تمهيد
قَدِمَ أحمد بن طولون إلى مصر ونزل بالعسكر، ثم بنى القصر والميدان
وأنشأ القطائع، وفيها شيَّد الجامع المشهور باسمه.
(١) العسكر
كان أمراء مصر ينزلون الفسطاط منذ اختَطَّها عمرو بن العاص بعد
الفتح، حتى جاءت المسوِّدة وهي جيوش بني العباس مع صالح بن علي
وأبي عون في طلب مروان بن محمد آخِر خلفاء بني أُمَيَّة لمَّا فرَّ
إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية (٧٥٠م)،
١ فعسكرتْ بظاهر الفسطاط في الصحراء التي يُشرِف عليها
جبل يشكر، وكانتْ فضاءً تُعرَف بالحمراء القُصوى، وليس بها من
العمائر غير عدة كنائس وديارات للنصارى،
٢ فأمر أبو عون أصحابَه بالبناء فيها فبَنَوا المحالَّ
والأسواق والدُّور العديدة، وبنى صالح بن علي دارًا للإمارة، وفي
سنة ١٦٩ هجرية (٧٨٥ و٨٦م) بنى ابنُه الفضل جامعًا، فنشأتْ في هذا
المكان خطة جديدة صارتْ تُعرَف بالعسكر.
٣
وكان العسكر يمتدُّ على شاطئ النيل، والنيل وقتئذٍ أقرب إلى
الشرق من موضِعه الحالي؛ لأنه كان يجري بجانب المرتَفَع المُشيَّد
عليه جامع عمرو بن العاص، ثم ابتَعَد عنه على توالي الزمن نحو
خمسمائة متر.
٤
وكان العسكر يحدُّه جنوبًا كوم الجارح حيث تمتدُّ الآن قناطر
المجرى (العيون)، وشمالًا شارع مراسينا إلى ميدان السيدة زينب حيث
كانتْ قناطر السِّباع
٥ أمام المَشْهَد الزَّيْنَبِي، وغربًا بين شارعَي
السَّدِّ والديورة، وشرقًا خط تصوُّري يمتدُّ من مصطبة فرعون بجوار
مسجد الجاولي بشارع مراسينا إلى باب السيدة نفيسة المعروف قديمًا
بباب المجدم (راجع أيضًا «خطط المقريزي»، أول، ص٣٠٥، وثانٍ،
ص٢٦٥).
واستمرَّتْ دار صالح بن علي منذ بنائها ينزلها الأمراء، وكانت
فيما بين جامع أحمد بن طولون وكوم الجارح («الخطط» للمقريزي، جزء
٢، ص٢٦٤). فلمَّا كانتْ سنة ١٤٦ هجرية/٧٦٣ و٦٤م ظهرتْ دعوة بَنِي
الحسن بن عليٍّ بمصر فاتَّفَق جماعةٌ ممَّن بايَعوا لعلي بن محمد
أنْ يَسيروا إلى المسجد الجامع
٦ بالفسطاط ويستولوا على بيت المال،
٧ فعَمَدوا إليه وانتَهَبوه وتضاربوا بسيوفهم، وعلم أمير
المؤمنين أبو جعفر المنصور ذلك، فكتب إلى يزيد بن حاتم والي مصر
وقتئذٍ يأمرُه بالتحوُّل من العسكر إلى الفسطاط وأن يجعل الديوان
في كنائس القصر.
٨
(٢) القصر والميدان
لمَّا قدم أحمد بن طولون من العراق أميرًا على مصر سنة
٢٥٤ﻫ/٨٦٨م نزل دار الإمارة بالعسكر، وكان لها باب إلى الجامع،
ولمَّا ضاق عليه العسكر لكثرة أتباعه وحاشيته، ويحتمل أنه رآه غيرَ
حصين، تحوَّل عنه واتخذ لإقامته مكانًا منعزلًا فسيح الأرجاء، حيث
يوجد الآن ميدان صلاح الدِّين الذي عُرف بالرميلة وقره ميدان
والمنشية، وكان فضاءً يمتدُّ إلى ما وراء جامع السلطان حسن الآن،
فأمر بحرث ما فيه من قبور اليهود والنصارى واختط موضعها قصرًا
عظيمًا يحميه من ورائه الشرف الذي بُنيَتْ عليه القلعة، وكان
وقتئذٍ يكاد يكون مهجورًا، وليس في وُسعِنا تعيين موقعه على وجهٍ
أوضح من ذلك؛ لأن أقوال أصحاب الخطط عنه لم يرد فيها إلَّا أنه كان
تحت قبة الهواء التي صار مكانها قلعة الجبل
٩ («الخطط» للمقريزي، أول، ص٣١٣).
وحوَّل أحمد بن طولون السهل الممتدَّ بين هذا القصر وجبل يشكر
إلى ميدان كبير يُضرَب فيه بالصوالجة،
١٠ وتأنَّق في بنائه تأنُّقًا زائدًا (المقريزي، ثانٍ،
ص١٩٧).
واشتُهر الميدان، وغلبَ اسمُه حتى صار القصر يُعرَف به، فكان مَن
يقصد القصر إذا سُئل عن ذهابِه يقول: إلى الميدان.
