الجامع الطولوني
- الطريق الأول: يُسلَك إليه من ميدان المشهد الزينبي فشارع مراسينا حتى مسجد صرغتمش بأول الصليبة حيث يُوجَد بجانب الوجهة القِبْلية من هذا المسجد سُلَّمٌ يوصل إلى الباب الغربي لمسجد ابن طولون، وإذا جاوز القادم من هذا الطريق جامع صرغتمش وجد ساحة كبيرة تخلَّفتْ من هدم طائفة من المنازل كانتْ تحجب واجهة الجامع البحرية بينه وبين الحارة التي كانتْ تُعرَف ببئر الوطاويط،٣ وفي النهاية الشرقية من هذه الساحة عطفة يُسلَك منها إلى باب المسجد الشرقي.
- الطريق الثاني: يُسلَك فيه من شارع محمد علي فالسيوفية فالركبية إلى أنْ يصل الزائر إلى مُلْتقى شارعَيْ دَرْب الحصر وابن طولون ثم ينعطف غربًا فيمرُّ بزُقاقين في صدر الثاني منهما باب المسجد الشرقي المتقدِّم ذكرُه.
وكانتْ هذه الجهة تُعرَف بخط المغاربة.
(١) السبب في إنشاء الجامع وما قيل عن بنائه في هذا المكان
كان الناس يُصلُّون في جامع العسكر، فلمَّا قَدِم ابن طولون صار يُصلِّي فيه الجمعة، ثم ضاق على المصلِّين بجنده وسودانه، وشكا أهل مصر إليه فعزم على بناء جامع، فأشار عليه جماعة من الصالحين أن يَبْنِيَه على جبل يشكر وذكروا له فضائله فأخذ برأْيهم.
قال ابن عبد الظاهر: وهو جبل مبارَك معروف بإجابة الدعاء فيه، ويُقال إنَّ الله — تعالى — كلَّم موسى عليه («صبح الأعشى»، ثالث، ص٣٤٤).
وقد اختلف الرُّواة في سبب تسميته بجبل يشكر، فقال القضاعي: يُنسَب إلى يشكر بن جزيلة من لَخْم قبيلة من قبائل العرب اختَطَّتْ عند الفتح بهذا الجبل فعُرف بجبل يشكر لذلك («خطط المقريزي»، أول، ص١٢٥، و«صبح الأعشى»، ثالث، ص٣٤٤).
ونقل الحافظ جمال الدِّين اليغموري أنَّ يشكر المنسوب إليه هذا الجبل كان رجلًا صالحًا (ابن دقماق، ص١٢٣، جزء رابع).
وعلى هذا الجبل كانتْ تُنصَب المجانيق التي كانت تُجرَّب قبلَ إرسالها إلى الثُّغور («الخطط»، أوَّل، ص١٢٥).
حديث الكنز: قال جامع السيرة الطولونية: إنَّ أحمد بن طولون بَنَى جامعَه ممَّا أفاء الله عليه من المال الذي وجَدَه فوق الجبل في الموضع المعروف بتَنُّور فرعون («الخطط» للمقريزي، ثانٍ، ص٢٦٥).
وقال المقريزي عن مسجد التَّنُّور: إنَّه بأعلى جبل المقطم من وراء قلعة الجبل في شرقيها، ويُقال إنَّ تَنُّور فرعون لم يَزَلْ في هذا الموضع بحالِه إلى أنْ خرج إليه قائدٌ من قُوَّاد أحمد بن طولون يُقال له وصيف قاطرميز وحَفَر تحتَه، وقدَّر أنَّ تحتَه مالًا، فلم يَجِدْ فيه شيئًا، وزال رسم التنُّور وذهب («الخطط» للمقريزي، ثانٍ، ص٤٥٥).
(٢) تاريخ إنشاء الجامع (لوحة رقم ٢)
وذهب آخَرون منهم أبو المحاسن بن تغري بردي وابن دقماق إلى أنَّ أحمد بن طولون شرع في بنائه في سنة ٢٥٩ﻫ/٨٧٣ و٧٤م.
وفي سنة ١٨٩٠ بينما كانت لجنة حفظ الآثار العربية تُجرِي بعض الأعمال بالجامع عُثِر بين الأنقاض على بعض قِطَع من الرخام جُمِعتْ ورُتِّبتْ فتألَّف منها اللوح الموجود الآن، وهو النصف من إحدى كتابتَيْ مارسيل.
والصحيح أنَّ قسمًا من كتابة المقياس أقدم عهدًا من كتابة تاريخ الجامع الطولوني، وهو مِن الآيات الشريفة، والكاتب له أحمد بن محمد الحاسب في سنة ٢٤٧ هجرية، وكان واردًا في هذه الكتابة اسمه واسم المتوكل وتاريخ الكتابة، ثم أُزِيل ذلك فيما بعدُ واستُبدِل ببعض الآيات الشريفة بخطٍّ أقل إتقانًا من الخط الأصلي، وكلاهما بالكوفي، ومِن السهل معرفة النص الأصلي وما استُبدِل منه بالمقابلة بين المكتوب على جدران بئر المقياس وبين ما أورده ابن خَلِّكان في ترجمة أبي الردَّاد في «وفيات الأعيان»، ج١، ص٣٣٩، ولولا أنَّ هذا البحث خارجٌ عن الموضوع لشرحناه شرحًا وافيًا، وما جرَّنا إليه غير إشارة كوربت إلى قول مارسيل.
وبجانب هذه الكتابة التاريخية تُوجَد بالجامع كتاباتٌ أُخرى كبيرة الأهمية من أزمنةٍ مختلفة يُعرَف منها تاريخ التجديدات والعمارات التي وقعتْ فيه، وسيأتي الكلام عليها.
(٣) مهندس الجامع
ولمَّا أراد أحمد بن طولون بناء الجامع قدَّر له ثلاثمائة عمود، وقيل له لا تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب فتحمل ذلك، فلم يرضَ، وبلغ الخبر المهندس النصراني وهو في المطبق، فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عُمُد إلا عمودي القِبْلة، فأحضره وسأَلَه فقال: أنا أصوِّره للأمير حتى يراه عيانًا بلا عُمُد إلا عمودي القِبْلة، فأمر أن تُحضَر له الجلود فأُحضِرت وصوَّره له فأعجبه، ووضع المهندسُ يده في البناء في الموضع الذي هو فيه وهو جبل يشكر فكان يُنشَر منه ويعمل الجير ويُبنَى إلى أن فَرغ من جميعه وبَيَّضه («الخطط» للمقريزي، ج٢، ص٢٦٥ باختصار).
ولكن الذي يحملنا على ترجيح أنَّ المهندس كان عراقيًّا مُسلِمًا كان أو نصرانيًّا هو ما أثبته ابن دقماق والمقريزي بوجهٍ خاصٍّ عن هذا المسجد من أنَّ بناءه أُقِيم على مثال بناء جامع سامرا («الانتصار»، ج٤، ص١٢٣، و«الخطط»، ج٢، ص٢٦٦)، ومطابقة ذلك للواقع، كما سنُبيِّنه.
وقد شرح الكبتن كريسول هذا الموضوع جليًّا، فقال: إنه على عهد بني أُمَيَّة كانت الدولة عربيةً خالصةً، وكان يغلب على العمارة التأثير السوري واستعمال الفُسَيْفِساء البيزنطية، كما في قبة الصخرة، والجامع الأموي بدمشق، وقصير عمرة، وغير ذلك.
ثم انتقلتْ عاصمة الخلافة إلى بغداد في عهد بني العباس، وصارتْ مركزًا لتطوُّر الدولة، فغلبتْ على العمارة العربية التأثيرات الفارسية أي أساليب العمارة الساسانية والعراقية.
ولمَّا جاء ابن طولون من سامرا إلى مصر حمل معه كلَّ تقاليدها.
(٤) الصلاة في الجامع
(٥) وصْف الجامع ومساحته وتقسيمه
وقد قال الأستاذ فان برشم: إنَّ هذين المسجدين اتَّفقا في الوضْع الأفقي، ولكن هذا لا يقوم دليلًا على ما كان عليه وضْع المساجد قبل الجامع الطولوني.
وما هو بكلٍّ مِن مؤخَّره وجانبَيْه بلاطتان، وحول بلاطات المؤخَّر والجانبَيْن؛ أي مِن الجهات الشمالية الشرقية والشمالية الغربية والغربية الجنوبية، ثلاثة أروقة خارجية تُعرَف بالزيادات مسطَّحها مع جدرانها ٩٠٣٧٫٣٠٧ مترًا.
وقد ذكر ابن دقماق الأروقة الخارجية باسم الزيادات، وأَوْرد سببًا لبنائها، فقال: إنَّ الجامع ضاق على المصلِّين فقالوا لأحمد: نريد أن تَزِيد لنا فيه زيادةً، فزاد فيه هذه الزيادة بظاهره (ج٤، ص١٢٣).
وممَّا يدلُّ على أنَّ الأروقة مِن هذا القَبِيل اتُّخِذتْ في غير هذا المسجد قول سلادين في موجزه الفن الإسلامي «العمارة» (ص٩٠): إنَّ الجامع الأعظم بسوسة ببلاد تونس منعزل مثل جامع ابن طولون بأروقة جانبية.
