مقدمة
أقبل العلماء الأوروبيون على البحث في الآثار العربية بوادي النيل عمومًا، والقاهرة على وجه خاصٍّ، يدرسون تاريخها ومبانِيَها، حتى أصبحتْ جاذِبًا يستهوي لرؤيتها أفئدة القادمين على البلاد من أنحاء العالم.
وفي ذلك ما يدفعنا نحن المصريين إلى الاهتمام بدرس هذه الآثار حتى لا نُلام على عدم تقديرنا لها.
والمأمول أن تتولَّد عن هذا النظام فوائد جمَّة بجانب العناية والجهود التي توجِّهها لجنة حفظ الآثار العربية لهذه الآثار بإذاعة المعلومات القيِّمة عنها بطريق الكتابة والنشر، فقد وضعت المؤلَّفات الجليلة ككتابَيْ «جامع السلطان حسن» و«حفريات الفسطاط» وغيرهما، ومنشوراتها السنوية والنُّبَذ التي تُصدِرها بصفة ملحقات، وهي تتضمَّن الفوائد الجليلة مما يجب التوسُّع في نشره في القاهرة والأقاليم، إلَّا أنَّه بالنظر لكثرة عدد الأجزاء الصادِرة منها وتعذُّر اقتنائها على الأفراد وتشتُّت المواضيع بين صفحاتها، كل ذلك يجعلها غير كافية للقيام بحاجة الجمهور.
وقد رأينا أنْ نُحاول القيام بشيء من هذا القَبِيل، وغرضُنا أنْ نُهْدِيَ للجمهور عن كلِّ أَثَرٍ مهمٍّ رسالةً صغيرةً تتضمَّن بحثًا مكتوبًا بلغة سهلة واضحة عن وصْف الأثر وصْفًا إجماليًّا، وشيءٍ من تاريخه ومميزاته الفنية، ليتمكَّن الجمهور المصري من الوقوف على أهمية ما هو موجود في البلاد من الآثار الباقية ممَّا شيَّدَ الأجداد، فتنبعِثُ في قلوبهم المحبة لها والحرص عليها، ونكون بذلك قد حقَّقْنا رغبةً طالَمَا ردَّدَتْها لجنة حفظ الآثار العربية، وشجَّعَنا على تنفيذها حضرة صاحب المعالي جعفر ولي باشا وحضرة صاحب السعادة محمد زغلول باشا لمَّا كانا بوزارة الأوقاف.
وكان في عزمنا ألَّا نَخرُج كثيرًا عن نَسَق الرسالة البديعة التي كتبها المرحوم هرتس باشا عن جامع جانم البهلوان، والنُّبَذ الأخرى التي كان يُصدِرها بصفة ملحقات لمجموعة اللجنة السنوية، وأن يكون اعتمادنا فيما نكتبه على مؤلَّفات مؤرِّخي العرب وغيرهم من العلماء الأَخِصَّائيين في العهد الحاضر، أمثال فان برشم وسالمون وسلادين وهرتس باشا وكوربت بك والكبتن كريسول وجاستون فييت، وغيرهم.
وكانتْ فاتحة هذه النُّبَذ التي شرعتُ في وضْعها باللغة العربية ما عنَّ لي عن جامع أحمد بن طولون، ولم أُراعِ في ذلك الأقدميةَ التاريخية للأثَر؛ لأنَّ جامع عمرٍو وإنْ كان أقدَمَ منه تاريخًا، وأُنشِئ قبلَه بنحو ٢٤٤ سنة على عهد الفتح الإسلامي لمصر، إلَّا أنَّه لم يتخلَّف لنا شيءٌ من مبانيه الأصلية بسبب التغييرات والتجديدات التي توالَتْ عليه تحت حكم الدول العديدة التي تعاقَبَتْ على مصر.
أما جامع ابن طولون فإنَّ المؤرِّخين يعتبرونه أهمَّ أثَرٍ عربي في مصر بالنظر إلى أقدمية مبانيه وما بقي فيه من معالِم الفن العربي من العصر القديم.
وقد عرضتُ النسخةَ الأصلية على حضرة صاحب المعالي محمد شفيق باشا فتفضَّل — حفظه الله — بقراءتها ولاحَظَ أن إخراجها كما هي موجزة يجعلها «غير وافية من جهة التاريخ ولا مشبعة المعمار فيما يخص العمارة»، وأشار بالتوسُّع فيها أكثر من ذلك، مع ذكر الأطوال والعروض والارتفاعات، وإلحاقها بفتوغرافيات المنارة والفسقية والبوائك والقِبْلة والكتابات والسقف، ومن الاطِّلاع الآن على هذه الرسالة يَظهَر أني حاولتُ جهدي في إبرازها على نَسَق يقرب ممَّا أشارَ إليه حضرة صاحب المعالي محمد شفيق باشا، فإليه يرجع الفضْل في ظهورها على هذه الصورة، وأرجو أنْ أكون بوضْع هذه الرسالة قد قمتُ بقسطٍ من الواجب الوطني، وحقَّقتُ شيئًا من الرغبة التي أبداها مجلس النُّوَّاب عند فحْصِه لميزانية دار الآثار العربية.
ولا ننسى أنْ نُثبت للأستاذ العلَّامة جناب مسيو جاستون فييت مدير دار الآثار العربية فضْله في نشر هذه الرسالة تحت رعاية لجنة حفظ الآثار العربية في عهد رئيسها المِفْضال صاحب المعالي الأستاذ الجليل محمد نجيب الغرابلي باشا وزير الأوقاف الذي تفضَّل فأقرَّ طبْعها في الوقت الذي توجَّهتْ عنايته فيه إلى تنفيذ قرار البرلمان وإخراج كتاب «حفريات الفسطاط» باللغة العربية.
وقد وفَّقنا الله إلى هذا العمل في ظل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك ملك مصر المعظَّم فؤاد الأوَّل، أطال الله أيَّامه وحفظ أنجالَه.
•••
نذكر هنا مع الشكر أنَّ بعض الأشكال المحلَّاة بها هذه الرسالة هي من عمل صديقنا وزميلنا القديم مسيو ج. روسي من مهندسي اللجنة السابقين.
وقد أعارني جناب الكبتن كريسول مؤلِّف كتاب «الآثار الإسلامية في مصر» كثيرًا من الصُّوَر الفتوغرافية التي عُمِلتْ منها اللوحات التي حُلِّيَتْ بها هذه الرسالة.