أن أجاري الجهلة على جهلهم.
– وهم لا يستطيعون مجاراتك في صعودك فوقهم، فاعذرهم إذن.
– تعني أني أعذرهم على سعاياتهم ضدي.
– نعم، نعم اعذرهم.
وبعد سكوت هنيهة قال يوسف: هل لك أن تقول لي يا خليل: من كان الساعي ضدي؟
– كلهم، وكلهم الآن فرحون بأنهم أبعدوك من البنك؛ لأنهم كانوا يخافون من رسوخ قدمك، وإعجابك للرؤساء الكبار؛ لئلا يقدموك عليهم، فهل فهمت غلطك الآن؟
– فهمته، ولكن لم يكن في وسعي تجنبه.
– لأنك حرٌّ، وحرية الضمير جناية على المرء.
– هل تعلم إن كان المسيو بولس المراني من جملة الذين سعوا ضدي؟
– الحق أني لا أدري شيئًا من نحوه، فقد يكون منهم؛ لأنه الرئيس الأعلى «لقلم» الترجمة كما لا يخفى عليك، و…
– ماذا؟ قل ما تعرفه وثق أني لا أقول كلمة.
– إني واثق بصدق طويتك يا مسيو برَّاق، ولولا صدق مودتي لك ما كنت أخاطبك بهذا الموضوع، فلا أخفي عليك أني وجدت بالصدفة بين الأوراق التي على مكتب بولس أفندي المراني شطري ورقة، وقرأت فيهما سطرين بإمضائك، فهل كان مراني أفندي موكلًا بامتحانك قبل تعيينك؟
فعض يوسف على شفتيه، وقال: لقد سبق السيف العذل، دعنا من هذا الموضوع يا أخي؛ فقد عرفت ممن جاءت الضربة.
– أتظن أنها جاءت من بولس المراني؟ لم أزل في شك من ذلك؛ لأن بولس أفندي مشهور عندنا بطيب عنصره.
– مهما يكن الأمر فقد كان ما كان، ولكن ألا ترى يا خليل أني مظلوم؟
– لا شك عندي في ذلك؛ لأني أعتقد أنك أقدر من كل من في هذا البنك وأهل لأعلى وظيفة فيه وأطيب قلبًا وأصدق نية من كل زملائنا، ولكن هل تنتظر من الناس أن يعدلوا مجانًا، أو أن ينصفوا عفوًا ويرحموا بلا سبب؟
– كأنك تقول لي: إن كل شيء يجب أن يكون بثمن أو جزاء، حتى الحق يجب أن يباع ويشرى، والمرء لا يعدل عن الكذب إلَّا إذا كوفئ على الصدق، ولا يجنح عن الخيانة واللؤم إلا إذا كان يقبض ثمن الاستقامة غاليًا.
– نعم، نعم يا يوسف، لا يتبع أحد الحق لأجل الحق، ولا يصدق أحد لأجل الصدق، ولا يستقيم لأجل الاستقامة.
– إني أتعجب ممن يصعدون إلى قمة النجاح على سلم الظلم واللؤم والكذب والخيانة.
– لا تتعجب يا صديقي؛ فإن الإنسان مسلسل من الحيوان الذي اضطره تنازع البقاء إلى الحيلة واللؤم والغدر والخيانة، والناس كالحيوانات ينازعون بعضهم بعضًا، وجميع هذه الرذائل أسلحة لهم.
– إذن لماذا يتبجحون بالنواميس الأدبية ويدعون حيوية الضمير؟
– ما هذه النواميس إلا قيود يقيد المستقيمون أنفسهم بها، وأما الأغرار فيعتقدون أن الناس في تنازعهم كأنهم في حرب عوان، والحرب تجيز اتخاذ كل وسيلة للغلبة.
– لا أعتقد أنهم يغلبون أخيرًا.
– عجبًا يا يوسف! أما رأيت أن المنافقين فازوا عليك وأنت الصادق المستقيم؟
فوجم يوسف وانتفض متغيظًا، وقال: كأنك يا هذا تحرضني على التذرع بالرذيلة إلى النجاح.
– كلا، كلا لا أحرضك على ذلك، بل أمتدحك إذا لازمت جانب الاستقامة ولو بقيت في الحضيض، وإنما أقول لك: إن ذلك هو الواقع، الأشرار يقومون والأبرار يسقطون؛ فإن كنت تبتغي النجاح فاسلك إليه من طريق الشر؛ فهو أقصر وأقرب، وإلا فلا تطمع به عاجلًا.
فحرَّق يوسف الأرَّم وزمجر متغيظًا، وقال: يا لك من عهد يترأس فيه الغبي الجاهل، وينجح الماكر المخاتل، ويسعد اللئيم، ويشقى المستقيم! فالحرب بيني وبينك أيُّهذا العصر المعوج، فإما أن تقلبني أو أقلبك.