ومِن ذلك دارٌ كانت أمام واجهة الجامع الشرقية، ولها — على ما جاء في قول المقريزي وأبي المحاسن — بابٌ من جدار الجامع يُسلَك منه إلى المقصورة المحيطة بمصلَّى الأمير بجوار المحراب والمنبر، وكان يُقال لها دار الإمارة؛ لأنَّ أحمد بن طولون كان ينزل بها إذا راح إلى صلاة الجمعة فيجلس فيها ويجدِّد وضوءه ويغيِّر ثيابَه.
ولقد كان مثل هذا الترتيب موجودًا في جامع قرطبة الأعظم، وهو من بناء عبد الرحمن الداخل. قال ابن بشكوال: وليس لهذا الجامع في القبلي سوى باب واحد بداخل المقصورة المستجدَّة في قِبْلته متصل بالساباط المفضي إلى قصر الخلافة، منه كان السلطان يخرج من القصر إلى الجامع لشهود الجمعة («نفح الطيب» أول، ص٢٥٧، طبع مصر بالمطبعة الأزهرية).
وقد كان بهذه الحارة قبل اليوم بنحو أربعين سنة تجاه سور هذا الرِّواق دُور قديمة جميلة تَسُرُّ الناظرين بما حَوَتْه واجهاتها من المشربيات العديدة المختلفة الرسم المحملة على حرمدانات أو كوابيل وماوردات من خير ما أخرجه الصانع وأبدعه في صناعة الخرط والتفريغ، وذلك بجانب إتقان البناء في هذه الوجهات والعناية بتقسيمها وتوزيع الفتحات فيها، وما في وضْع الشبابيك والمصبَّعات والأبواب ذات الرسم الجميل، زيادةً على تنوُّع النقوش المتَّخَذة في حجارتها ممَّا يعز وصْفه ويُحزِن الآنَ فَقْدُه.
والظاهر أنَّ هذه الدُّور كانتْ مسكنًا لمَن يتولَّوْن أمور الجامع الطولوني لمَّا كان زاهيًا زاهرًا، وكان يقصدها هُواة الفنِّ للتمتُّع بمنظرها ورسمها وتصويرها باعتبار أنَّها من النماذج النادرة التي تمثِّل الحارات القديمة بالقاهرة (لوحة ٤).
أسوار الجامع وأبوابه
بجدران الأروقة الثلاثة الخارجية
-
٥ بجدران الرِّواق الخارجي الشمالي الشرقي.
-
٥ بجدران الرِّواق الخارجي الجنوبي الغربي.
-
١ بجدران الرِّواق الخارجي الشمالي الغربي (وربما كان عدد الأبواب في الأصل أكثر من ذلك).
-
١ بالجنوب الشرقي في منتصف نهاية الرِّواق الشمالي الشرقي، وهو المدخل المُستعمَل الآن، ولا يُوجَد ما يُستَدَلُّ منه على قِدَمه.
بجدران المسجد
-
٦ بالجدار الشمالي الشرقي.
-
٦ بالجدار الجنوبي الغربي.
-
٤ بالجدار الشرقي: اثنان يُسلَك منهما إلى خلوتين على يمين وشمال المنبر، ويليهما بابان آخَران أحدُهما مسدودٌ مكانه.
-
٥ بالجدار الشمالي الغربي.
ولا يبعد أنْ تكشف أعمال التخلية المنتظر إجراؤها حول المسجد عن بقايا يُستَدَلُّ منها على أبوابٍ أخرى.
الآجُرُّ
وفي الروايات المتواترة عن الجامع نُسِب إلى أحمد بن طولون أنَّه لمَّا أراد بناءه قال: أُريد أنْ أَبْنِيَ بناءً إنِ احترقتْ مصر بقِيَ، وإنْ غَرِقَتْ بقِيَ، فقيل له: يُبْنَى بالجير والرماد والآجر الأحمر القوي النار إلى السقف، ولا يُجعَل فيه أساطين رخام؛ فإنَّه لا صبرَ لها على النار، فبناه هذا البناء … (ابن دقماق رابع، ص١٢٣، و«الخطط» للمقريزي ثانٍ، ص٢٦٦)، ويُؤخَذ من ذلك أنَّ البناء بالآجُرِّ في ذلك الوقت لم يكن شائعًا كثيرًا، ولا ينقض ذلك ما وُجِد بالفسطاط من بقايا أبنيته المشيَّدة بالآجُرِّ فإنها لا ترجع إلى ما قبل العصر الطولوني.
والمعروف في تاريخ العمارة أنَّ المصريين كانوا يستعملون اللَّبِن في العهد القديم بدليل وجوده بوفرة في أطلال مصر، ومع ذلك فإنَّه لم يبلغ ما كان عليه عند الأمم الآسيوية من الانتشار بسب قِلَّة المحاجر التي تُستخرَج منها الكُتَل العظيمة عندهم على عكس مصر فإنَّ فيها الجرانيت والسماق، وقد وُجد في مصر بعض طرقٍ كانتْ تُعَدُّ لنَقْل المهمات والمواد اللازمة لتشييد بعض الأهرامات مبنية باللَّبِن، وكانت الأهرامات في الغالب تُبْنَى نواتها من الطوب وتُكْسَى بالحجر.
وفي جامع ابن طولون الآجُرُّ أحمر غامق جيِّد الحريق، ويبلغ مقاسه في الغالب ٠٫١٨ × ٠٫٠٨ × ٠٫٠٤ وهو مبنيٌّ مداميك متناوِبة أديه وشناوي، وأعني بالأول في اصطلاح البنَّائين مدماك أحمال تُرَصُّ بطول الطوبة على امتداد الجدار، والثاني مدماك أسهل تُرَصُّ بعرض الطوبة عموديًّا على طول الجدار وتُبسَط عليه المونة، ولحام الآجُرِّ بعضه مع بعض منتظمٌ ثخينٌ، أُخِذَ مقاسه فوُجِد أنَّ كل خمس طوبات بلحامها تساوي ٣٦ سنتيمترًا في المتوسط من ذلك اللحام الأفقي ثلاثة سنتيمترات والرأسي ١٨ ملليمترًا وثخانة الطوبة ٤٤ ملليمترًا في المتوسط، والمعروف في الأبنية البيزنطية أنَّ اللحام يزيد عن ثخانة الطوب.
الأرجل أو الدعائم
(راجع اللوحات رقم٣ و٦) لم يقتصر ابن طولون على بناء الجدران والأسوار فقط بالآجُرِّ، بل بَنَى بها أرجُلًا اتخذها بدلًا من العُمُد ليرفع عليها الأقواس أعني الطارات، على عكس ما في جامع عمرٍو.
أما عن صبر الرخام على النار فقد قال الأستاذ فان برشم: إنَّ تسلُّط النيران على ما بالقاهرة من العُمُد الرفيعة التي لم تُهَيَّأ بإتقان يُعرِّضها حالًا للعطب، ونحن لا نُنكِر أنَّ الدَّعائم إذا كانتْ ثخينةً من الآجُرِّ تكون مقاومتها أكبر، ولكن نسبة بقاء الجامع سليمًا حتى الآن إلى ذلك فقط لا يؤيده ما نشاهده في الجوامع الكبيرة بالقاهرة، فإنَّ جامع الحاكم وجامع بيبرس الأول الكائن بميدان الظاهر اتُّخِذتْ لهما الدعائم، وقد أُصِيبا بعَطَبٍ شديد والأول منهما اندثر كله تقريبًا، ولمَّا نبحث عن السبب يجب ألَّا ننظر في طريقة بنائهما فقط، بل يتحتَّم علينا أنْ نُراعِيَ أمورًا أخرى كبنائهما على أرض غير ثابتة وعبث الجند بهما.
وقد أراد الأستاذ فان برشم بالأرض الثابتة الصخر المشيد عليه الجامع، فإنَّ معظم الأساس — إنْ لم نَقُلْ كله — قائمٌ عليه، وقد ظهر من الأعمال التي أُجْرِيتْ في الجهة الغربية أنَّ الطبقة الصخرية قريبةٌ جدًّا من مستوى بلاط الجامع، وتبلغ أحيانًا مستوى أرض الصحن.
والقوائم منشورية الشكل، في زواياها الأربع عُمُد لطيفة من الآجُرِّ مندمجة فيها عُمِلتْ للتحلية لأنَّ الدعامة كلها هي الحاملة للثقل، وقواعد الدعائم من الطراز السابق على العهد الإسلامي، ولهذه القوائم أمثلة كثيرة في أبنية العصور التالية لعهد ابن طولون.
التيجان
وقد نفَى فرنسوا بنوا هذا الخبر، واعتبرَه من الأساطير، وقال: إنَّ التاج الكورنتي كان معروفًا قبل كالليماخوس، وقد اتخذه أكتيوس على أحد العُمُد بمعبد فيجاليا، ومع ذلك فإنَّ الشَّبَه بينَه وبين بعض التيجان المصرية معروف («العمارة» تأليف فرنسوا بنوا، ص٣٦٥ و٣٦٦).