وعمل للميدان أبوابًا لكل باب اسم، وهي: باب الميدان، ومنه كان
يدخل ويخرج معظم الجيش، وباب الصوالجة، وباب الخاصة، ولا يدخل منه
إلَّا خاصة ابن طولون، وباب الجبل؛ لأنه مما يَلِي جبل المقطم،
وباب الحرم، ولا يدخل منه إلا خادمٌ خصيٌّ أو حُرمة، وباب الدرمون؛
لأنه كان يجلس عنده حاجبٌ أسود عظيم الخِلْقة يتقلَّد جنايات
الغِلْمان السُّودان الرجَّالة فقط يُقال له الدرمون، وباب دعناج؛
لأنه كان يجلس عنده حاجبٌ يُقال له دعناج، وباب السَّاج؛ لأنه
عُمِل من خشب السَّاج، وباب الصلاة؛ لأنه كان في الشارع الأعظم،
ومنه يخرج عند التوجُّه إلى الصلاة، وعُرف هذا الباب أيضًا بباب
السِّباع؛ لأنه كان عليه صورة سبعَين من جبس.
وكان القصر له مجلسٌ يُشرِف منه ابن طولون على الميدان يوم العرض
ويوم الصدقة.
واختُطَّ الميدان في شعبان سنة ٢٥٦
١١ هجرية/٨٧٠م.
وكان الناس يدخلون من باب الصوالجة ويخرجون من باب السِّباع،
وكان على باب السِّباع مجلسٌ يُشرِف منه ابن طولون ليلةَ العيد على
القطائع ليَرَى حركاتِ الغلمان وتأهُّبهم وتصرُّفهم في حوائجهم،
فإذا رأى في حال أحدٍ منهم نقصًا أو خللًا أمَرَ له بما يتَّسِع به
ويزيد في تجمُّله، وكان يُشرِف منه أيضًا على البحر وعلى باب مدينة
الفسطاط وما يلي ذلك، فكان متنَزَّهًا حسنًا.
١٢
(٣) القطائع
وتقدمَّ أحمد بن طولون إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أنْ
يختَطُّوا لأنفسِهم حولَه فاختَطُّوا، واقتطع كل واحد قطيعة
ابتَنَى بها، فكانتْ للنوبة قطيعةٌ مفردةٌ تُعرَف بهم، وللرُّوم
قطيعةٌ مفردةٌ تُعرَف بهم، وبنى القُوَّاد في مواضع متفرِّقة،
فعُرف ذلك المكان بالقطائع، وعُمِّر عمارةً حسنةً، وتفرَّقتْ فيه
السِّكَك والأَزِقَّة، وبُنِيتْ فيه الطواحين والحمَّامات
والأفران، وسُمِّيت أسواقها فقيل سوق العَيَّارين، وكان يجمع
العَطَّارين والبَزَّازين، وسوق الفاميين، ويجمع الجزَّارين
والبَقَّالين والشَّوَّايين، فكان في دكاكين الفاميين جميع ما في
دكاكين نُظَرائهم في الفسطاط وأكثر وأحسن، وسوق الطَّبَّاخين،
ويجمع الصَّيارِف والخبَّازين والحلوانيين، ولكلٍّ من الباعة سوقٌ
حسنٌ عامرٌ، وامتدَّتْ هذه المباني إلى العسكر والفسطاط، حتى أصبحت
المدُن الثلاث بلدًا واحدًا عامرًا لاتصال مبانيها ببعضها، وكانت
القطائع تمتدُّ غربي القلعة، يحدُّها من الشمال خطٌّ ينطبق عليه
شارع الصليبة، ومن الغرب نواحي المشهد الزينبي، ومن الجنوب العسكر.
١٣
ويومئذٍ أُهمِلَتْ دار الإمارة التي ابْتناها صالح بن علي بالعسكر،
١٤ واستقرَّ الأمر على ذلك بعد ابن طولون أيام ابنِه
خُمارَوَيْه وولَدَيْه: حسن وهارون، وزادت العمارة بالقطائع في
أيامهما، وكثرت الناس فيها حتى قُتل هارون بن خمارويه بعد قَتْل
أبيه وأخيه، وسار محمد بن سليمان الكاتب بالعساكر من العراق من
قِبَل المكتفي بالله ووصل إلى مصر في سنة ٢٩٢ﻫ/٩٠٥م، وقد ولَّى
الطولونيةُ عليهم شيبانَ بنَ أحمد بن طولون، فتسلَّم
محمد بن سليمان البلدَ منه، وهدَمَ القصرَ وقلَعَ أساسَه، وبِيعتْ
أنقاضُه وخرب موضِعُه، حتى لم يَبْقَ له أثرٌ.
١٥
وبقيت القطائع عامرةً إلى أنْ وقعت الشدَّة العظمى
١٦ زمن الخليفة المستنصِر في القرن الخامس الهجري، فخربت
هي والعسكر وظاهر مصر ممَّا يَلِي القَرافة، ثم نُقِل ما في هذه
الأماكن من الأنقاض وصارتْ فضاءً وكيمانًا فيما بين مصر والقاهرة،
وفيما بين مصر والقَرافة («خطط المقريزي»، أول، ص٣٠٥)، وقد كان
الاضمحلال بدأ فيها منذ أُنشِئَت القاهرة.
وكلُّ معلوماتنا الآن عن القصر والميدان والقطائع مستمدَّة ممَّا
كتبه المؤرِّخون؛ إذ لم يتخلَّف من آثار ذلك العهد غير الجامع
الطولوني.