الأقواس أو العقود
قال لين بول في المذكرات الملحَقة بكتاب لين الذي عنوانه «المصريون المعاصرون»: إنَّ أوَّل مرةٍ عمَّ فيها استعمال العِقْد الستيني (المهموز) في بناية على ما نعلَمُه الآنَ هو عندَ العرب في مصر، وإنَّه صار فيها الميزة التي تُعرَف بها أحسن عماراتهم، والدليل الناهض على أنَّ هذه العقود اتُّخذتْ لأوَّل مرةٍ بكثرة هو وجود هذا الجامع الذي يرجع إنشاؤه إلى سنة ٢٦٣ﻫ وكلُّ عقوده ستينية، وقد بقِيَ هذا الجامع، وهو أقدم بناء عربي بَحْت، على أصله إلى اليوم ولم يتغيَّر؛ وعلى ذلك يكون نموذجًا لم يُمَسَّ على نَقِيض جامع عمرٍو.
ثم قال: وقد أصبح البحث عن أصل العقود الستينية، بل وعن العِقْد نفسِه من المسائل الأركيولوجية الممتِعة، وما يُوجَد من النماذج الفردية لهذا العِقْد في المباني السابقة للجامع الطولوني لا يُؤثِّر على الواقع، وهو أنَّ هذا الجامع أقدَمُ مثالٍ وُجِدتْ فيه العقود الستينية بصفة مميز للبناية.
وقد تناول الأستاذ فان برشم الكلام على ما إذا كانتْ هذه العقود من مبتكرات العمارة العربية، وهل لها صلة بالهندسة الغوطية، فقال: قامتْ بعض نظريات تَنقُصُها قوةُ الحُجَّة عن استعمال العقود المنكسرة بهذا النظام في القرن الثالث الهجري، ذهب واضِعوها إلى أنَّ هذه العقود من مبتكرات الهندسة العربية، وأنَّ الهندسة الغوطية شرقية الأصل، ولكنَّ التمسُّك بهاتين النظريتين آخِذٌ في التحوُّل؛ إذ ظهرَ اليومَ أنَّ انكسارَ العِقد من المميِّزات الثانوية في العمارة، وأنَّ العقود المنكسرة مخلَّفة منها أمثلة من كل العصور التاريخية في جميع البلدان المتمدْيِنة، ومع التجاوُز عمَّا في المباني العتيقة في مصر وآشور فليس من المتعذِّر — وإنْ قلَّت الأدلة — وجودُ أمثلةٍ سابقة تدنو كثيرًا من العِقد الطولوني، كما في طاق كسرى مثلًا؛ فإنَّ العقود المنكسرة موجودة فيه، ويفوق ذلك في الأهمية أمرٌ غَفَل عنه المؤرِّخون الذين كتبوا عن جامع ابن طولون، وهو وجودُ العِقد المنكسر في العمارة القبطية البيزنطية؛ ومِن ثَمَّ يصعب اعتبارُ عقود الجامع من المبتكرات، على أنَّ العمارة الإسلامية نفسَها لم تَخْلُ من أمثلةٍ سابقةٍ، مِن ذلك عقود مقياس النيل ومجرى أحمد بن طولون، وهي من بناء مهندس الجامع نفسِه، ومَن يعلم بالضبط الوقت الذي بُنِيتْ فيه العقود المنكسرة في المسجد الأقصى وعقود الجامع الكبير الأموي بدمشق.
ويقع مبدأ هذه العقود في الجامع الطولوني على ارتفاع ٤٫٦٤م من الأرض وقِمَّتها على ارتفاع قدره ٣٫٧٠م من عند المبدأ، أما سَعَتُها فإنَّها ٤٫٥٦م وهي مُرتَدَّة ارتدادًا خفيفًا من الجانبين بشكل ظاهر.
الزخارف
وتتكوَّن هذه الزخارف من نقوش عربية جميلة، أساسُها خطوط متشابِكة، وإنْ لم تبلُغْ من الرُّقِيِّ ما صارتْ إليه الزخارف العربية فيما بعد، كما في جامع وقبة قلاون مثلًا، أو في جامعي الناصر محمد والسلطان حسن، وبالأخص في منارة جامع الناصر.
وقد قال ستانلي لين بول في كتابه «تاريخ القاهرة» (ص٧٩) عن هذه الزخارف إنَّها لم تُصَبَّ في قوالب كزخارف قصر الحمراء، وإنما هي من نقشِ يدٍ ماهِرةٍ نتبيَّن فيها الفرقَ بين عمل الفني والصانع، وفي الواقع أنَّ ما بالجامع الطولوني منها عليه مسحةٌ من اللَّطافة لم نَجِدْها فيما بين أيدينا من رسوم الحمراء، وقد وصَفَها كوربت بك وصفًا حسنًا.
ويُلاحَظ أنَّ اتِّخاذ الزخرفة بهذا المسجد من الجِصِّ يُخالِف المُتَّبَع في بلاد الشام؛ لأنَّ الزخرفة في دمشق وأورشليم على كثرتها قوامها الرخام الجيِّد الثمين والمعادن والفُسَيْفِساء.
الإزار
(راجع اللوحة رقم ٦) وما بين الطراز السابق والسقف إزار من ألواح خشبية بعضها تحت بعض، وفي الوَسَط من الإزار كتابة من الآيات الشريفة تُنْبِئُ بأنَّها من عصر إنشاء الجامع؛ لأنَّها من الكوفي المربع الساذج الخالي من التشجير والتوريق، وقد نُقِشَتْ حروفُها بارزةً وليستْ قِطَعًا منفصلةً ومُسَمَّرةً في الخشب كما ظنَّه كوربت بك، ويبلغ ارتفاع كلِّ حرفٍ منها ١٩ سنتيمترًا، وهي طرفة فريدة في علم الخط تتمثَّل فيها الابتكارات العربية الخالِصة التي أَخَذَتْ تترقَّى فيما بعدُ إلى أنْ وصَلَتْ بالكتابة إلى المقام الأول بين مميزات الزخرفة العربية.
ولا يغرب عن البال أنَّ الكتابة رُكنٌ عظيم من أركان الزخرفة العربية بجانب الزخارف المستقيمة الخطوط والزخارف المنحنية، ومن المعلوم أنَّ مِن هذه الأركان الثلاثة تتألَّف الزخرفة العربية.
وقد لُوحِظ في بعض هذه الكتابات استعدادُها للتحوُّل إلى زخرفة.
قال كوربت بك: والظاهر أنَّ هذا الإزار هو الذي روى المقريزي في شأنه تلك الأسطورة التي تُنُوقِلتْ بعده وبالَغ فيها بعض المؤلِّفين المتأخِّرين حتى رَوَوْها كأنَّها من الحقائق، على أنَّ المقريزي مع أنَّه مؤرِّخ عربي قديم كان إذا ما روى الشيء الذي من هذا القَبِيل قدَّره ولم يقطع بصحته، وقد نَقَلَ هذا الخبرَ على الوجه الذي يَلِيق به ولم يَذْكُرْه كأنَّه مصدِّقٌ له، فقال: «ورأيتُ مَن يقول إنَّه عمل له منطقة دائرة بجميعِه من عنبر، ولم أرَ مصنفًا ذَكَرَه إلَّا أنَّه مُستَفاض مِن الأفواه والنَّقَلة.» أمَّا في عصرنا فقد زِيد فيه حتى صار يؤكَّد أنَّ القرآنَ كلَّه كُتِب حول الجامع بحروفٍ من العنبر.
ونفى كوربت بك احتمال كتابة القرآن كلِّه في الإزار، وبيَّن ما يمكن أنْ يَسَعَه منه، فقال: إنَّ الكتابة ١٩٨٨ مترًا، وفي كلِّ متر تسعة حروف، فتكون حروف الإزار ١٧٨٩٢ حرفًا، ومجموع الحروف التي يحتوي عليها القرآن الشريف ٣٢٣٦٧١ حرفًا، كما ذكره ثقات المؤلِّفين، فإذا قسمنا هذا المجموع على ١٧٨٩٢ كان خارج القسمة ١٧؛ وعلى ذلك لا يكون في الإزار غير ١/١٧ من القرآن الشريف.
السقف
البوائك أو حبل الطارات
وهذه السُّرَر كلها على وجه التقريب بسيطة وعلى بداءة، وإذا قيل إنَّها من عمل لاجين، فتكون — كما قال كوربت بك — منقولة عن أصل تنطبق عليه انطباقًا تامًّا؛ لأنَّ العصور المتأخِّرة لم يتخلَّف منها شيء من هذا القَبِيل، ولاجين الوارد ذكره هنا هو الملك المنصور حسام الدين، وإذا وافقنا كوربت بك على أنَّ هذه الزخارف قد تكون له فما ذلك إلَّا لأنَّه أَجْرَى بالجامع عمارةً كبيرة أَوْرد لها المقريزي خبرًا في «خططه» نذكره في كلامنا على التجديدات والعمارات، والشيء الوحيد الذي يرسم في ذهننا أثرًا من نظام الصحن في هذا الجامع إنما هو الصحن الكبير بالجامع الأزهر سنة ٣٦١ﻫ/٩٧١م، إلَّا أنَّ العُمُد هناك تحلُّ محلَّ الأرجُل، وكان بدائر الصحن شُرُفات كالتي على الأسوار، لا يزال بعضها موجودًا عليه.
الطاقات٤١
ومن البَدَهي أنَّ هذا الوصْفَ لا يَسْري على النهايتين الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية من مقدَّم الجامع ومؤخَّره؛ لأنَّ الدعائم تُقاطِع صدر الجدار، كما هو واضح في الرسم الأفقي، والطاقات تقع الواحدة منها بين صَفَّيْن من الدعائم، كما أنَّ الطراز الأفقي هناك تقطعه الدعائم.
ويغلب على الظن أنَّ معظم الشبابيك الجصية المركبة على الطاقات لا ترجع إلى ما قبل العمارة الكبيرة التي أُجْرِيَتْ في الجامع في القرن الثالث عشر.
قال هرتس باشا: ويؤيِّد ذلك أنَّ زخرفة باطن شبابيك الجامع الطولوني هي عين زخرفة مدفن قلاون.
وقد صادف أثناء كتابتي هذا البحث أنْ زارني جناب مستر كريسول فعلمتُ منه أنَّه ما زال بين طاقات الجامع ذات الشبابيك الجصية القديمة، وهي ثمانون: أربعٌ من طرز خاص قوام رسمها دوائر متشابكة، وهذا الشكل نفسه يُرَى في زخرفة بواطن العقود بحبل الطارات الغربي، ولم يُعرَف شيءٌ من هذا القَبِيل في الآثار المتأخِّرة عن عهد الجامع الطولوني؛ وهو لذلك يعتقد أنَّ هذه الشبابيك الأربعة ترجع إلى زمن ابن طولون، وجميعها بجدار القِبْلة، وهي التي تقع في العَدِّ تحت رقم ٥ و٦ و١٥ و١٦، إذا عددنا الطاقات من الشمال إلى اليمين.
وفي اللوحة التاسعة (أ) رسم إحدى الطاقات الأربعة منقولة عن صورة فتوغرافية من رسم جناب مستر كريسول.
ولمَّا نكون في الأروقة الخارجية نرى جدران المسجد فيها الطاقات مصفوفة بطول امتداد وجهاتها، لا يُحِيط بعقودها طراز ولا زخرفة (لوحة رقم ٥).
المحراب الكبير
(لوحة رقم ١١) لم يكن بالجامع على عهد ابن طولون غير المحراب الكبير الموجود الآن، وهو منحرفٌ عن سَمْتِ محراب الصحابة.
وقد أفاض المقريزي في هذا الموضوع، ويَحسُن بالقارئ مراجعة أقواله إذا أحبَّ الاستزادة (راجع «الخطط» ثانٍ، ص٢٥٦–٢٦٤).
وممَّا ذكره في سبب انحراف محراب جامع أحمد بن طولون: أنَّ أحمد بن طولون لمَّا عزم على بناء الجامع بعث إلى محراب مدينة رسول الله ﷺ مَن أخَذَ سمته فإذا هو مائل عن خط سمت القِبْلة المستخرج بالصناعة نحو العشر درجات إلى جهة الجنوب، فوضع حينئذٍ محراب مسجده هذا مائلًا عن خط سمت القِبْلة إلى جهة الجنوب بنحو ذلك اقتداءً منه بمحراب مسجد رسول الله ﷺ، وقيل إنَّه رأى رسول الله ﷺ في منامه وخطَّ له المحراب فلمَّا أصبح وجد النمل قد طاف بالمكان الذي خطَّه له رسول الله ﷺ في المنام، وقيل غير ذلك.
روى المقريزي ذلك ثم قال: «وأنت إنْ صعدتَ إلى سطح جامع ابن طولون رأيتَ محرابَه مائلًا عن محراب جامع عمرو بن العاص إلى الجنوب، ورأيتَ محراب المدارس التي حدثَتْ إلى جانبه قد انحرفتْ عن محرابِه إلى جهة الشرق، وصار محراب جامع عمرٍو فيما بين محراب ابن طولون والمحاريب الأخرى.»
والتيجان الأربعة من الرخام المفرَّغ كل اثنين منها متشابهان، وهي دقيقة الصُّنْع من الطرز البيزنطي القديم ومِن أحسَنِه صنعًا.
منها التاجان الجوَّانيان من النوع الذي على هيئة السلال وعليهما صحفتان من أجمل المصنوعات فيهما الحوافي منقوشة على مثال التيجان الكورنتية، وعلى أحد التاجين حلزون صغير أو كعكة، وهو من مميزات التيجان اليونانية.
أما التاجان الآخَران فإنهما من طرز عتيق مندثِر صحفتاهما منقوشتان نقشًا عميقًا ولهما رفرف على شكل العصابة التي تُتوَّج بها الكرانيش القديمة، وما عدا ذلك من التفاصيل من البيزنطي الخالص.
وقد تفنَّن الصانع في نقْش ذلك إلى حدِّ الإفراط، فأتى بالمعجز في التوريق، وتمكَّن من الحصول على الظل في عمق كبير.
وإذا نظر الإنسان إلى التزهير الموجود في التاجين الأوَّلين وإلى كيفية عمل السلة والتوريق في التاجين الآخَرين تصوَّر أنَّ ما يراه من الجِصِّ لا من الرخام، وتجويف المحراب مجلَّل بألواح من الرخام الملوَّن الأحمر والأبيض والأسود والأخضر، والألواح ليستْ عريضة ومصفوفة بعضها بجانب البعض تتخلَّلها هنا وهناك أشرطة رفيعة من الرخام.
قال الأستاذ فان برشم: وهذه الفُسَيْفِساء نادرة جدًّا بالقاهرة، ولا يُعرَف منها غير ثلاثة نماذج صغيرة في المحاريب: بهذه القِبْلة، وفي مدرسة قلاون ٦٨٤ هجرية/١٢٨٥ ميلادية، وفي مدرسة أقبغا بالأزهر الشريف ٧٣٤–٧٤٠ هجرية/١٣٣٣ و١٣٣٤–١٣٣٩م.
وهي في محراب الجامع الطولوني ترجع إلى سنة ٦٩٦ هجرية/١٢٩٦م، إذا كانت من عمل لاجين.
والظاهر أنَّ صناعة الفُسَيْفِساء لم تُتَّخَذ في مصر أبدًا، ولم تُتداوَل فيها باستمرار، وهو بحثٌ جديرٌ بأنْ يُعنَى بالبحث فيه، وممَّا يُستَغرَب له أنَّ تلك النماذج الثلاثة رُكِّبتْ في بحر نصف قرن، وقد رُوعي في التذهيب والتوريق بهذه الفُسَيْفِساء الزخرفة لا النقل عن الطبيعة. وفي مدرسة قلاون (المنصورية) فرعٌ مورَّقٌ خارجٌ من آنية من فُسَيْفِساء («منشورات المعهد الفرنسي» المجلد ٥٢، ص٧٦) من قَبِيل الزخارف المُتَّخَذة من الفُسَيْفِساء بجامع عمر ببيت المقدس، ولكنَّها أدنى منها منزلة.
وفوق ذلك القبو عليه كسوة من ألواح رقيقة من الخشب مكسورة في عدَّة مواضع وعليها زخارف زهرية لم يُحكَم وضْعُها.
أمَّا قطاع عقده المكندج المزدوج فقد علَّق عليه الأستاذ فان برشم بأنه يبتعد قليلًا عن قطاع عقود الجامع التي تكلَّمنا عليها، ويقترب في شيء من الشبه للقطاع الفاطمي.
ومن أهم ما يلفت النظر في المحراب الكتابة الكوفية المتوَّج بها؛ لأنَّها جميلة للغاية، وهي على لوح من الخشب ثخانته ثلاثة سنتيمترات، جرى الكاتب في وضْعها على الطريقة التي عُمل بها الإزار بأنْ قطع ما حول حروفها من اللوح فلم يَبْقَ سواها، وهي من الكوفي البسيط مكتوبٌ فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ.
وعبد الحاكم هذا من قُضاة مصر في القرن الرابع، وقد ذُكر في كتاب «رفع الإصر عن قُضاة مصر».
هذا المحراب المبارَك مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدُّنيا والدِّين لاجين سلطان الإسلام.
وفي الصف الثالث من حبل الطارات بجانبَيْ سُدَّة المبلغ محرابان آخَران من الجِصِّ اعتبرَهما فلوري من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) (لوحة رقم ١٢ب).
والمحراب الخامس من الجِصِّ أيضًا، وهو في جدار القِبْلة على يسار المحراب الكبير، اشتُهر باسم محراب السيدة نفيسة، وقد زُيِّن صدرُه ودائرُ عِقْده بنقش بعض الآيات الشريفة بالكوفي المشجر، أمَّا إطاره فإنَّه منقوش بقلم النسخ القديم.
وقد ظن كوربت بك أنَّه مِن عَمَل لاجين أو محمد الناصر، ويقول فان برشم برجوعه إلى القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
المنارة
(لوحة رقم ١٣ حرف أ وب، ولوحة رقم ١٤ حرف أ وب): هذه المنارة من أغرب ما يستوقف الأبصار في الجامع، وتُعَدُّ من الألغاز؛ لأنَّها مبنيةٌ على شكلٍ لا نظيرَ له في المنائر بجميع الأقطار الإسلامية، وهي تتكوَّن من ثلاث طبقات، واحدة فوق الأخرى: قاعدة مربعة، فطبقة أسطوانية، تعلوها طبقة مُثَمَّنة، ويبلغ ارتفاع قمَّتها عن أرض الجامع ٢٩ مترًا، وليس وجه الغرابة فيها يرجع إلى تربيعها؛ فإنَّ كثيرًا من المنائر قواعدها مربعة، بل لقِصَرها وضخامتها أي لانعدام التناسُب فيها بين قطاعها الأفقي وطولها، ووجود مراقِيها من الخارج على شكل مدرج حلزوني، وهي قائمة في الرِّواق الخارجي الغربي على بعد ٥٫٣٦ متر وراء جدار المسجد الخارجي، وتسعة أمتار شمالًا من محوره، وهذا الوضْع لا يجعل بينها وبين مجموع بناء الجامع علاقة، وفيما بين الجزء البحري من بنائها وبين جدار المسجد عِقْدان كبيران على شكل حدوة الفرس تبلغ فتحتهما ٤٫٠٤م، وينتهيان من الجهة البحرية على استقامة الجانب البحري من بناء المنارة بالذات، وهما مبنيان من جهة جدار المسجد بكيفية تدل دلالة ظاهرة على أنَّهما خارجان عن نظام البناء الأصلي؛ لأنَّهما عند اتصالهما به يصادفان طاقتين من طاقات المسجد يقطعانهما في وَسَطَيْهما، والعِقْدان يربطهما ببعضهما سقف مستدير من الحجر مرفوع من طرفَيْه على أربع كُتَل مستطيلة من الحجر والبناء، وهي مُتَّخَذة على هيئة أكتاف مسندة إلى جداري المسجد والمنارة وأصلها من أبنية أخرى.
ومع أنَّ العِقْدين مبنيان — على ما يَظهَر — من نفس حجر المنارة بطريقة واحدة إلَّا أنَّ حجارة العِقْدين أحكم وضْعًا من حجارة المنارة، ومع مشابهتهما أيضًا من حيث الشكل للعقود المسدودة المُتَّخَذة في أجناب قاعدة المنارة، فإنَّهما مجرَّدان من الحلية التي تُحِيط بهذه العقود والعِقْد الذي على مدخل السُّلَّم بأسفل المنارة، وزيادة على ذلك تستند رِجْل العِقْد القِبْلي على جانب سُلَّم المنارة مما يدلُّ على أنَّ الاثنين قد بُنِيَا في وقتين مختلفين، وهناك علامات أخرى ظاهرة لمَن يتأمَّل في البناء تدلُّ على أنَّ الجدار الذي يربط العِقْد الشرقي بالمنارة لم يكن هو وجدار المنارة في الأصل حائطًا واحدًا.
وقد أدَّتْ هذه الملاحظات التي أبداها كوربت بك وتتبَّعَها الأستاذ فان برشم واقتبسناها منهما إلى استنتاج أنَّ العِقْدين ليسا جزءًا من التصميم الأصلي للمنارة وأنهما بُنِيا في زمن متأخِّر ليكون بين المنارة وبين المسجد صلةٌ، وقد عُنِي بذلك عناية كبيرة لحفظ التناسُق بين العِقدين وبين الجزء الأصلي.
ثم قال كوربت بك: ومِن ثَمَّ تَظهَر المنارة التي أمامنا بسبب انعدام الاتصال بينها وبين المسجد واختلاف المواد المبنية بها وشكل عقودها — بل بكل جزئية يمكننا ملاحظتها — كأنَّها تُعلِن عن نفسِها بأنها غريبةٌ عن بناء المسجد، وأنَّها — وهو الواقع — ليستْ من عَصْره.
وهذا الخبر لا أشك في أنَّه من الأقاصيص المخترَعة، غير أنَّه يدلُّ على أنَّ المنارة كانتْ منسوبةً لابن طولون، وأنَّ شكلها الخاص لَفَتَ نظر الناس إليها، ولو صدَّقناه وجدناه يحوم حول المنارة بالذات كأنْ لا علاقة لها بالمسجد؛ لأنَّ مَغزَى الخبر نفسِه واضحٌ في أنَّ شكل المنارة لم يُفكَّر فيه إلَّا بعد بناء الجامع.
على هذا النَّحْو ختم كوربت بك قولَه متردِّدًا في نسبة المنارة لابن طولون، مع أنَّه يَمِيل إلى القول بأنَّها من عصر فاطمي.
وقد علق فان برشم على الشطر الأخير بقوله: إنَّ البقايا الموجودة من المنائر الفاطمية الكبيرة هي التي بجامع الحاكم، ولا صلةَ بينَها وبينَ منارة أحمد بن طولون، ومن رأْيِه أنَّ المنارة لأحمد بن طولون، ولكنَّها لم تكنْ داخلةً في تصميم المهندس لمَّا بنَى الجامع، وإنَّما هي وليدة هواه.
وألْحَقَ كوربت بك قوله بملحوظ قال فيه: وبعدَ أنْ كتبتُ ما تقدَّم أَطْلَعَنِي مستر و. م كونواي على صورة برج متخرِّب من أبراج النار بفَيْرُوزَاباد في كتاب «ميديا وبابيلون وفارس» (تأليف زينائيد وأ. رجوزان، صحيفة ١٥١ و١٥٣)، فرأيتُه على شكل منارة ابن طولون، وإذا رجعنا إلى ما قيل من أنَّها بُنِيَتْ على هيئة منارة سامَرَّا لا يتعذَّر القول بأنَّها مأخوذةٌ من أصل فارسيٍّ، وأنَّ مؤذِّن ابن طولون المسلم كان يدعو إلى الصلاة فوق برجٍ بانِيه مجوسيٌّ، فتكون المنارة من أصل شرقي، ولا علاقةَ لها بالمعمار النصراني الذي أكثروا من ذكره.
ومما يلفتُ النظرَ أنَّ منارة ابن طولون، وإنْ تكن من فوقُ مستديرةً ومن تحتُ مربعةً، فالمحقَّق أنَّها كانتْ في وقت من الأوقات أكثَرَ شبهًا بمنارة سامَرَّا عمَّا هي عليه الآن (راجع المقريزي، ج٢، ص٢٦٧، وابن دقماق، ج٤، ص١٢٤، وأبا المحاسن، ج٢، ص٨ و٩) وقد رَوَوْا عن أحمد بن طولون حكاية الدرج الأبيض، وهذه الحكاية نفسها مُتداوَلة عن المنارة الملوية بسامَرَّا، على أنَّه إذا انطبق ما جاء فيها من الوصْف على المنارة الملوية فإنَّه لا ينطبق على منارة ابن طولون، كما هي الآن، وهذا يُفضِي بنا إلى السؤال الآتي:
هل أُدْخِلتْ على المنارة تعديلات؟ الجواب: نعم؛ لأنَّنا إذا بحثْنا نَجِدُ أنَّ العِقْدين الموجودين على شكل حدوة الفَرَس اللَّذَيْن يَصِلان المنارة بالمسجد يرجعان إلى زمن متأخِّر؛ لأنَّ هناك شباكين يقطعانهما في مرورهما، وإذا اعتبرنا — ولنا الحق — أنَّ القاعدة المربعة والعِقْدين المتصلين بالجامع عهدهما متأخِّر، فما هو العصر الذي يُعَيَّن لهما؟
قال ناصر خسرو، وقد زار القاهرة في خلال سنة ١٠٤٧ و٤٨: إنَّ أولاد ابن طولون باعوا الجامع للحاكم في أيَّامِه بمبلغ ٣٠٠٠٠ دينار، وبعد قليلٍ شرَعوا في هدم المنارة، ولمَّا سُئِلوا في ذلك قالوا: إنَّهم لم يبيعوها، وعند ذلك ألْزَمَهم الخليفة بأنْ يستردُّوا الجامع (راجع ترجمة شيفر، ص١٤٥ و١٤٦)، والمحتمل أنْ تكون المنارة حصل فيها تجديدٌ وقتئذٍ، ولو أنَّ مؤرِّخي الجامع سكتوا عن هذا الموضوع، وعلى أيِّ حال كانت المنارة بحالة سيئة لمَّا لجأ لاجين إليها.
ثم قال مستر كريسول: ومن المناسب أنْ نَنظُر فيما إذا كان شكلها الحالي يرجع إلى ذلك الوقت، وعلَّق على ذلك بأنَّ هناك علامتين متبايِنَتَيْن تدلَّان على ذلك؛ الأولى: عِقْدان على هيئة حدوة الفَرَس وهما اللذان ذكرناهما فيما تقدَّم، وعِقْد من قَبِيلهما بنهاية السُّلَّم (لوحة رقم ١٤ حرف أ)، وأربعة أزواج من العقود المسدودة بالوجوه الأربعة من المربع التحتاني من المنارة، والأعمدة اللولبية المضلَّعة المُتَّخَذة كحوامل في الوَسَط لثلاثة من العقود المذكورة؛ لأنَّ العقود التي من هذا القَبِيل ظهرتْ لأول مرة في مدرسة وتربة قلاون ٦٨٣ و٨٤ هجرية، فوق المدخل، ووُجدتْ عقود منها على منارة هذه المدرسة ومنارة مدرسة تربة سلار وسنجر الجاولي ٧٠٣ هجرية، ثم قال: ومن المحتمل جدًّا أنْ يكون قسم من التغييرات التي وقعتْ في المنارة من ضمن الأعمال التي أَجْراها لاجين في سنة ٦٩٦ هجرية، وكذلك النهاية التي على هيئة المبخرة الموجودة الآن تتَّفِق مع هذا التاريخ (راجع «السلسلة التاريخية» لكريسول، ص٤٦–٤٨).
ولمَّا أُزِيلَت المباني الملاصِقة للمنارة وانكشَفَ جانبُها تبيَّنَ أنَّ الحجارة المكوَّنة منها المداميك لم تُنحَتْ سطوحها، وأنَّ هناك فرقًا عظيمًا بين مباني الجامع والمنارة.
- أولًا: أنَّ البناية على امتداد النقب كله من نوع واحد.
- ثانيًا: أنَّه لا يُوجَد فاصلٌ في أجزاء البناء بين خارج البناء وداخله.
- ثالثًا: لم تُصادَف أيةُ علامة يُستَدَلُّ منها على وجود بناء داخلي أسبق في العهد من البناء الظاهري.
وقد تقدَّم أنَّ مستر كريسول يَرَى أنَّ التماثُل قائمٌ بين منارتَيْ جامعَي ابن طولون وسامَرَّا، ولكن هذا التماثُل غير موجود؛ لأنَّ الشكل الظاهري يختلف في كلٍّ من المنارتين عن الأخرى اختلافًا تامًّا: فإنَّ منارة سامَرَّا مبنيةٌ من أسفلها بناءً حلزونيًّا يَدُور ستَّ دورات صاعدًا بانحدار خفيف يقوم مقام الدرج، ومنارة ابن طولون على العكس من ذلك لها قاعدة مربعة وسُلَّم خارجي مدرج بأربع قلبات وأربعة أجناب ينتهي إلى بسطة فسُلَّم حلزوني ينتهي بعدَ نصف دَوْرة يُصعَد منه إلى بسطة أخرى يستند عليها الجزء العلوي الذي على هيئة مبخرة من الطرز المعروف في أبنية العصر الأيوبي.
وقد ذهب مستر كريسول أيضًا فيما ذكره إلى أنَّ المنارة الأخيرة من بناء ابن طولون واستند في نظريته على رواية المقريزي (جزء ثانٍ، ص٢٦٦) عن القضاعي بأنَّ ابن طولون بنَى جامعَه على بناء جامع سامَرَّا، وأنَّ هذه المنارة على رواية المقدسي من حُجَر صغيرة درجها من خارج، ولكن بعد الإيضاحات التي أَوْرَدْناها لم يَبْقَ للشك مجالٌ في أنَّ البناية الموجودة الآن ليستْ من القرن الرابع الهجري ولا الثالث.
ويظهر أنَّ مستر كريسول مُقتَنِع بحقيقة ذلك حتى أنَّه لم يتردَّد في القول بأنَّ المنارة وَقَع فيها تبديل («كرونولوجي»، ص٤٧)، على أنَّه لم يَظهَر من الاستكشاف الذي عُمل ما يمكن اعتباره تبديلًا أو ترميمًا حقيقيًّا، وأنَّ البناء مشيدٌ في وقت واحد من أسفل إلى أعلى على قاعدة واحدة، ولا بأس من أنْ نُسلِّم بما قاله المؤرِّخون من أنَّ المنارة كانتْ متخرِّبة لمَّا اختَفَى فيها لاجين في سنة ٦٩٣، ولكن يَظهَر أنَّ الأقرب إلى الاستنتاج هو أنَّه بعدَ وقوع هذا الحادث التاريخي كان من المتيسِّر هدمُ المنارة وإعادة بنائها عن ترميمها (هذه الملاحظة الأخيرة اقتبسناها من مجموعة لجنة حفظ الآثار العربية سنة ١٥–١٩، ص٢١ و٢٢، الطبعة الفرنسية).
قال الأستاذ فان برشم: ولم يكن المقرنص الذي على شكل خلايا الموجود بالطبقة العليا من المنارة معروفًا على عهد ابن طولون («مجموعة الكتابات العربية المنقوشة»، القاهرة، ص٧٥ من المجلد الثاني والخمسين من منشورات المعهد العلمي الفرنسي).
وقال أيضًا في موضع آخَر: إنَّ الشَّبَه متوفِّر بين هذه المنارة ومنار الإسكندرية الذي رمَّه أحمد بن طولون المتواتِر ذكره في المؤلَّفات التاريخية العربية، والذي وصفوه بأنَّه «ثلاثة أشكال: فقريبٌ من النصف وأكثر من الثلث مربع الشكل بناؤه بأحجار بِيض، ثم من بعد ذلك مُثَمَّن الشكل مبنيٌّ بالحجر والجِصِّ، وأعلاه مُدوَّر» (مقريزي، ج١، ص١٥٧)، ومنارة ابن طولون بهذا الوضْع إلَّا أنَّ الدَّوْر الثاني أسطواني.
وكان بأعلى المنارة مركب من نحاس تُعرَف بالعشاري، وهي مرسومة في اللوحة التاسعة والعشرين من أطلس كتاب «وصف مصر».
قال المقريزي: «والعامَّة يقولون: إنَّ العشاري الذي على المنارة المذكورة يَدُور مع الشمس، وليس صحيحًا، وإنَّما يَدُور مع دوران الرياح.»
قال كوربت بك: والظاهر أنَّ هذه الفوَّارة لم تكن مخصَّصةً للوضوء، وإنما اتُّخِذتْ زينةً في الصحن، وقد رُوِيَ أنَّ ابن طولون لمَّا فرغ من بناء الجامع قال رجلٌ: ليستْ له ميضأةٌ، فقال له: أمَّا الميضأةُ فإنِّي نظرتُ ما يكون بها من النجاسات فطهَّرتُه منها، وأنا أبْنِيها خلْفَه، ثم أمَرَ ببنائها.
وفي ليلة الخميس لعشرٍ خَلَوْن من جُمَادَى الأُولى سنة ستٍّ وسبعين وثلاثمائة (٩٨٦م) احترقَتِ الفوَّارة فلم يَبْقَ منها شيءٌ.
وفي كل جانب من الجوانب الأربعة من البناء عِقْد كبيرٌ لا ارتداد فيه مبنيٌّ بالآجُرِّ المجلَّل بالجِصِّ، والظاهر أنَّ هذه العقود لم يكن تحتها أبواب بل كان البناء مفتوحًا في جوانبه الأربعة، والأرض مفروشة بالرخام وأكثره ألواح طويلة شُقَّتْ من عُمُد.
أمَرَ بإنشاء هذه القُبَّة المبارَكة والفسقية والساعات الشريفة مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدُّنيا والدِّين لاجين المنصوري، في سنة ستٍّ (؟) وتسعين وستمائة (١٢٩٦ ميلادية).
أمَرَ بعمل هذه الساعات بالجامع المعروف بأحمد بن طولون تغمَّده الله برحمته في سنة ٦٩٦.
(كوربت بك في «المجلة الآسيوية» سنة ١٨٩١، ص٥٤٥، و«منشورات المعهد العلمي الفرنسي» المجلد ٥٢، ص٧٦، و«خطط المقريزي» بتصرف).
(٦) بعض العمارات والتجديدات التي أُجْرِيَتْ بالجامع
عمارة بدر الجمالي
بسملة … (٢) نصرٌ من الله وفتحٌ قريب لعبد الله ووليِّه معدٍّ أبي تميمٍ الإمام المستنصِر بالله أمير المؤمنين صلواتُ الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين (٣) أمَرَ بتجديد هذا الباب وما يَلِيه عند عُدْوان النار على ما أبْدَعَه المارِقون فيه السيِّد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام أبو النجم بدر المستنصري (٤) أدام الله قدرتَه وأعلى كلمتَه ابتغاءَ ثواب الله وطلب مرضاته، وذلك في صفر سنة سبعين وأربعمائة، الحمد لله وصلواته على سيِّدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليمًا.
(راجع اللوحة رقم ١٦).
وتدل هذه الكتابة وإنْ كانت غير صريحة على أنَّ الحوادث العظيمة التي جَرَتْ على عهد المستنصر في الشِّدَّة العظمى، وقد أشَرْنا إليها فيما تقدَّم، نال منها جامع ابن طولون نصيبَه لمَّا ثار الأتراك والعَبِيد وتجمَّعوا لمحاربة بعضهم مرارًا ظهر في آخِرِها الأتراكُ وهزموا العبيدَ إلى بلاد الصعيد، فاغترَّ ابنُ حمدان مقدَّمُهم وعاد إلى القاهرة وقد عَظُم أمرُه وقوِيَ جأْشُه واستخفَّ بالخليفة وخرقَ ناموسَه، وطال الفسادُ إلى أنِ انتهى بالاعتداء على القصر والمكتبة فنُهبا نهبًا بمرأًى ومسمعٍ من الخليفة، وزادتِ المصائبُ بوقوع الطاعون والجوع فالْتُهمتِ القاهرة والفسطاط، وصار الخليفة على آخِر رَمَقٍ إلى أنْ فكَّر في بدر الجمالي نائبِه بالشام فاستدعاه ليُعِيد الأمنَ إلى نصابِه فأبْحَرَ إليه في سنة ٤٦٥، وتمَّ له الفَوْزُ، وقد أشار المقريزي إلى ما تركتْه هذه الحوادث من الأثر فقال: وبسبب هذا الغلاء خرب الفسطاط، وخلا موضع العسكر والقطائع وظاهر مصر مما يلي القرافة حيث الكيمان الآن إلى بركة الحبش.
والظاهر أنَّ بعض الثائرين، وقد سمَّاهم المقريزي بالمارقين، توصَّلوا إلى الجامع وتحصَّنوا فيه فحوصِروا وأُحْرِق بسبب ذلك جزءٌ منه جَدَّدَه بدر الجمالي سنة ٤٧٠، ولمَّا تمَّ ذلك أشار إلى هذه الحوادث في الكتابة التي وضَعَها تذكارًا لعمارته.
عمارة الحافظ الفاطمي
(١) بسملة … ممَّا أمَرَ بإنشائه عبد الله ووليُّه مولانا وسيدنا عبد المجيد أبي (٢) الميمون الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين صلواتُ الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين (٣) على يد (؟؟) عبده (؟) ومملوكه القاضي المؤيَّد الأمير سراج الدِّين علَم المجتهـ[ـد]ين (كلمة) المؤمنين (كلمة) الإمام وعمدة الأحكام (٤) نظام (؟) المِلَّة وجلاله فخر الأمة وكماله (كلمة) الدولة النبوية عماد الخلافة العلوية الحافظية درًّا (٥) لمآثر والفضائل ولي أمير المؤمنين أبو الثُّرَيَّا نجم بن جعفر (كلمة) الله (١١–١٣ كلمة) وعشرين (؟) شوَّال (؟) سنة ست (؟) وعشرين (؟) [وخمسمائة].
ولقد عانَى في هذه القراءة مشقَّةً، وكان الأستاذ فان برشم حاول ذلك فلم يتمكَّن من قراءة كل الكلمات على صحة فاستدرك ذلك الأستاذ فييت (راجع تعليقاته في «منشورات المعهد العلمي الفرنسي» المجلد ٥٢، ص٨٢ وما يليها).
وكان سراج الدين أبو الثُّرَيَّا بن جعفر قاضي القُضاة بالقاهرة من جُمادَى الثانية سنة ٥٢٦ إلى شوَّال أو القعدة سنة ٥٢٨، وفي هذا التاريخ قَتَلَه حسن ابن الخليفة الحافظ لمَّا تغلَّب على الأمر، وقد وردَ ذِكْرُه في كتاب «رفع الإصر عن قضاة مصر» لابن حجر العسقلاني.
اتخاذ الجامع مأوًى للغُرَباء: قال الرحَّالة الشهير أبو الحسين محمد بن أحمد بن جُبَيْر الكِنَاني الأندلسي البَلَنْسي عند ذكْرِه هذا المسجد الكبير أنَّ السلطان صلاح الدِّين يوسف جعَلَه «مأوًى للغُرَباء من المغاربة، يسكنونه ويُحلِّقون فيه، وأجْرَى عليهم الأرزاق في كل شهر. قال: ومِن أعجب ما حدَّثنا به أحَدُ المتخصِّصين منهم أنَّ السلطان جعل أحكامَهم إلَيْهم ولم يَجْعَل يدًا لأحدٍ عليهم، فقدَّموا من أنفسِهم حاكمًا يمتثلون أمرَه ويتحاكَمون في طوارئ أمورِهم عندَه، واستَصْحَبوا الدَّعَة والعافية وتفرَّغوا لعبادة ربهم، ووجدوا مِن فضْل السلطان أفضلَ مُعِين على الخير الذي هم بسبيله.» وقد عُرِفَتْ بهم الجهة التي بها الجامع فكانتْ تُسمَّى «خط المغاربة»، وكانت رحلة ابن جبير إلى مصر في سنة ٥٧٨ هجرية.
عمارة حسام الدِّين لاجين
وقال المقريزي: لمَّا قُتل الأشرف بناحية تروجة في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكان ممَّن وافق الأميرَ بيدرًا، قاتِلُه الأميرُ حسامُ الدِّين لاجين المنصوري والأميرُ قراسنقر، فلمَّا قُتِل بيدر في محاربة مماليك الأشرف فرَّ لاجين وقراسنقر من المعركة فاختَفَى لاجين بالجامع الطولوني، وقراسنقر في داره بالقاهرة، وصار لاجين يتردَّد بمفرده على الجامع وهو حينئذٍ خرابٌ لا ساكِنَ فيه وأعطَى اللهَ عهدًا إنْ سلَّمَه من هذه المحنة ومكَّنَه من الأرض أنْ يُجَدِّد عمارةَ الجامع ويجعل له ما يقوم به، ثم إنَّه خرج منه في خفيةٍ إلى القرافة فأقام بها مدةً وراسل قراسنقر فتحيَّل في لحاقه به، وعملا أعمالًا إلى أنِ اجتمعا بالأمير زين الدين كتبغا المنصوري وهو إذ ذاك نائب السلطنة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون القائم بأمور الدولة كلها فأحضرَهما إلى مجلس السلطان بقلعة الجبل بعد أن أتقن أمرهما مع الأمراء ومماليك السلطان فخلع عليهما وسار كلٌّ منهما إلى داره وهو آمِنٌ، فلم تَطُلْ أيامُ الملك الناصر في هذه الولاية حتى خلَفَه الأمير كتبغا، وجلس على تخت الملك، وتلقَّب بالملك العادل فجعل لاجين نائب السلطنة بديار مصر، وجرتْ أمورٌ اقتَضَتْ قيام لاجين على كتبغا وهو بطريق الشام ففرَّ كتبغا إلى دمشق واستَوْلَى لاجين على دست المملكة، وسار إلى مصر وجلس على سرير الملك بقلعة الجبل، وتلقَّب بالملك المنصور في المحرم من سنة ست وتسعين وستمائة، فأقام قراسنقر في نيابة السلطنة بديار مصر وأخرج الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى كرك الشوبك فجعله في قلعتها، وأعانَه أهل الشام على كتبغا حتى قَبَض عليه وجَعَله نائب حماة فأقام بها مدة سنين بعد سلطنة مصر والشام، وخلع على الأمير علم الدين سنجر الدواداري وأقامَه في نيابة دار العدل وجعل إليه شراء الأوقاف على الجامع الطولوني، وصرف إليه كل ما يحتاج إليه في العمارة وأكَّد عليه ألَّا يُسَخِّر فيه فاعلًا ولا صانعًا وألَّا يُقِيم مُستَحِثًّا للصُّنَّاع، ولا يشتري لعمارته شيئًا مما يحتاج إليه من سائر الأصناف إلَّا بالقيمة التامَّة، وأنْ يكون ما ينفق على ذلك من مالِه، وأشهَدَ عليه بوكالته، فابتاع منية أندونة من أرض الجيزة، وعُرِفتْ هذه القرية بأندونة كاتب مصر كان نصرانيًّا في زمن أحمد بن طولون، وممَّن نكبه وأخذ منه خمسين ألف دينار، واشترى أيضًا ساحةً بجوار جامع أحمد بن طولون ممَّا كان في القديم عامرًا ثم خرب وحكرها، وعمر الجامع وأزال كل ما كان فيه من تخريب وبلَّطه، وزاد لتحسين المحراب الكبير — على ما يظهر — التعديلات التي أُدْخِلتْ عليه على ما بيَّنَّاه في وصْفه، وأنشأ القُبَّة التي فوقَه أو الجزء السُّفلي منها على الأقل.
أمَرَ بتجديد هذا الجامع مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدُّنيا والدِّين لاجين.
وهي معروضة بدار الآثار العربية.
وقد ذهب البعض إلى أنَّ ما بقِيَ من سقف المسجد هو من عمل لاجين لقول ابن إياس: إنَّ الجامع كان خربًا بغير سقف مدة ١٧٠ سنة (ج أول، ص١٣٦)، ولكن مَن يتأمل في طرز هذه البقايا يميل لنسبتها إلى عصر إنشاء المسجد، وما عدا ذلك جدَّدَتْه لجنة حفظ الآثار العربية في أوائل القرن الرابع عشر الهجري.
وكان منبر لاجين لا يزال في محلِّه كامِلًا في سنة ١٨٤٥ ميلادية لمَّا حضر إلى القاهرة مستر جيمس ويلد أمين متحف سوان بلوندرة وتمكَّن من فحصه ورسمه رسمًا دقيقًا، ومَن يطَّلِع على هذا الرسم يرى أنَّ المنبر كان يحتوي في كل جانبٍ على شكل هندسي دائري كبير في وَسَطه نجمة تُحِيط بها ثمان حشوات كبيرة مُثَمَّنة تتبادل بين نجوم وأشكال عربية، وبأعلى الشكل وأسفله أنصافٌ من أربعة أشكال من الرسم نفسه، ثم امتدَّتْ إليه الأيدي ونزعتْ منه حشواته المُتَّخَذة من الساج الهندي «التك» والعظم والأبنوس.
(١) أمَرَ بعمل هذا المنبر المبارَك مولانا السلطان (٢) الملك المنصور حسام الدُّنيا والدِّين لاجين (٣) المنصوري، وذلك في العاشر من صفر من شهور (٤) سنة ست وتسعين وستمائة (١٢٩٦م) أحسن الله عاقبتها.
وعلى باب المنبر كتابةٌ أخرى باسم لاجين في لوحٍ آخَر تشتمل على تاريخ إنشاء المنبر، والنص واحد، ويُؤخَذ من هذا التاريخ أنَّ لاجين بمجرَّد جلوسه على كرسي السلطنة في يوم الإثنين ٢٨ محرم/ ٢٦ نوفمبر من تلك السنة شرع في الوفاء بنذره.
والقِطَع الأخرى مزخرفة بنقوش مشجرة مورقة من شغل ممتلئ عريض (ميجون «الفن الإسلامي»، ص١٠٤).
وفي كتاب رونيه المسمَّى «أيام في القاهرة» صورة منقولة عن بعض تفاصيل المنبر (رسم ١، دوزا في سنة ١٨٣٠م).
وفي سنة ١٩٠٥ ميلادية أهدى مسيو جودفروي بروار من فلورنسا لدار الآثار العربية ست قِطَع من حشوات المنبر، وكان قد حضر إلى القاهرة سائحًا، وهو من المُولَعين بالآثار، فرأى عنده هرتس باشا اثنتي عشرة قطعة من هذه الحشوات، وكان قد اشتراها، ولمَّا عرف منه أنَّها من المنبر أهدى لدار الآثار القِطَع الست المذكورة، والباقي سلَّمَه لهرتس باشا ليصنع مثله.
وفي سنة ١٩٠٨ ميلادية في مرور هرتس باشا بفينا رأى في متحف الفنون والصنائع بعض حشوات من الخشب المنقوش مكتوب عليها ما يُفهَم منه أنَّها مأخوذة من سقف جامع ابن طولون، فأدْرَك أنَّها لا بدَّ أن تكون من المنبر، وطلب من المتحف أنْ يُرسِل له من الحشوات صُوَرًا فتوغرافية بالحجم الطبيعي ليتمَّ منها ما ينقص من أجزاء المنبر الأصلية، وقد أُجِيبَ إلى طلبه، فاجتمع عند اللجنة ما يُساعِد على إرجاع هذا الأثر النفيس إلى أصْله، وقد تمَّ ذلك، وأُعِيد المنبر إلى ما كان عليه.
على البدن
- السطر الأول، بقلم نسخ متوسط: ممَّا عُمل برسم الجامع المعمور ببقاء سيد ملوك المسلمين مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدُّنيا والدِّين أبي (ابن) عبد الله لاجين الذي تقرَّب إلى الله تعالى بعمارته.
- السطر الثاني، بالنسخ الدقيق: المعروف بابن طولون تقبَّل الله منه ذلك، وأحسن إليه في الدُّنيا والآخِرة، وجعله في صحائف حسناته.
على الرقبة
- السطر الثالث، بالقلم السابق: تقرَّب بوقْفيَّته على جامع ابن طولون في المحراب.
- السطر الرابع، بالقلم نفسه: العبد الفقير إلى الله تع شادي ابن شيركوه أثابه لله تعالى الكبير.
وتلَتْ عمارةَ لاجين عماراتٌ جزئية، منها: أنَّ القاضي كريم الدِّين الكبير جدَّد في الجامع مِئْذَنتين في عهد الناصر (مقريزي ج٢، ص٢٦٩)، وقد ذكرناهما فيما تقدَّم.
وفي سنة ٧٠٢ﻫ/١٣٠٢م لمَّا نُكِبت القاهرة بالزلزال وسقط كثيرٌ من جوامعها القديمة لم يُصَبِ الجامع الطولوني بشيءٍ مُهِمٍّ على ما يَظهَر (كاترمير «السلاطين المماليك»، ج٢، (٢)، ص٢١٤ وما بعدها).
وقد أغفل المقريزي وابن دقماق المحلَّ الذي كانتْ به، ولم يذكرا عنها إلَّا أنَّها كانت في مؤخَّر الجامع (ابن دقماق، ج٤، ص١٢٣، ومقريزي، ج٢، ص٢٦٩).
وفي سنة ٩٣٠ هجرية/١٥٢٣ ميلادية أنشأ شخصٌ يُعرَف بشرف الدِّين المديني على يسار المنارة الكبيرة مُصلًّى وتربةً على بابِها قطعةٌ من الخشب منقوش فيها كتابة بهذا المعنى.
إنَّ وقوع هذا الأثر الجليل العريق في القِدَم فريسةً للخراب يَرْجِع إلى كلوت بك؛ لأنَّه أرادَ أنْ يجعَلَه ملجأً فأقام سُدودًا من بناءٍ رديءٍ بين الدعائم وفتح فيها نوافذ فتحوَّلت الأروقة إلى مساكن وأصبح من المتعذِّر رؤية الجامع كله ورسم تفاصيله المهمة.
والإنسان لا يكاد يملك نفسه عن انتقاد هذا الاعتداء الفظيع المحجوب تحت ستار الرغبة في عمل الخير.
ثم صدرتْ إرادة سَنِيَّة بنقْل الملْجَأ إلى مارستان بولاق، وقد لَبِثَ الجامع بعد ذلك مدَّة طويلة مهجورًا يُعرَف بالتكية لهذا السبب.
وفي عهد الفاطميين كانت الخطبة تُقام في جامع الحاكم والجامع الأزهر وجامع أحمد بن طولون وجامع مصر. ولمَّا استبدَّ السلطان صلاح الدِّين يوسف بن أيوب بالسلطنة عمل بمقتضى مذهب الإمام الشافعي — رضي الله عنه — وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلد واحد، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر وأقرَّ الخطبة بالجامع الحاكمي من أجل أنه أوْسَع، فلم يَزَل الجامع الأزهر مُعطَّلًا من إقامة الجمعة فيه نحو مائة عام إلى أيام الملك الظاهر بيبرس فأُعِيدت الخطبة فيه بعد أنْ أُخِذتْ فتوى العلماء بجواز الجمعة فيه («خطط المقريزي»، جزء ثانٍ، ص٢٤٤ و٢٧٥ و٢٧٦).
وقد فهِمَ الأستاذ فان برشم من هذه الألفاظ ما يتَّفِق مع هذا القول («مجموعة الكتابات المنقوشة القاهرة»، أول، ص٣٨، رقم ٣).
ولكن جناب الأستاذ فييت مدير دار الآثار العربية بالقاهرة يستبعد في تعليقاته المدوَّنة في منشورات المعهد العلمي الفرنسي في المجلد الثاني والخمسين ص٨٠ و٨١، أنْ يَبْنِيَ ابن طولون الجامع من أموال لم تكن مِلْكًا خالصًا له، وعلى الخصوص أموال الدولة، ويعني بذلك أنَّه بناه من مالٍ لم يكن من قَبِيل مال الفيء الذي هو للدولة، وأشار إلى أنَّ منشئي الجوامع كانوا يَحرِصون على التنْويه بذلك في الكتابات العربية المنقوشة على الآثار، فكان المنشئ ينقش عليها في الحجر ما يدلُّ على أنَّ ما أنشَأَه أنفَقَ عليه من خالِص مالِه، أمَّا الألفاظ التي وردتْ في كتابة الجامع التاريخية فإنَّها مُقْتَبَسة من القرآن الشريف (آية ٦ و٧ سورة ٥٩ التي هي سورة الحشر)، وتجيء نادرًا لأنَّ الفيء ضريبةٌ تُجْبَى بلا قتال، والمتداوَل في النقوش التاريخية: «من ماله»، أو: «من خالِص مالِه»، أو: «من فيض نِعَم الله على عبده»، أو: «ممَّا أنْعَم الله على …»
وقد ذكر الأستاذ فييت كتابة أخرى ترجع إلى سنة ٧٢٥ هجرية وردتْ فيها تلك الألفاظ، وهي منقولة من جامع المهمندار بالقاهرة، ونصُّها: «أمَرَ ببناء هذه التُّرْبة والمسجد المبارَك من خالِص مالِه ممَّا أفاء الله عليه وطيَّبه لجماعة المسلمين ابتغاء رضوان الله والدار الآخِرة …» («مذكرات المعهد العلمي الفرنسي»، المجلد ٥٢، ص٨٠ و٨١).
وهذا الاعتراض وجيهٌ، وإنما يلاحظ أن ليس ما يمنع بناء المسجد من مال الفيء، خصوصًا وأنَّ جامع ابن طولون أُقِيم لضرورة ضِيق العسكر على المصلِّين، وفي بنائه مصلحة عامَّة، ويجوز أن يكون ما أُنفِق عليه من نصيب ابن طولون في الفيء.
على أنَّ بناء المساجد من الفيء معروفٌ، وورد في الخبر الآتي: أنَّ عمر بن عبد العزيز أرادَ أنْ يُجَرِّدَ ما في قِبْلة مسجدِ دمشقَ من الذَّهَب، وقال: إنَّه يَشغَل عن الصلاة، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنَّه أُنفِق عليه من فيء المسلمين وأُعْطِياتهم، وليس يجتمع منه شيءٌ يُنتَفَع به، فأراد أنْ يُبَيِّضَه بالجص، فقيل له: تُذهِب النفقات فيه، فأراد أنْ يَسْتُرَه بالخزف، فقيل له: ضاهَيْتَ الكعبة، فبينما هو كذلك إذ ورد عليه وَفْدٌ من الرُّوم فاستأذنوا في دُخُولِه فأَذِن لهم وأرسلَ معَهم مَن يَعرِف الرُّومية، وقال: احفظوا ما يقولونه، فلمَّا وقفوا تحت القُبَّة قال رئيسُهم: كم للإسلام؟ فقالوا: مائة سنة، قال: فكيف تصغِّرون أمرَهم؟ ما بَنَى هذا البنيانَ إلَّا مَلِك عظيم، وأتى الرسولُ عمرَ فأخبَرَه، فقال: أمَّا إذْ غايَظَ العدوَّ فدَعْه، وهذا صريحٌ في أنَّهم كانوا يُنفِقون على المساجد من الفيء («مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، ص١٩٢ ج١).